أنس قاسم المرفوع
أكاديمي وكاتب وسياسي سوري باحث في مركز دراسات الشرق للسلام
(Anas Qasem Al-marfua)
الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 13:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
التحديات الرئيسية التي تواجه تطبيق الديمقراطية في سوريا
الثقافة السياسية المتوارثة: العبودية كحالة نفسية
أعظم التحديات التي تواجه تطبيق الديمقراطية في سوريا ليست المؤسسات أو القوانين بل هي الثقافة السياسية المتوارثةالتي تشكلت عبر قرون من الاستبداد والتخلف لقد عاش السوريون تحت ظل أنظمة استبدادية مركزية لعقود طويلة حتى أصبحت عقلية الخضوع والاستسلام جزءا من اللاوعي الجمعي حيث يصبح الخوف ثقافة والطاعة عادة والاستسلام فضيلة هذا ما أسميه الاستعمار الداخلي حيث يصبح الإنسان عبدا لعقلية العبودية حتى بعد سقوط سلاسلها المادية
فالديمقراطية ليست مجرد آليات انتخابية أو مؤسسات دستورية بل هي حالة نفسية وثقافية وهذه الثقافة حقيقة لا تزال بقوانين أو دساتير بل بتغيير جذري في الوعي الجمعي من خلال : التعليم الديمقراطي فالتعليم في العالم العربي يدمر الإبداع ويقتل الروح النقدية ولذلك نحن بحاجة إلى ثورة تعليمية تجعل من المدرسة مختبرا للديمقراطية حيث يتعلم الطلاب الديمقراطية عبر الممارسة وليس عبر المحاضرات النظرية وذلك من خلال انشاء مجالس طلابية منتخبة ذات صلاحيات حقيقية في إدارة المدرسة ومناهج دراسية تركز على التفكير النقدي وحل المشكلات واقامة مشاريع مجتمعية حيث يشارك الطلاب في حل مشاكل مجتمعاتهم. ومن خلال المجتمع المدني الحيوي الذي يعيد تعريف العلاقة بين الفرد والسلطة وايضا من خلال الإعلام الحر الذي يكسر حواجز الخوف ويخلق ثقافة الحوار والنقد، فحقيقة عندما يسألني البعض كيف نطبق الديمقراطية في بلد مثل سوريا أقول لهم: التحدي هو تحرير العقل السوري من ثقافة الخوف والطاعة العمياء الديمقراطية الحقيقية تتطلب مواطنا واعيا لا ينتظر الخلاص من البطل الخارجي بل يؤمن بأنه هو صانع مصيره وسيد نفسه فحقيقة في سياق ما بعد الحرب حيث أصبح السوريون أكثر ترددا وخوفا وهذا يجعل التحدي أكثر صعوبة فالناس حقيقة يبحثون عن الأمن والاستقرار ويستعدون للتضحية بالحريات مقابل الخبز والأمان لكنني أؤكد: انه لا استقرار حقيقي دون حرية حقيقية ولا أمن دائم دون عدالة حقيقية.
هيمنة الدولة القومية والمركزية المطلقة
التحدي الثاني يتمثل بتفكيك بنية الدولة القومية المركزية التي سيطرت على المنطقة العربية لعقود فالدولة القومية الحديثة في المنطقة العربية ليست خلقة طبيعية بل هي وليدة الاستعمار والمشاريع الاستعمارية التي رسمت الحدود وخلقت الكيانات الاصطناعية هذه الدولة القومية لم تكن يوما دولة مواطنة بل هي دولة ضباط وحزب واحد ومؤسسة أمنية تحكم باسم الاستقرار والأمن القومي والمقاومة ومجابهة الصهيونية بينما تدمر الاستقرار الحقيقي وهذه البنية لا تسمح بالديمقراطية لأنها ترى في الديمقراطية تهديدا لوجودها
فحقيقة في سوريا مثلا تعتبر هيمنة المؤسسة العسكرية والأمنية على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي أحد أكبر العوائق أمام بناء الديمقراطية فالجيش والأمن لم يصنعا للدفاع عن الوطن والمواطن بل لحماية النظام والسلطة عندما نتحدث عن الانتقال الديمقراطي نعني بالأساس تفكيك هذه البنية السلطوية وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة وصحيحة. فحقيقة إن الدولة المركزية التقليدية التي فشلت في إدارة التنوع السوري ليست الحل بل هي جزء من المشكلة لذلك من المهم أن ننتقل من منطق السلطة المركزية إلى منطق السلطة المشتركة حيث يشارك الجميع في صنع القرار وتحمل المسؤولية أي اللامركزية الديمقراطية والتي حقيقة لا تعني ضعف الدولة بل تعني قوة المجتمع فعندما تكون القرارات قريبة من الناس تكون أكثر فعالية وعدلا فمثلا نموذج سويسرا يثبت أن اللامركزية والديمقراطية المباشرة يمكن أن يتعايشا مع دولة قوية ومستقرة سويسرا رغم تنوعها اللغوي والثقافي استطاعت أن تبني دولة ناجحة لأنها اعتمدت على إشراك المواطنين في عملية الحكم بدلا من إقصائهم.
فمن خلال اللامركزية الديمقراطية التي هي عبارة عن نقل السلطة من المركز إلى المجتمع المحلي يمكننا ايضا تقويض سلطة المؤسسة العسكرية عبر تحويلها إلى مؤسسة دفاعية بحتة خاضعة للرقابة المدنية وتفكيك أجهزة الأمن وإعادة بنائها كمؤسسات حماية للمواطن وليس كأدوات قمع، فاللامركزية الديمقراطية التي أراها مناسبة جدا لسوريا ليست تقسيم إداري بل هي ثورة على مفهوم السلطة فالسلطة يجب أن تكون في أيدي المجتمع وليس في يد البيروقراطية المركزية لكن هذا يتطلب تحولا جذريا في البنية الذهنية للنخبة الحاكمة التي ألفت أن تأمر وتتحكم وللشعب الذي ألف أن يطاع.
الانقسامات الاجتماعية والطائفية المفتعلة
التحدي الثالث الخطير هو الانقسامات الاجتماعية والطائفية والعرقية فحقيقة ان الأنظمة العربية التقليدية تتعامل مع التنوع العرقي والديني والثقافي كتهديد يجب القضاء عليه من خلال القيام بمشاريع قومية أو دينية توحيدية تحاول فرض هوية واحدة على الجميع ولكن النتيجة بالنهاية ستكون كارثية تمييز واضطهاد ونزاعات داخلية وبالنهاية انتاج نظام حكم غير مستقر وغير مستدام اما الديمقراطية تقوم على التعددية كقيمة أساسيةفالتنوع مصدر قوة وليس ضعف والاختلاف شرط للإبداع والتطور والتعايش السلمي أساس الهوية الوطنية وليس التوحيد القسري والحقوق الثقافيةمكفولة دستوريا وقانونيا فالأنظمة العربية التقليدية تقوم على ثقافة الخوف الخوف من الآخر الخوف من الحرية الخوف من التغيير هذه الثقافة حقيقة تخلق مجتمعا جامدا حيث التفكير النقدي جريمة والاختلاف كفر والإبداع تمرد ولكن يمكن إعادة بناء المجتمع العربي على اساس قيم التنوير والتسامح بدلا من الجهل والتعصب
فحقيقة ان الديمقراطية ليست مجرد نموذج حكم بل هي خيار حضاري يحدد مستقبل الأمة العربية عندما نختار الديمقراطية نختار الحياة على الموت البناء على الهدم نختار الأمل على اليأس نختار الإنسان على السلطة التحديات هائلة لكننا لسنا غرباء عن التحديات الأمة العربية مرت بأصعب الظروف على مر التاريخ وكانت دائما قادرة على النهوض عندما وضعت الثقة في شبابها ونسائها وفي قيمها الإنسانية العميقة. فمثلا في سوريا استغل النظام الانقسامات الاجتماعية والطائفية والعرقية وعمقها ليبقى في السلطة فعندما يرى الحاكم أن وحدة الشعب تهدد سلطته يعمل على تقسيمه وإذكاء النزاعات بين مكوناته وهذا ما حدث في سوريا حيث حول النظام التنوع السوري من ثروة إلى لعنة ومن قوة إلى نقطة ضعف. فحقيقة الديمقراطية الحقيقية تتطلب وحدة الشعب في مواجهة السلطة لا انقسامه في خدمة السلطة لكن تحقيق هذه الوحدة في ظل هذا الواقع المليء بالجراح والانتقامات والثارات ليس بالأمر السهل نحتاج إلى عملية مصالحة وطنية حقيقية لا مجرد مصالحات شكليات عملية حقيقية تتعامل مع الجروح بصدق وإنسانية فحقيقة لا يمكن بناء الديمقراطية في مناطق النزاع دون مصالحة وطنية حقيقية المصالحة ليست مجرد عفو عام أو اتفاق سياسي بين النخب بل هي عملية عميقة تتعامل مع الجروح التاريخية وتعيد بناء الثقة بين المكونات المختلفة في رؤيتي يجب أن تبدأ المصالحة عبر محاكمات المصالحة أو لجان الحقيقة والعدالة التي تتمتع باستقلالية كاملة وتستمع إلى ضحايا النزاع من جميع الأطراف وتسعى إلى كشف الحقيقة الكاملة عن الانتهاكات وليس مجرد معاقبة الأفراد العدالة في مناطق النزاع لا تعني الانتقام بل استعادة الكرامة الإنسانية وإعادة بناء الثقة هذه اللجان يجب أن تكون ممثلة لجميع مكونات المجتمع وأن تعمل بشفافية كاملة وأن تقدم توصيات عملية لإصلاح المؤسسات وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية المصالحة الحقيقية تتطلب شجاعة الاعتراف بالأخطاء وشجاعة الصفح وشجاعة بناء المستقبل معا التحدي الأكبر في مناطق النزاع هو فشل النموذج الحضاري الذي أنتج النزاع نفسه فالدولة القومية المركزية التي سيطرت على سوريا والعديد من الدول العربية فشلت في إدارة التنوع وحولت الاختلاف إلى سبب للعنف والتمزيق البديل الذي أراه مناسب هو مشروع ديمقراطي قائم على مفهوم التشاركية والتعددية واللامركزية مشروع يتجاوز الدولة القومية التقليدية ليصبح نموذجا جديدا للعيش المشترك ولا يعتمد على الأحادية بكل شيء ان كان ثقافية او إثنية أو دينية بل مشروع يمثل مجتمع القيم المشتركة كالديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة والتعددية وهذه القيم المشتركة يمكن أن تكون الجسر الذي يوحد السوريين فوق اختلافاتهم ويبني هوية وطنية جديدة قائمة على المواطنة الحقيقية لا على الانتماءات الأولية فحقيقة في هذا النموذج يمكن للمسلم والمسيحي واليزيدي للعربي والكردي والسرياني والسني والعلوي والدرزي أن يعيشوا معا في وطن واحد ليس رغم اختلافاتهم بل بفضل اختلافاتهم
الاستعمار الجديد والصراعات الإقليمية
العالم العربي اليوم ساحة صراع بين القوى الإقليمية والدولية كل منها تحاول فرض نموذجها وتفرض مصالحها إيران تدعم مليشيات في لبنان والعراق واليمن وتركيا تنافس ايران على النفوذ القوى الغربية تتدخل باسم محاربة الإرهاب بينما تدعم الأنظمة الاستبدادية. هذا الاستعمار الجديد يعيق الديمقراطية لأنه يحول الدول إلى ساحات صراع ويدعم النخب الحاكمة الفاسدة ويقوض المؤسسات الوطنية المستقلة التحدي هنا هو بناء الديمقراطية باستقلالية وطنية حقيقية بعيدا عن الوصاية الخارجية وهذا يتطلب الوحدة الوطنية الداخلية كشرط للتحرر من الوصاية الخارجية وايضا اقامة علاقات دولية متوازنة لا تعتمد على تبعية واحدة
بناء اقتصاد وطني مستقل لا يخضع للابتزاز السياسي
انهاء الانقسامات المجتمعية العصبية القبلية والعرقية والطائفية فالاستبداد لم يدمر المؤسسات فحسب بل دمر النسيج الاجتماعي نفسه قرون من الحكم الفردي والأنظمة الاستبدادية خلقت انقسامات عميقة عرقية وقومية و مذهبية و عشائرية و طائفية ومناطقية فالاستبداد الذكي يستخدم هذه الانقسامات لتحقيق بقاءه فرق تسد وهذه حقيقة كانت استراتيجية كل الحكام المستبدين ففي العراق واليمن الطائفية دمرت الدولة ومنعت بناء مؤسسات وطنية وفي ليبيا اليوم القبائلية جعلت من الوحدة الوطنية حلما بعيد المنال فحقيقة الديمقراطية الحقيقية تتطلب مصالحة وطنية حقيقية تعيد بناء الثقة بين المكونات الاجتماعية والعرقية والقومية وهذا لا يتم عبر مراسيم أو قوانين بل من خلال آليات المصالحة المحلية التي تتعامل مع الجروح التاريخية والاقتصاد التشاركي الذي يخلق مصالح مشتركة بين المكونات المختلفة والتعليم الوطني الذي يبني هوية وطنية فوق الانتماءات الأولية والاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي التحدي هنا هو كيفية بناء الديمقراطية السورية باستقلالية وطنية حقيقية مع الاستفادة من الخبرات الدولية دون الوقوع في فخ الوصاية الخارجية وهذا حقيقة يتطلب وعيا وطنيا عميقا وقدرة على التمييز بين الصديق الحقيقي الذي يدعم الديمقراطية والعدو المقنع الذي يريد السيطرة على القرار السوري.
#أنس_قاسم_المرفوع (هاشتاغ)
Anas_Qasem_Al-marfua#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟