الأغنية العربية المؤجلة
-النص الغنائي العربي في رحلة البحث عن الذات –
1-الغناء ضرورة وجودية:
المغني حياة الروح يسمعها عليل تشـفيه
وتداوي كـــبد مجروح تحـــــتار الأطــباء فيـه
صعب أن نقبل بحياة صامتة، حياة بلا شدو أو غناء. الغناء وسيلة تعبير
في مونولوجاته ووسيلة تواصل في حوارياته. الغناء فيتامين ضروري
للحياة ينفس عن الكرب أو يشحذ الهمم، يلطف المجالس أو يعبؤها، يمنح
السامع فرصة التأمل والإبحار الجميل أو يدفعه إلى اتخاذ المواقف
وتبني الفعل الإيجابي. فقد يتجلى في شكل طلب المتعة واللذة :
يا شادي الألـــحان اسمعنا نغمة العيدان
واطــــربنا في الحـــال
أوفي شكل تحريض على الفعل التغييري :
انهض للثورة والثأر
انهض كهبوب الإعصار
واهتف بالصوت الهدار:
الثورة نهج الأحرار.
2- درجات الفعل الغنائي :
أما على صعيد الأداء، فيميز أهل الموسيقى بين ثلاث درجات :
1)- المغني
2)- المطرب
3)- مبدع الأغنية
المغني هو أداة صوتية بشرية منفذة لنصوص غنائية محددة.
أما المطرب، فهو أرقى درجة من المغني لقدرته على التجاوب مع الظروف الطارئة خلال
العرض الغنائي والتصحيح التلقائي ( feed-back ) والارتجال الناجح
( مواويل...). المطرب، باختصار، هو مغني له حس جمالي إضافي يمكنه من تكييف
الإلقاء الفني مع حالة الجمهور.
أما المبدع, مبدع الأغنية, فهو أعلى هذه الدرجات الثلاث على الإطلاق. إنه
حجر الزاوية في العمل الغنائي، إذ هو الذي يخرج الأغنية من ديوانها الشعري إلى جمهورها الموسيقي. قد نعثر على أغاني دون مغن (= Instrumentals)، أو على أغان دون قصائد / كلمات ...
فالمغني والشعر غيابهما عن أغنية ما محتمل، أما غياب مبدع الأغنية ( الملحن ) فمستحيل .
3- مبدع الأغنية والكاستينغ الموسيقي:
فمبدع الأغنية يقرأ النص الشعري ويستلهمه ثم يعيد إنتاجه بلغة موسيقية، ولأجل إخراجها
للجمهور يختار من بين لائحة المطربين الأنسب صوتيا وعمريا وجنسيا
( =gender )... هو أشبه ما يكون بكاستينغ موسيقى ( = casting).وأي
فشل في هذه المرحلة، مرحلة الكاستينغ، قد تفسد العمل الغنائي بأكمله وتلقي به في
مزبلة الفن والتاريخ معا.
قليلون هم المبدعون الذين يحتفظون لأنفسهم بأدوار الأداء الغنائي : جيمي هندريكس،
جيم موريسن، جاك بريل، مارسيل خليف، فريد الأطر، محمد عبد الوهاب...لكن
أغلب مبدعي الأغنية يفسحون المجال لصوت وحضور مغاير فيزيقيا وأنسب فنيا.
ومعايير هذا الاختيارينبغي لها أن تستحضر كل شيء ماعدا الزبونية والمحسوبية والوسامة ..
وإلا فما سر الحضور الأسطوري الممتد عبر الزمن لمطربين سيئي الخلقة من
أمثال : لويس أرمسترونغ, جيمس براون وغيرهما؟...
إذا ما استثنينا معيار الوسامة، فما معايير مبدع الأغنية العربية في اختيار
المطرب الأنسب لأداء نصه الغنائي ؟ وهل المبدع العربي واع بمعاييره خلال عملية الكاستينغ هذه ؟ بل هل يعترف بمرحلة مهمة في
بناء الأغنية وهي الكاستينغ؟ وهل مبدع الأغنية العربية واع بدوره الريادي
في دعم المطلب المجتمعي العام:’’ الرجل المناسب للمكان المناسب " ؟...
4- مبدع الأغنية العربية والرسالة الفنية :
إن أي عملية إنتاج عقلانية لابد أن تحدد منذ البداية أهدافها وتعي وظائفها. للأغنية ثلاثة وظائف تستمد وجودها من ثلاث مكونات رئيسية:
رسالة
(وظيفة شعرية / جمالية )
مرسل çççççççççççç مرسل إليه
( وظيفة انفعالية / تعبيرية) ( وظيفة افهامية )
لأن الرسالة الغنائية هي أصلا رسالة جمالية / شعرية فوظيفتها حتما
جمالية / شعرية تركز على الوسيلة ( الصوت، تقاسيم الآلات الموسيقية ...) قبل كل
شيء. وهذه هي الوظيفة الأساسية للأغنية لكنها لن تستطيع الاستغناء عن وظيفة ثانية لا تقل أهمية عنها وهي الوظيفة الانفعالية للأغنية : الوظيفة التي تبرز موقف المغني ووضعه الاجتماعي والعرقي واللغوي والجنسي والعمري... هذه الوظيفة الانفعالية أو التعبيرية هي التي تعبر عن موقف المغني اتجاه ما يغنيه ويتغنى به. معنى هذا أن غياب الوظيفة الانفعالية / التعبيرية، أي غياب وعي المغني بما يتغنى به، يهدم بناء الأغنية .
إن النص الغنائي مهما بلغت جماليته وشعريته يبقى نصا مجردا يبحث عن تحققه من خلال جسد يمنحه هوية ووجودا في الزمان والمكان ...
ولمبدع الأغنية العربية تاريخ مع حسن وسوء اختيار المغني المناسب، الجسد المناسب.
5- الأغنية العربية في رحلة البحث عن وظيفتها التعبيرية:
تستمد الأغنية العربية وجودها من فلسفة حياة عربية متجذرة تحتقر الجسد في جميع تجلياته ( الفيزيقية، والفنية، والثقافية، والسياسية...), وتتعامل حصريا مع القول واللفظ بعيدا عن الجسد الذي انتجهما معا :
الجسد المبدع أوجد العقل لخدمته يتحرك بإرادته ‘‘.
فريديريك نيتشه
" هكذا تكلم زارادتش "
( الترجمة العربية )
ص. 58
كما أوجد الجسد العقل في البداية، فهو ينتج النص أيضا. فكلما تغير الجسد ، تغير النص وتحول ككل إنتاج تابع . الجسد، إذن، هو منتج نصوص والوعي بقيمة الحضور الجسدي في أشكال التواصل الإنساني هو أيسر السبل للتحكم في إنتاج النص عامة، والنص الغنائي خاصة. لنتابع أغنية" أيظن " في رحلة بحثها عن الجسد الذي أنتجها، وتنقيبها عن وظيفتها التعبيرية الحقيقية.
6- أغنية *أيظن* في رحلة البحث عن الذات الأنثوية:
أغنية " أيظن" هي من نظم الشاعر نزار قباني وألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب. الأغنية هي على لسان امرأة يعود إليها حبيبها بعد طول هجر. وهي في البداية تقاوم العودة إليه مما يجعل الإيقاع الموسيقي بطيئا لكنها في الختام تنصاع وسط إيقاع سعيد بالعودة للحبيب:
كم قلت أني غير عائدة له ورجعت ما أحلى الرجوع إليه.
أين المشكلة في هذه الأغنية الرائعة شعرا ولحنا وأداء؟
1)- المشكلة بدأت مع الأداء الأول حين أقبل مبدع الأغنية الأستاذ محمد عبد الوهاب على أدائها بنفسه بصوت رجولي. فمجرد اختيار جسد للأغنية غير النص الغنائي تغييرا بنيويا, إذ انزاحت الأغنية من سياقها الغرامي السليم إلى سياق غرامي شاذ: رجل يعود إليه حبيبه بعد طول هجر وبعد تردد طويل يهلل في الختام " ما أحلى الرجوع إليه! "...
2)- وثمة قراءة ثانية مختلفة للجسد الذكوري ( = صوت محمد عبد الوهاب ) وهو يلقي أغنية " أيظن ":ففي مجتمع ذكوري كالمجتمع العربي قد يصبح فيه إلقاء ذكوري لنص هو أصلا أنثوي علامة على الإجهاز على حقوق المرأة كاملة بما فيها " الحق في البوح " بحيث يصبح الرجل لا يقرر باسم المرأة فحسب بل يتلصص حتى على أفكارها وأحاسيسها ونواياها...
ولقد شعر الأستاذ محمد عبد الوهاب بفطرته مدى جسامة الخطأ الذي اقترفه، فتدارك الأمر بعد سنين وقدم الأغنية من جديد بصوت أنثوي لائق وراقي: صوت نجاة الصغيرة التي واصلت مشوار التصحيح بإعادة أدائها لأغاني أنثوية أخرى كانت مسجلة بصوت ذكوري هو صوت محمد عبد المهاب، وهذه الأغاني هي :يا مسافر وحدك، ما أحلاها عيشة الفلاح...
تركيب
الغناء ضروري للوجود الإنساني سواء في طلبه المتعة والاسترخاء أو في سعيه لحشد الهمم والتعبئة للتغيير. لكن الأغنية لا تكون أغنية ولن تكون إلا إذا طابق نص الأغنية الجسد المتغني بها. وهذا هو الرهان الذي ينبغي على مبدعي الأغنية العربية الدفاع عليه. فالمطلب المجتمعي’’ الرجل المناسب للمكان المناسب’’ يجب أن يشمل جميع مجالات الحياة العربية بما في ذالك الغناء.