ناضل حسنين
الكاتب الصحفي
(Nadel Hasanain)
الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 23:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ماذا يعني أن يجلس أربعة أحزاب عربية متباينة تحت سقف قائمة واحدة في برلمان مثل الكنيست؟
مجرد طرح السؤال يكفي كي نفهم لماذا تحولت القائمة المشتركة إلى رمز يتجاوز الحسابات الانتخابية الباردة، لتصبح مرآةً لبحث المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني عن مكانه، صوته، وحده الأدنى من الكرامة السياسية في منظومة يهودية–صهيونية الطابع.
اليوم، ومع عودة النقاش بقوة حول إعادة تشكيل القائمة المشتركة بين الأحزاب العربية المحلية الأربعة، عشية الانتخابات البرلمانية في إسرائيل المتوقعة العام القادم، يعود الأمل… ومعه كل المخاوف القديمة من أن تتحول الوحدة مرة أخرى إلى مجرد محطة عابرة على طريق التشرذم.
خلفية تاريخية: كيف وُلدت فكرة القائمة المشتركة؟
رفع نسبة الحسم والخوف من التلاشي: ولدت القائمة المشتركة في أجواء قلق حقيقي. عندما تم رفع نسبة الحسم في انتخابات الكنيست إلى 3.25%، أدركت الأحزاب العربية أن استمرار خوض الانتخابات بقوائم منفصلة يعني ببساطة خطر غياب تمثيل عربي فعلي عن البرلمان. من هنا جاءت الفكرة: قائمة واحدة تضم الجميع – الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التجمع الوطني الديمقراطي، الحركة العربية للتغيير، والقائمة العربية الموحدة (الحركة الإسلامية الجنوبية) – في تحالف غير مسبوق.
لم يكن الأمر رومانسياً كما يحب البعض أن يتخيله؛ كان هناك خوف بارد وحسابات رياضية قاسية: إذا لم نتّحد… سنخرج من اللعبة.
من هم شركاء المشروع؟
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة: حزب شيوعي–عربي–يهودي، يرفع شعارات العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية والسلام.
التجمع الوطني الديمقراطي: يحمل مشروع "دولة جميع مواطنيها" ويركز على البعد القومي الفلسطيني.
القائمة العربية الموحدة: الذراع السياسي للحركة الإسلامية الجنوبية، تمزج بين الخطاب الديني والبراغماتية المدنية.
الحركة العربية للتغيير: بقيادة أحمد الطيبي، تركز على تمثيل قضايا المواطن العربي اليومية وخطاب قانوني–حقوقي قوي.
هذا التنوع لم يكن مجرد تفاصيل في الهوامش؛ هو بالضبط ما جعل القائمة المشتركة مشروعاً صعباً… وجذاباً في الوقت نفسه.
سنوات الصعود: عند أول اختبار انتخابي، أثبتت “المشتركة” أنها أكثر من تحالف تقني. ارتفع تمثيل الأحزاب العربية من 11 مقعداً إلى 13، وقفزت نسبة التصويت في المجتمع العربي بشكل ملحوظ.
فجأة، صار الحديث عن كتلة عربية موحدة قادرة على قلب موازين الحكومات، أو على الأقل منع مزيد من القوانين العنصرية من المرور بصمت. كثيرون ممن كانوا يقولون "ما في فايدة" عادوا إلى صناديق الاقتراع. فكرة أن الصوت العربي يمكن أن يُترجم إلى قوة سياسية حقيقية بدأت تتجسد.
للمرة الأولى رأى الناس صورة مختلفة: رؤساء أحزاب من مشارب فكرية متعددة يجلسون في مؤتمر صحفي واحد، يتحدثون عن برنامج موحد، ويصوتون في الغالب ككتلة واحدة. هذا المشهد أرسل رسالة مزدوجة:
للشارع العربي: يمكننا أن نختلف… ومع ذلك نتوحد انتخابياً.
للمؤسسة الإسرائيلية: هناك عنوان عربي واحد، ليس من السهل تجاوزه أو تفتيته.
لحظة الانقسام: انفصال القائمة العربية الموحدة عن المشتركة لم يكن مجرد خطوة تنظيمية؛ كان إعلاناً عن استراتيجية سياسية جديدة بالكامل. قرر منصور عباس رئيس القائمة أن يجرب طريقاً آخر: الجلوس في ائتلاف حكومي، والحصول على ميزانيات وخطط اقتصادية، ولو بثمن تخفيف الخطاب السياسي الوطني.
هذه الخطوة أحدثت زلزالاً داخل المجتمع العربي: هناك من رأى فيها براغماتية ذكية… وهناك من اعتبرها تفريطاً بالثوابت الوطنية مقابل "تزفيت شارع وإضاءة حي". هنا بدأت المشتركة تفقد شكلها الأول، وتحولت من رمز لوحدة شاملة إلى معسكر منقسم بين نهج "الشراكة في الحكم" ونهج "المعارضة المبدئية".
انتخابات الكنيست الـ25 وثمن التشتت العربي: في انتخابات الكنيست الـ25، دفع العرب ثمن الانقسام والتعب، فتراجع التمثيل وانخفضت قدرة الصوت العربي على التأثير، بينما واصل معسكر نتنياهو واليمين صعوده مدعوماً بكتلة صهيونية متماسكة. شعور الغصّة كان واضحاً في الشارع: "اتحدتم فنجحتم… تفرّقتم فضاع الصوت بين الصناديق".
لماذا تعود فكرة القائمة المشتركة اليوم بقوة؟ ضغط الشارع العربي واستطلاعات الرأي المؤيدة للوحدة. خلال عامَي 2024–2025 تكررت استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن أكثر من 70% من المواطنين العرب في إسرائيل يفضلون رؤية الأحزاب العربية الأربع مجدداً في قائمة مشتركة واحدة. الرسالة بسيطة ومباشرة: "تقاتلوا كما تشاؤون في الغرف المغلقة، لكن أمام صناديق الاقتراع نريد ورقة واحدة تحمل صوتنا".
الحرب على غزة وتحوّل المزاج داخل المجتمع العربي: الحرب على غزة، التصعيد في الضفة الغربية، وأجواء التحريض المتزايدة على العرب داخل الخط الأخضر أعادت السؤال الجوهري إلى الواجهة: هل يليق بهذا الواقع أن يذهب العرب إلى الانتخابات منقسمين ومشتتين؟
في لحظات الخطر الوجودي، يغلب شعور الانتماء الجمعي على تفاصيل الخلافات الأيديولوجية. وهذا بالضبط ما يدفع كثيرين للقول: "الآن ليس وقت تصفية حسابات بين الجبهة والتجمع أو بين الموحدة والعربية للتغيير؛ الآن وقت جبهة واحدة قدر الإمكان".
كواليس المفاوضات: لقاء الناصرة واجتماعات "الرباعية" ورسائل الشارع - في صيف 2025، التقى رؤساء الأحزاب العربية الأربعة – الجبهة، التجمع، التغيير، والموحدة – في الناصرة لبحث إعادة تشكيل القائمة المشتركة قبل الانتخابات المقبلة. التصريحات التي رشحت من الاجتماعات حملت نبرة إيجابية: "نواصل الحوار لإقامة كتلة برلمانية قوية وموحدة تخدم مجتمعنا بكل قوة".
مَن حضر تلك الجلسات يتحدث عن ضغط جماهيري واضح: أئمة مساجد، ناشطون شباب، حركات مجتمع مدني، كلهم تقريباً يدفعون في اتجاه واحد: "اتحدوا".
شروط الحركة الإسلامية (الموحدة): لكنّ الطريق إلى الوحدة ليست مفروشة بالورد. في جولة مفاوضات لاحقة، وضعت الحركة الإسلامية (الموحدة) على الطاولة شروطاً سياسية حساسة:
تخفيف حدة الخطاب حول قضايا معينة مرتبطة بالصراع الفلسطيني–الإسرائيلي؛
أو القبول بصيغة تسمح بالانفصال عن المشتركة بعد الانتخابات، إذا قررت الموحدة الانضمام إلى ائتلاف حكومي مستقبلاً.
في المقابل، ترفض الجبهة والتجمع والتغيير أن تتحول القائمة المشتركة إلى جسر مؤقت تستخدمه الموحدة للوصول إلى الكنيست، ثم تغادر نحو حكومة قد تضم أحزاباً يمينية متطرفة.
المشاركة في الائتلاف أم تموضع دائم داخل المعارضة؟
هذه هي العقدة المركزية: هل تكون المشتركة كتلة معارضة ثابتة ترفض دعم أي حكومة لا تعترف بالحقوق الجماعية للفلسطينيين في الداخل؟ أم تكون هناك مرونة تسمح بدعم ائتلاف معين مقابل مكاسب مدنية واقتصادية كبيرة للمجتمع العربي؟
الموقف من القضية الفلسطينية وقضايا الداخل: في الجوهر، الخلاف ليس فقط تقنياً بل هويّاتي - بلد يصر على خطاب قومي جذري. الجبهة تربط بين النضال الطبقي والوطني. التغيير تحاول الحفاظ على توازن بين الوطني والحقوقي. والموحدة تسوّق نفسها كعنوان للبراغماتية والخدمات. فكيف يمكن وضع هذه الخطابات المتباينة في نص سياسي واحد دون أن يخرج مشوّهاً أو مائعا؟ هنا التحدي الحقيقي.
سيناريوهات التشكيل
السيناريو الأول هو ما يحلم به كثيرون: عودة قائمة مشتركة واحدة تضم الأحزاب الأربعة، مع برنامج يتفق على الحد الأدنى السياسي، ويترك هامشاً من الحرية لكل حزب في حملاته وخطابه التفصيلي.
هذا السيناريو يَعِدُ برفع نسبة التصويت العربي، بتعظيم حجم الكتلة البرلمانية، بإرسال رسالة قوة سياسية موحّدة. لكن ثمنه الداخلي هو قبول الجميع بمستوى معين من التنازل عن “النقاء الأيديولوجي”.
السيناريو الثاني هو قائمتان عربيتان منفصلتان: مثلاً قائمة أكثر قومية–يسارية (الجبهة + التجمع) وأخرى أكثر براغماتية–مدنية (الموحدة–والتغيير)، مع اتفاق مسبق على تشكيل كتلة برلمانية واحدة بعد دخول الكنيست، والتنسيق في التصويت على القضايا المصيرية.
هذا الخيار قد يحافظ لكل تيار على هويته الخاصة، لكنه يخاطر بإعادة إنتاج صورة الانقسام أمام الناخب العربي، وقد يربك جزءاً من الجمهور الذي يبحث عن "ورقة واحدة لا غير".
رهان نتنياهو واليمين
في الخلفية، لا يمكن تجاهل خطاب اليمين الإسرائيلي، وعلى رأسه بنيامين نتنياهو، الذي يلوح بين الحين والآخر بفكرة حظر الحركة الإسلامية (المرتبطة بالموحدة) من خلال تصنيفها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين. هذا الخطاب مزدوج الفائدة بالنسبة له: يشوه أي مشاركة عربية في اللعبة السياسية بوصفها "خطرًا أمنيًا". ويرسل رسالة ردعية للأحزاب اليهودية التي قد تفكر بالاعتماد على أصوات عربية في ائتلافاتها.
لعبة نسب الحسم وخفض نسبة التصويت العربي إلى جانب ذلك، يعلم اليمين جيداً أن: انخفاض نسبة التصويت في المجتمع العربي، مع بقاء معسكر اليمين متماسكاً، يعني عملياً تعظيم فرصة تشكيل حكومات يمينية صافية. من هنا، يصبح فشل العرب في تشكيل قائمة مشتركة هدية مجانية للمعسكر الحاكم.
ما الذي تحتاجه "المشتركة" كي تنجح؟ برنامج سياسي واضح لا يذوب في منطق "الخدمات مقابل الحقوق".
أولاً، لا يمكن لقائمة مشتركة جديدة أن تقوم فقط على شعار "نريد ميزانيات وطرقات ومناطق صناعية". نعم، هذه قضايا حيوية، لكن المجتمع العربي لا يعيش في فراغ؛ هو جزء من شعب تحت احتلال، ومن صراع على هوية المكان نفسه.
لذلك، يحتاج أي مشروع وحدة جديدة إلى: خطاب مدني قوي - أمن شخصي، إسكان، عمل، تعليم، صحة؛ وخطاب وطني صريح- رفض التمييز البنيوي، الدفاع عن الأرض والمسكن، الموقف من الحرب على غزة والضفة.
أي محاولة لطمس أحد البعدين ستُفهم كتنازل مجاني، سواء لصالح "الواقعية" أو لصالح شعارات مجردة.
تجديد الوجوه وآليات اتخاذ القرار
ثانياً، الجيل الشاب لم يعد مكتفياً بوجوه تكررت على مدار عشرين عاماً في الكنيست. يريد الناس: نواباً يتحدثون لغتهم، يستخدمون المنصّات الرقمية بمهارة، ويخضعون لآليات مساءلة حقيقية.
مجلس شورى مغلق هنا، ولجنة مركزية متصلبة هناك، لم تعُد صيغة مقنعة لجمهور تعوّد أن يكتب رأيه في تعليق فيسبوك أو تغريدة، وينتظر جواباً في اللحظة نفسها.
ثالثاً، لغة الخطاب: لا يكفي أن نُكرر أمام الكاميرا تعابير من قاموس السبعينيات. جيل "تيك توك" و"إنستغرام" يريد خطاباً مباشراً، صادماً أحياناً، لكن مستنداً إلى معلومات دقيقة وتحليل عميق. قائمة مشتركة تُعيد إنتاج اللغة الخشبية لن تعيد إلا الملل… لا الثقة.
السؤال الذي يتهرب منه الجميع هو: هل يمكن الجمع بين نهج الموحدة البراغماتي – الذي لا يستبعد دعم ائتلافات حكومية – وبين نهج الجبهة والتجمع الأكثر حدّة في الموقف من طبيعة الدولة والاحتلال؟ الجواب الصادق: نعم… لكن بشروط قاسية. أولها: الشفافية الكاملة أمام الجمهور، بلا مفاجآت بعد الانتخابات. ثانيها: وضع خطوط حمراء مكتوبة – مثلاً، عدم دعم حكومة توسع الاستيطان أو تشن حرباً جديدة على غزة. ثالثها: التزام مشترك بأن المصالح الجماعية للمجتمع العربي لا يمكن أن تُباع مقابل كرسي نائب وزير أو ميزانية موضعية.
إذا تحولت البراغماتية إلى مجرد "بيع مبدأ" ستسقط التجربة كلّها أخلاقياً قبل أن تسقط انتخابياً.
الخلاصة
القائمة المشتركة ليست مجرد ترتيب أسماء على ورقة صفراء في صندوق اقتراع؛ هي اختبار عميق لقدرة المجتمع العربي في الداخل على أن يقول: "نختلف كثيراً، لكننا حين يصل الأمر إلى وجودنا السياسي… نعرف كيف نصطفّ في صف واحد".
اليوم، مع اشتداد الأزمات – من الحرب على غزة إلى الجريمة المنظمة في البلدات العربية، مروراً بسياسات الحكومة اليمينية – تبدو الحاجة إلى صوت عربي موحّد أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
الكرة الآن في ملعب قيادات الأحزاب الأربعة: إما أن يلتقطوا اللحظة التاريخية ويصنعوا "المشتركة" أكثر نضجاً ووضوحاً، وإما أن يستمر مسلسل الانقسامات، فنعود مع كل دورة انتخابية لنكرر السؤال نفسه: "لو كانت هناك قائمة مشتركة… كم كان يمكن أن يكون عدد المقاعد اليوم؟"
في النهاية، السياسة تشبه تماماً ما يحدث في صندوق اقتراع صغير: إما أن تدخل الورقة مطوية على اسم واحد قوي، أو تتمزق بين عدة أوراق… لا يسمع لها أحد.
#ناضل_حسنين (هاشتاغ)
Nadel_Hasanain#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟