أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عماد الطيب - الإنسان الأخير في زمن الخراب الناعم














المزيد.....

الإنسان الأخير في زمن الخراب الناعم


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 13:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


وهكذا، بينما كان أورويل يحذّر من عالمٍ تُقمع فيه الروح عبر أدوات مباشرة، أصبحت حضارتنا تمارس القمع عبر أدوات أكثر نعومة وفتكاً: عبر الترفيه المفرط، والتشتت، والضجيج، والمقارنات، والسباق المفتوح نحو لا شيء. نحن الضحايا الذين لا يشعرون بأنهم ضحايا، والمقهورون الذين يتوهمون أنهم أحرار لأن بيدهم هاتف ذكي.
لكن الشواهد التي تدعم عبارة أورويل لا تأتي من عالم السياسة أو التكنولوجيا وحده، بل من الإنسان ذاته. فالإنسان حين يُربّى على الخوف يفقد قدرته على الخلق، وحين يُربّى على الكراهية يفقد قدرته على الحب، وحين يُربّى على القسوة يفقد قدرته على العطاء. وما الحضارة إلا امتداد روحي للسلوك البشري؛ فإذا كان الإنسان هشّاً، جباناً، محمّلاً بالكراهية، ومستسلماً للقسوة، فإن الحضارة التي يبنيها ستكون انعكاساً دقيقاً لهذه الصفات.
يكفي أن نلاحظ أن المجتمعات الأكثر تقدماً تقنياً ليست بالضرورة الأكثر تقدماً إنسانياً. بل إنّ الكثير منها يعيش فقرًا عاطفيًا خانقاً، وعزلة اجتماعية خانقة، وانهياراً في الروابط الأولية التي تُبنى عليها الحضارات: الأسرة، الثقة، الصداقة، المعنى، الروح المشتركة. إن حضارة لا تمتلك سوى التكنولوجيا ليست حضارة، بل آليّة تعمل وحدها بلا قلب.
الإنسان الذي يتربّى على الخوف لا يستطيع أن يبتكر؛ لأنه يخاف من الخطأ. والإنسان الذي يتربّى على الكراهية لا يستطيع أن يتعاون؛ لأنه يرى الآخر عدواً قبل أن يراه شريكاً. والإنسان الذي يتربّى على القسوة لا يستطيع أن ينهض بحضارة؛ لأن الحضارة تحتاج إلى رعاية لا إلى إذلال، إلى بناء لا إلى قمع. من هنا نفهم لماذا قال أورويل إن الحضارة لا يمكن أن تقوم على هذه الدعائم: لأنها ببساطة تقتل إمكانية الإنسان قبل أن تقتل الإنسان نفسه.
ومن الشواهد الحيّة على ذلك أنّ كل الأنظمة التي بُنيت على الخوف انتهت إلى السقوط، وكل المجتمعات التي سارت بالكراهية انتهت إلى تمزّق، وكل المؤسسات التي قامت على القسوة انتهت إلى الانهيار الداخلي. التاريخ شاهدٌ يعيد نفسه بإصرار: الحضارات التي حكمتها القوة سقطت بالقوة، والحضارات التي حكمتها الأخلاق بقيت رغم ضعفها الظاهري.
لذلك، حين نقول إنّ حضارتنا الحديثة منهارة قبل أن تولد فنحن لا نبالغ. نحن نعيش حضارة تُفاخر بذكائها الاصطناعي بينما هي عاجزة عن فهم الإنسان الطبيعي. حضارة ترفع شعارات حقوق الإنسان بينما تُعيد إنتاج الظلم بأكثر الطرق نعومة واحترافاً. حضارة تُعلن أنّها حررت البشر بينما جعلتهم سجناء هواتفهم، وآرائهم الرقمية، ومخاوفهم المتلاحقة.
ومع ذلك، فإنّ التشخيص ليس حكماً نهائياً، بل دعوة لليقظة. ففي كل إنسان شرارة صغيرة تستطيع أن تُعيد ترتيب معاني الحياة: الشجاعة بدلاً من الخوف، المحبة بدلاً من الكراهية، الرحمة بدلاً من القسوة. الحضارة ليست مشروعاً سياسياً ولا اقتصادياً، بل مشروع إنساني يبدأ من الفرد وينتهي إلى العالم.
إنّ ما قاله جورج أورويل ليس تحذيراً فقط، بل بوصلة: حضارة بلا خوف، بلا كراهية، بلا قسوة… حضارة تُبنى على الحرية، على المعرفة، على الرحمة، على الاعتراف المتبادل بالإنسانية. وما لم نعد إلى هذه الأسس، فإنّ كل ما نبنيه اليوم سينهار غداً، ليس لأنّ العالم قاسٍ، بل لأنّ الإنسان تخلّى عن أجمل ما فيه.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاعلام الحربي الناعم
- عبث العطاء في عالم بلا جذور
- وهم المكانة وحقيقة الآخر
- عراقٌ مُعَطَّل
- حين تمطر… يغرق الوطن في قطرة
- لستُ بخير
- مسافات الآمان
- شيوخٌ تقتل النخوة
- حين يبلغ الرجل ستينه… يسقط القناع الأخير
- الحرية في جناح عصفور
- اعترافات القلب… وانسحابات الروح
- إعلانات ساذجة في زمن الفوضى الرقمية
- الكوكايين السلوكي: كيف نحمي جيلنا من الهاوية الرقمية؟-
- كل الغياب يعود الا انت
- دعينا نلتقي
- انتم الخراب الذي يمشي على قدمين
- رفض تاريخي آخر: لماذا تبتعد المرجعية عن لعبة الكراسي؟
- ماض لن يعود .. كوجه جميل غادره الضوء
- أحملك بقلبي وأدفنك بصمتي
- جمال الموت


المزيد.....




- زينة العيد في حي بنيوجيرسي.. رجال ثلج عمالقة تجمع بين البهجة ...
- الأردن.. الأميرة رجوة الحسين تحضن ولي العهد بصورة الملك والع ...
- مصر.. بيان رسمي يوضح حقائق عن تسرب الأمطار وحجز التذاكر وأسع ...
- -ثاني رضيع يتوفى في يومين-.. فلسطيني يحمل جثمان حفيده بعد في ...
- إنهاء برامج لمّ شمل العائلات لـمواطني 7 دول: أمريكا تحدد موع ...
- ويتكوف يطير نحو برلين للقاء زيلينسكي وزعماء أوروبيين
- الأطفال على رأس ضحايا الحرب في أوكرانيا
- ترامب يتوعد بالتدخل برا في فنزويلا لمكافحة عصابات المخدرات و ...
- ترامب وكلينتون يظهران في مجموعة جديدة من صور إبستين نشرها نو ...
- تجدد المواجهات الحدودية بين كبموديا وتايلاند


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عماد الطيب - الإنسان الأخير في زمن الخراب الناعم