|
|
أزمة الوعي في زمن الهوية مقاربة تفكيكية
سعد كموني
كاتب وباحث
(Saad Kammouni)
الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 04:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أزمة الوعي في زمن الهويّة مقاربة تفكيكية أ.د. سعد كموني القلق الذي ينتابني من جراء الواقع الثقافي في مجتمعاتنا العربية ليس قلقًا فرديًّا ولا انفعالًا عابرًا، بل هو شعور يتغذّى من تراكم الأسئلة المؤجَّلة، والأسئلة التي لم يُسمح لها يومًا بأن تأخذ مداها. ما يحيرني، على نحوٍ خاص، هو ذلك العجز البنيوي الذي يجعل أهم المؤسسات التي يُفترض بها أن تكون مولدات للوعي ــــــــــ المدرسة، الجامعة، المسجد، الكنيسة، النوادي الثقافية والمهنية ـــــــــ عاجزة عن إنتاج تفكير حيّ، أو حتى عن استعادة الحد الأدنى من وظيفتها التنويرية. لماذا تفشل المدرسة في خلق عقلٍ قادرٍ على الربط والتحليل؟ ولماذا تعجز الجامعة، رغم كثافة الشهادات وتضخم الألقاب، عن تحرير الفكر من التقليد؟ ولماذا يتحوّل المسجد والكنيسة إلى مساحات تكرار وإعادة إنتاج للذاكرة الجمعية ذاتها، من دون قدرة على تحويل التراث إلى مشروع معرفة أو تأويل أو مساءلة؟ بل لماذا تفشل الأندية المحلية والجمعيات المدنية، التي تُرفع فيها شعارات التقدم، في تجاوز الخرافة والنوستالجيا، رغم ادّعاء الحداثة والوعي؟ إننا نعيش، على ما يبدو، حالة انفصامٍ حضاري: نمتلك مؤسساتٍ تُشبه مؤسسات العالم الحديث شكلاً، لكنها تعمل بمنطق ما قبل الحداثة مضمونًا. لدينا مدارس بلا تربية نقدية؛ جامعات بلا بحث؛ مساجد وكنائس بلا تأويل؛ أحزاب وجمعيات بلا مشروع معرفي. وهكذا تستمر الخرافة، بكل أشكالها القديمة والجديدة، في السيطرة على العقول، مهما ارتفعت الشهادات العلمية، ومهما انتقلنا بين اليسار واليمين، بين الخطاب العلماني والخطاب الديني، وبين الانتماء إلى حزب تقدمي أو جمعية ثقافية. إن السؤال الجوهري هنا ليس لماذا تنتشر الخرافة، بل لماذا لا تنتشر المعرفة؟ ولماذا—على الرغم من أننا نعيش في عالم مفتوحٍ على المعرفة—يبقى وعينا العربي أسير ذاكرةٍ متضخّمة ومخيالٍ نوستالجي يعيد تفسير الواقع على ضوء الماضي، لا على ضوء المستقبل؟ ربما تكمن المشكلة في أن مؤسساتنا التربوية والدينية والمدنية لم تُبنَ أصلًا لتنتج تفكيرًا حُرًّا، بل لتعيد إنتاج النظام الرمزي والاجتماعي نفسه. هي مؤسسات تصون الهوية أكثر مما تفتحها، وتحفظ الذاكرة أكثر مما تُفككها، وتكرّر ما هو قائم أكثر مما تخلقه من جديد. ولذلك لا يتغيّر شيء، مهما تغيّر الخطاب. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن بحاجة إلى إصلاح المؤسسات… أم إلى إصلاح العقل الذي أنشأ تلك المؤسسات؟ هل نحتاج إلى ثورة تعليمية… أم إلى ثورة في معنى التفكير نفسه؟ وهل يمكن لأي إصلاحٍ ثقافي أن ينجح قبل أن نمتلك الشجاعة لمساءلة «مقدساتنا المعرفية» التي نصوغ من خلالها نظرتنا إلى العالم؟ مقدمة تُظهر التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم العربي خلال العقود الأخيرة تراجعًا واضحًا في قيمة العقل النقدي، وصعودًا متسارعًا لصيغ هوياتية مغلقة تحكم أنماط التفكير والعمل. وفي ظل هذا الواقع، تبدو أزمة الوعي ليست ناتجة عن نقصٍ في المعلومات أو فقرٍ معرفي، بل عن بنية رمزية أعمق تُعيد تشكيل الوعي على أساس الانتماء لا التفكير، وعلى أساس الذاكرة لا النقد. يستدعي هذا التحول اعتماد مقاربة تفكيكية تتقصّى البِنى غير المرئية التي تتحكم في إنتاج الخطاب الهويّاتي، وفي كيفية اشتغاله على مصادرة الوعي وإعادة توجيهه. التفكيك هنا لا يعني الهدم فحسب، بل الكشف عن ما أُقصِيَ من الخطاب، وما أُخفي في بنية المعنى، وما جرى تقديمه بصفته «طبيعيًا» وهو في الحقيقة بناءٌ أيديولوجي. وعلى هذا الأساس، تحاول هذه المقالة إعادة قراءة الظاهرة الهويّاتية في سياق الأزمة الثقافية العربية، وطرح سؤالها المركزي: كيف تحوّل خطاب الهوية من مورد لمعنى الذات إلى آلية منظَّمة لإنتاج الجهل؟ أولاً: انهيار المشاريع الكبرى بوصفه لحظة انكشاف بنيوي تُجمع الدراسات الاجتماعية والسياسية على أن النصف الثاني من القرن العشرين العربي كان مسرحًا لمشاريع كبرى مثل القومية العربية، الاشتراكية، والليبرالية الوطنية. هذه المشاريع كانت تُنتج خطابًا معرفيًا يتطلّب وعيًا تاريخيًا، ويحثّ على التفكير في مفاهيم الدولة، العدالة، التقدم، والتحرر. لكن المقاربة التفكيكية تُظهر أن تلك المشاريع كانت تخفي في عمقها هشاشةً بنيوية: كانت تعتمد على خطاب تعبوي جمعي يعيد إنتاج شكل من أشكال الهوية الكبرى (الأمة، الطبقة، الجماعة السياسية). وعندما فشلت هذه المشاريع، لم يُكشَف فقط فشلها السياسي، بل انكشفت أيضًا البنية الرمزية التي كانت تستند إليها. وهكذا تراجع الوعي النقدي أمام عودة مكثفة للهويات الصغرى التي كانت مقموعةً أو مؤجلة. إذن، انهيار المشاريع الكبرى لم يخلق الأزمة، بل كشف استمرارها منذ البداية: الوعي الذي لم يتحرر من بنية الانتماء ظلّ هشًّا، وقابلاً للعودة إلى الهوية الأولى مع أول اهتزاز سياسي. ثانيًا: الهوية من سردية الذات إلى أيديولوجيا مغلقة يميز التفكيك بين «الهوية» بوصفها أثرًا متغيرًا للغة والتاريخ، و"الهوية" كما تُقدَّم في الخطابات السياسية والاجتماعية بوصفها جوهرًا ثابتًا. في المستوى الأول، الهوية مشروع تُعاد كتابته. في المستوى الثاني، الهوية معطى يُمنع المساس به. يشتغل الخطاب الهويّاتي على إخفاء هذا الفرق، فيُقدّم ذاته باعتباره الحقيقة الطبيعية للذات، بينما يخفي أنه بناء لغوي–أيديولوجي ينتقي، يقصي، ويُسكت عناصر من التاريخ كي يقدّم رواية واحدة تُستخدم في التعبئة والتحشيد. في قراءة تفكيكية، يمكن رصد آليات عدة يعمل بها الخطاب الهويّاتي العربي: 1. إعادة إنتاج الثنائيات: جهاز لغوي لإنتاج العاطفة وترسيخ السلطة لا يعمل الخطاب الهويّاتي من خلال تقديم مقولات معرفية بقدر ما يعمل عبر بناء شبكة من الثنائيات الصارمة التي تبدو للوهلة الأولى طبيعية وبديهية. إن ثنائية نحن/هم ليست مجرد أداة توصيفية، بل هي البنية الأساسية التي ينظم من خلالها الخطاب الهويّاتي رؤيته للعالم، وما يفعله هذا الخطاب هو تحويل الاختلاف إلى تهديد، والآخر إلى خصم ضروري لوجود الذات. وهكذا يصبح "الأصيل/الدخيل"، "المؤمن/الكافر"، "الوطني/الخائن" ليست محاور تحليل، بل محاور تعبئة عاطفية. لا تُعدّ هذه الثنائيات سوى آليات للهيمنة اللغوية، إذ تنتج إيقاعًا انفعاليًا يُخضِع المتلقي ويقلّص مساحة التفكير. فالخطاب لا يعطيك العالم بل يعطيك موقعك منه: أنت هنا، والآخر هناك؛ أنت النقاء، وهو التهديد. وبذلك تتحوّل الثنائيات إلى جهاز رمزي لإنتاج الولاء، حيث يُقاس الوعي على أساس الطاعة للنموذج المعروض، لا على أساس النظر في الواقع. إن السلطة هنا لا تُمارس بالقوة المادية فحسب، بل عبر ثنائيات لغوية تُعيد تعريف الذات والآخر بطريقة تحظر إمكان التفكير خارجها. 3. تمويه التاريخ: صناعة ذاكرة أحادية وإخفاء التعدد من أهم ما يكشفه المنهج التفكيكي أن التاريخ ليس سلسلة وقائع متتالية، بل خطاب متعدد الطبقات، تتداخل فيه السرديات وتتفاوت فيه سلطات التأويل. غير أن الخطاب الهويّاتي العربي يعمل على طمس هذا التعدد عبر تقديم التاريخ كمسار واحد مكتمل ومغلق، تُصبح فيه الهوية “حقيقة متوارثة” وليست بناءً تاريخيًا. تمويه التاريخ لا يعني فقط اختيار سردية واحدة، بل يعني أيضًا تحويل الذاكرة إلى يقين لا يُسمح بمساءلته. يُعاد تقديم الماضي على أنه كتلةٌ واحدة بلا تباينات، وتُمحى من داخله الأصوات المخالفة، ويُعاد ترتيب الأحداث بحيث تخدم سردية الانتماء. في هذه العملية، يتحول التاريخ إلى مخزن انتقائي، تُستدعى منه اللحظات التي تخدم الخطاب وتُقصى اللحظات التي تزعزع وحدته. يكشف هنا أن ما يبدو "تاريخًا طبيعيًا" هو في الحقيقة منتج أيديولوجي، صيغ ليمنح الجماعة شرعية رمزية ويقنع أفرادها بأن الهوية قدر لا مشروع. وبذلك يصبح الماضي وسيلة للتسلّط. 4. إقصاء الاختلاف الداخلي: يقدّم الخطاب الهويّاتي الجماعة بوصفها كتلة واحدة متجانسة، لها رأي واحد، وموقف واحد، وماضٍ واحد، ومصير واحد. هذه الوحدة ليست وصفًا لواقع اجتماعي، بل خرافة لغوية ضرورية لتثبيت المعنى الذي يريده الخطاب؛ فكل جماعة ــــــــــ سواء كانت دينية، قومية، مذهبية، أو سياسية ــــــــــ تحمل في داخلها اختلافات عميقة في الوعي والطبقة والمصلحة والتجربة. لكن الخطاب الهوياتي يحجب هذا التنوع كي يمنع التشقق الداخلي الذي قد يهدد سلطته. من منظور تفكيكي، الاختلاف الداخلي ليس صدعًا يجب إخفاؤه، بل هو ما يجعل الهوية ممكنة؛ فالنص لا يكون نصًا إلا بتعدد قراءاته، وكذلك الجماعة لا تكون جماعة إلا بثراء أصواتها. لكن الخطاب الهوياتي يسعى إلى تأميم هذا الاختلاف ، كل اختلاف يصبح خطرًا، وكل اعتراض يُؤوَّل خيانة، وكل مراجعة تُترجم خروجًا عن الجماعة. وبهذا يتحول مفهوم الهوية من فضاء للتعبير إلى فضاء للرقابة، ومن إمكان للاجتماع إلى أداة لإلغاء التعدد. وإجمالًا… عبر هذه الآليات الثلاث—إنتاج الثنائيات، تمويه التاريخ، وإقصاء الاختلاف الداخلي—تتحول الهوية من كونها أفقًا للذات ومجالًا لإعادة صياغة المعنى إلى سلطة لغوية تعمل على تأميم الوعي. فالذات لا تفكر إلا من داخل حدود الخطاب، ولا ترى نفسها إلا كما يرسمها الانتماء، ولا تقرأ العالم إلا من خلال الثنائيات التي يُعيد الخطاب إنتاجها باستمرار. وهكذا تُستبدل حركة التفكير بحركة الانتماء، ويتحوّل الوعي إلى صدى للجماعة، ويتحوّل التاريخ إلى نصٍ أحادي، وتصبح الهوية علامةً لا معنى، وإطارًا مغلقًا لا أفقًا مفتوحًا. رابعًا: صراع الهويّات آلية لإنتاج جهلٍ مُنظَّم لا يظهر الجهل في الخطاب الهويّاتي العربي بوصفه نقيضًا للمعرفة، بل بوصفه شكلًا من أشكال المعرفة المزيفة التي تُعاد صياغتها وتداولها داخل الجماعة. فالخطاب الهويّاتي لا يشتغل على المصادرة والإلغاء فحسب، بل على الإحلال: إحلال أنماط من التصوّر محلّ أنماط أخرى، بحيث يُستبدل التحليل بالتعبئة، والمنهج بالحدس، والنقد باليقين. ومن منظور تفكيكي، لا يمكن التعامل مع الجهل بوصفه فراغًا؛ إنّه امتلاء لغوي–خطابي، تُشحن مفرداته بما يكفي ليبدو أنه معرفة، بينما هو في العمق إنتاج للّامفكَّر فيه. 1. الجهل المعرفي: تحويل السؤال إلى شعار يتجلّى هذا النمط حين تُستبدل القراءة التاريخية والسياسية المعقّدة بــ"سرديات مختزلة" تعمل بقوة العاطفة.فالسؤال النقدي "كيف حدث ذلك"؟ يتحوّل إلى شعار تعبوي "لأن الآخر يتآمر علينا". ومن منظور تفكيكي، تُعاد برمجة المفردات لتُصبح فاعلة لا دالّة: المفردة هنا لا تشير إلى واقع، بل تخلق واقعًا مؤدلجًا، إنها عملية إفراغ للمعنى من محتواه التحليلي، ثم إعادة ملئه بشحنة نفسية ـــــــــــ جماعية، تلغي كل تعقيد. 2. الجهل المنهجي: تفكيك المنهج بوصفه تهديدًا للهوية لا يقف الخطاب الهويّاتي عند نقد المناهج العلمية، بل يشتغل على شيطنتها، بوصفها أدوات «وافدة» أو "محمّلة بأجندات"، وهكذا لا يعود المنهج يُرفض لأسباب معرفية، بل لأسباب انتمائية؛ إذ يُفهم المنهج كــ«هوية» لا كأداة. التفكيك يكشف هنا عن مفارقة لافتة؛ فالخطاب الذي يتّهم المناهج النقدية بالغربة، يمارس هو نفسه تبنّيًا غير واعٍ لمناهج ماضوية غير مفحوصة، ويمنحها قداسة لا علاقة لها بزمان إنتاجها. إنه شكل من إعادة الأسطرة المنهجية التي تفرغ النقد من شرطه البنيوي: المسافة. 3. الجهل الأخلاقي: تبييض العنف لغويًا أخطر أشكال الجهل هو ذلك الذي يُحوَّل إلى موقف أخلاقي ظاهريًا.فحين يُمارس العنف ــــــــ رمزيًا كان أو ماديًا ــــــــ باسم حماية الهوية، يصبح العنف ذاته "فعلًا نبيلًا" داخل الجماعة. وما يفعله الخطاب الهويّاتي هنا هو إعادة تأطير القيم بحيث يُعاد تعريف الخير والشر وفق معيار الانتماء لا وفق معيار العدالة. وينكشف هنا كيف تُستخدم اللغة ــــــــ عبر التلطيف، والمجاز، وتحوير الدلالة ــــــــ في تلميع العنف وتحويله إلى واجب. في هذا السياق، يصبح التفكير النقدي ليس مجرد ممارسة صعبة، بل تهديدٌ وجوديٌّ للجماعة؛ لأنه يخلخل يقينها ويكشف تناقضاتها الداخلية. لذلك يُستبعد العقل لصالح "صفاء الانتماء"، وتُستبدل الأسئلة بالتعويذات، والتحليل بالمباركة الجماعية. إنها لحظة يتقدّم فيها الإحساس بالهوية على إمكان التفكير، ويتحوّل فيها الوعي من مشروع انفتاح إلى جهاز مغلق يعيد تدوير ذاته. وهكذا يغدو الجهل منظومة معرفية بديلة، لكنها منظومة لا تنجو من نقد التفكيك الذي يعرّي أساسها اللغوي، ويُظهر هشاشة اليقين الذي تتكئ عليه. رابعا: أزمة الوعي: حين يختفي السؤال ويظهر اليقين في ضوء المسارات السابقة، تتبدّى أزمة الوعي العربي المعاصر بوصفها نكوصًا في بنية السؤال قبل أن تكون اختلالًا في محتوى المعرفة. الأزمة هنا ليست مجرّد تراجع في القدرة المعرفية، بل تحوّل بنيوي في اشتغال الذهن وتكوين الذات داخل خطاب هويّاتي مغلق. ويمكن رصد مظاهر الأزمة في أربع آليات مترابطة: 1. انكماش القدرة على طرح الأسئلة: السؤال ـــــــــ بوصفه حركةً نحو المجهول ـــــــــ يحتاج إلى فضاء مفتوح وإلى ذات قادرة على تجاوز حدود الجماعة. لكن الخطاب الهويّاتي يعيد تشكيل الذهن بحيث يُصبح السؤال نفسه فعلًا مشبوهًا: فكل سؤال يُلامس البديهيات الجماعية يُقرأ تهديدًا للجماعة، هكذا ينتقل الوعي من دينامية البحث إلى جمود التكرار، ويتحوّل السؤال إلى رفاهية محرّمة أو إلى ترف لا مكان له في "زمن الخطر". 2. التحوّل من التفكير إلى ردّ الفعل: حين يُعاد تشكيل الذات داخل خطاب هويّاتي، لا يصبح التفكير عملية إنتاج، بل عملية حماية. العقل هنا لا يعمل للبحث أو الفهم، بل للردّ على "الآخر" وتفنيد "خطره". وينكشف هنا أن الذات لم تعد تُبادر إلى إنتاج المعنى، بل أصبحت تتلقى صدمات رمزية وتعيد إنتاج ردود جاهزة. إنه انتقال من عقل مُنتِج إلى عقل مُستنفَر، ومن ذات تُعيد بناء العالم إلى ذات تُعيد بناء أسوارها. 3. تبدّل وظيفة المعرفة: من النقد إلى التبرير تتحوّل المعرفة من كونها أداة لفحص الواقع وتحليل تضاريسه إلى أداة لتثبيت الخطاب الجماعي؛ فالمعارف التي لا تخدم الهوية تُهمّش، والمعارف التي تهزّ اليقين تُقصى، والمعارف التي تضيف تعقيدًا تُعتبر عبئًا. فلا تنهار المعرفة هنا بسبب غياب المعلومات، بل بسبب تغيّر وظيفتها: المعرفة لم تعد تُنتج لتحرير الذات، بل لتثبيت يقينها. وهذا ما يحوّل الفكر إلى تقنية تبريرية لا إلى ممارسة نقدية. 4. انهيار قيمة الفرد لحساب الجماعة: داخل الخطاب الهويّاتي، يتراجع الفرد ليصبح "حاملًا" للهوية لا "صانعًا" لها. تُختزل الذات في انتمائها، ويُمحى تاريخها الشخصي، وتُعاد صياغتها نسخةً صافية من النموذج الجمعي. هذا التشييء للذات يجعلها غير قادرة على التفكير خارج القالب، لأنها لا تملك قوامًا مستقلًا يسند عملية النقد. إذن،الفرد لا يُلغى، بل يُعاد إنتاجه ليكون وظيفة داخل وسيلة الانتماء.
خاتمة تكشف المقاربة التفكيكية لخطاب الهوية في السياق العربي أن أزمة الوعي ليست طارئة ولا مرتبطة فقط بعوامل سياسية واقتصادية، بل هي بنية أعمق تنشأ من الطريقة التي تُستخدم فيها الهوية لإخفاء التعدد وإلغاء الاختلاف، ولإنتاج وعيٍ مغلق يُعيد تعريف الحقيقة وفق متطلبات الجماعة. وإذا كان من سبيل للخروج من هذه الأزمة، فهو ليس في رفض الهوية، بل في تفكيك آليات اشتغالها، أي كشف ما تخفيه من تعدد وتاريخ وصراع طبقات دلالية. فقط عندما تتحوّل الهوية من معطى إلى نصّ مفتوح للقراءة، يمكن للوعي أن يستعيد وظيفته الأولى: إنتاج المعنى لا استهلاكه، وصناعة المستقبل لا حماية الماضي.
#سعد_كموني (هاشتاغ)
Saad_Kammouni#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
امتحان الأخلاق بعد تحقق القوة
-
صلاة الاستسقاء نقد الفكر التقليدي ومسؤولية العقل
-
هل سبيل الله طريق نمشي إليه أم معنى نمشي به/ إطار مفاهيمي لل
...
-
هل سبيل الله طريق نمشي إليه أم معنى نمشي به؟ من الطريق إلى ا
...
-
البنية الدلالية للقدرة والابتلاء
-
المنبر بين التلقين والتنوير
-
النهضة الممكنة
-
دينٌ بلا وصاية ، وعي بلا خوف
-
أزمة الوعظ في المجتمعات العربية المعاصرة
-
الرحمة مبدأ كوني شامل /قراءة أسلوبية دلالية ومقاصدية في الآي
...
-
طمأنينة التفكيك الكاذبة
-
الإهلاك الإلهي ناموس غير اعتباطي
-
ذنوب الذين كفروا وإهلاكهم
-
آللهُ يهلكنا!؟
-
الأسلوب ما يجب أن يتغير راهناً
-
لا شيء يستدعي الثقة
-
نحن فاعل هلاكنا
-
لن نستفيد من عزلتنا
-
لن نأسف على شيء
-
يتوقعون ما يرغبون به
المزيد.....
-
الأوقاف الفلسطينية: إغلاق إسرائيلي متكرر لبوابات المسجد الإب
...
-
إغلاق المسجد الإبراهيمي في الخليل: انتهاكات إسرائيلية متكررة
...
-
مشاريع قوانين عنصرية في إسرائيل تعيد طرح سؤال -من هو اليهودي
...
-
بابا الفاتيكان يدعو المخابرات الإيطالية لحماية الشخصيات العا
...
-
السودان تحت المجهر الأوروبي.. كيف عقد الإخوان مسار الحرب؟
-
نافذة على العالم.. كيف تغلغلت الإخوان في -بيزنس الحلال-؟
-
أجراس حزينة وأمنيات بالسلام.. مسيحيو غزة يستقبلون الميلاد بق
...
-
ممنوعون من زيارة بيت لحم.. استعدادات مسيحية خجولة لأعياد الم
...
-
ماذا قال خطيب المسجد الحرام عن أطفال فلسطين؟
-
الإخوان و-بيزنس الحلال-.. محفظة التنظيم المالية التي لا تنضب
...
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|