أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نادر عبدالحميد - سلام بلا فلسطينيين، حول خطة ترامب للشرق الأوسط















المزيد.....


سلام بلا فلسطينيين، حول خطة ترامب للشرق الأوسط


نادر عبدالحميد
(Nadir Abdulhameed)


الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 18:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة

بعد ثلاثة أيام من المفاوضات شديدة التوتر في شرم الشيخ بمشاركة مصر وقطر وتركيا ـ تلك الدول التي مارست ضغطًا كبيراً على (حماس) للموافقة على خطة ترامب للسلام، أعلنت حماس في (٨١٠٢٠٢٥) قبولها للمرحلة الأولى من خطة ترامب التي شملت: وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن وتبادل شامل للأسرى والمعتقلين، وانسحابا تدريجيا للقوات الإسرائيلية، والشروع في مرحلة إعادة الإعمار تحت إشراف لجنة دولية يقودها "مجلس السلام للشرق الأوسط" الذي أعلن عنه ترامب، وذلك بعد عامين من التدمير الممنهج لقطاع غزة والقتل الهمجي لسُكانه بهدف التطهير العرقي والاحتلال والاستيطان من قِبل حكومة نتنياهو اليمينية الصهيونية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، آلة الحرب والدمار للدولة العنصرية الدينية.(١)

مع إعلان وقف إراقة الدماء، انهمرت دموع الفرح على خدود الأمهات، وعمّت مشاعر البهجة على أرض تفصلها أسلاك شائكة وجدران إسمنتية. عاشت عائلات الرهائن الإسرائيليين وعائلات الأسرى الفلسطينيين لحظات انفجار عاطفي هائل، حيث كانت بمثابة انتصار مؤقت للحياة على شبح الموت الذي كان يطاردهم في كل لحظة، وتعبر عن أمنية واحدة لدى الجانبين: أن يستمر هذا الهدوء، وأن تعود الحياة البسيطة التي افتقدوها، بلا خوفٍ ولا فقدان حياة جديدة.

مع ذلك، وخلف مظاهر الارتياح الحذرة، يَكْمُنُ وعيٌ مؤلمٌ بأن جذور معاناة الشعبين أعمق من أي فرحة عابرة. لقد كشف وقف الحرب عن معاناة إنسانية عميقة ومستمرة خَلَّفَها الصدام الدموي بين حركتين فاشيتين ذات طابع ديني، هما الصهيونية والإسلام السياسي، وأظهر أيضًا تطلع الشعبين وحنينهما إلى الأمان.

لكن الدمار والضياع السياسي الذي لحق بالفلسطينيين جعل الأمان أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع، هذا وبما إن دولة إسرائيل العنصرية وخاصة مع حكومة نتانياهو اليمينية الفاشية لا تخضع للاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، فإن الشعب الإسرائيلي كذلك سوف لن يتمتع بالأمان.

خطة ترامب والقضية الفلسطينية

قال ترامب في كلمته بقمة شرم الشيخ يوم (١٣١٠٢٠٢٥) إن "الحرب انتهت" وأضاف أن وقف إطلاق النار "سيصمد"، واصفاً الاتفاق بأنه يوم تاريخي عظيم للشرق الأوسط لتحقيق السلام من خلال "إنهاء حرب استمرت ثلاثة آلاف عام".

تعكس خطة ترامب النهج السياسي التقليدي للإمبريالية الأمريكية، إذ تـتجاهل بوضوح جوهر الصراع المتمثل في احتلال إسرائيل لأرض فلسطين وحرمان شعبها من حقه في تقرير المصير. إن تفكير ترامب لا يتضمن شيئًا اسمه القضية الفلسطينية، بل يرى بأن هناك منظمات وفصائل إرهابية، تستند إلى عداوات دينية قديمة وتتلقى تمويلاً من الخارج لتقوم بأعمال إرهابية تهدد أمن إسرائيل ومواطنيها، وتربك العلاقات الدولية في منطقة شرق الأوسط وتقوض الاستقرار فيها!

انطلاقاً من هذه الرؤية، وضع ترامب خطة لإنهاء هذا الحرب؛

1. دون ربطها باستراتيجية معينة لحل المسألة الفلسطينية،

2. وكذلك دون ربط تحقيق السلام في الشرق الأوسط بحل هذه القضية أيضاً.

3. ليس هذا فحسب، بل إنّ "خطة السلام" اِسْتَبْعَدَت (منظمة التحرير الفلسطينية) التي كانت تُعتبر الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني على المستوى الدولي، وأوْكَلَت إدارة القطاع إلى لجنة دولية برئاسة ترامب وتوني بلير، المتهم بالتورط في جرائم حرب في العراق خلال عملية إسقاط نظام صدام حسين عام (٢٠٠٣)، عندما كان رئيساً لوزراء بريطانيا.

4. هكذا وعن طريق هذە الخطة، جرى تجاوز اتفاقية أوسلو أيضاً، التي رغم إنها لم تكن بمثابة اتفاق رسمي لإقامة دولة فلسطينية، إلا أنها وضعت الأساس لإقامة سلطة فلسطينية وبداية عملية السلام التي كانت تهدف إلى تحقيق دولة، بمعنى إعادة القضية السياسية للشعب الفلسطيني إلى ما قبل الحل الإمبريالي والدولي الذي يمثله هذا الاتفاق.

5. علاوةً على كل ذلك، يتحول قطاع غزة، (كما كان الحال في إقليم كوردستان العراق بعد حرب الخليج الثانية -١٩٩١)، إلى مخيم كبير تحت رعاية دولية، مقطوعة الأواصر مع الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية، بحيث يعيش سكان القطاع، الذين فقدوا كل ما لديهم، على المنح والمساعدات الخارجية المقدمة من قبل الحكومات والمؤسسات الخيرية العالمية، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل ارتكاب جرائمها بحق الفلسطينيين، ليس فقط في قطاع غزة، بل في الضفة الغربية أيضاً، بمصادرة المزيد من الأراضي لتوسيع المستوطنات وفرض المزيد من القيود على السلطة الفلسطينية.

هكذا وحسب خطة ترامب الإمبريالية للسلام، ستشهد القضية الفلسطينية مزيدًا من التهميش والضياع السياسي وتدفع بها إلى متاهات لا مخرج لها.

المعنى السياسي "للصراع المستمر منذ ٣ آلاف عام"

إن تجسم المعضلة المستعصية في الشرق الأوسط، أي الصراع والاقتتال بكل مآسيهما على أرض فلسطين التاريخية، كإمتداد لصراعات دينية تعود إلى (٣) آلاف سنة، كما يدعي ترامب، ما هو إلا شرعنة لواقع سياسي مجحف بحق الفلسطينيين من خلال استحضار ماضٍ متخيل.

رغم أن اليهود كانوا موجودين ويعيشون في فلسطين جنبًا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين مثل جميع اليهود في العديد من الأوطان والبلدان في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، إلا أن النزاع الدائر والمستمر قرابة قرن من الزمن في فلسطين بدأ مع الهجرة المخططة من قبل الحركة الصهيونية العالمية إليها في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين خاصة بعد (وعد بلفور) البريطاني (١٩١٧)، والبدء بشراء الأراضي من الفلسطينيين طوعا أو قسراً، وبعدها تكوين ميليشيات مسلحة والقيام بالإستيلاء على مزيد من الأراضي وطرد السكان الأصليين عنوةً، وأخيرا القيام‌ بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية، كل ذلك تم تحت الاحتلال العسكري البريطاني المباشر في آواخر الحرب العالمية الأولى (١٩١٧١٩٢٠) وانتدابها (١٩٢٠١٩٤٨) بعد إنشاء "عصبة الأمم"، إلى أن بلغت عملية التطهير والتهجير ذروتها في (١٩٤٨) مع قرار التقسيم والحرب و"النكبة".(٢)

أقرّت (عصبة الأمم) في (١١ أيلول/سبتمبر ١٩٢٢) بإنتداب بريطانيا رسميا، وكان الإسم الذي أُطلق على أراضي الانتداب هو "فلسطين" وفقًا للاستخدام المحلي، وكذلك العثماني والتقاليد الأوروبية. وأصدرت (أي عصبة الأمم) وثيقة تعليمات تعهد بإدارة فلسطين لبريطانيا، وذلك بناء على إتفاق دول الحلفاء على تنفيذ (وعد بلفور)، وجاء في أكثر من موضع في إعلان (عصبة الأمم) تأكيد على عدم القيام بأية خطوة تضر بالحقوق المدنية والدينية للسكان الأصليين لفلسطين وصيانة حقوقهم، كذلك تشجيع التعاون مع (الجمعية الصهيونية) لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين وكسب الجنسية الفلسطينية لأولئك المهاجرين، ضمانا لإنشاء وطن قومي يهودي لهم، بحسب نص القرار.(٣)

إذًا يتضح من الحقائق التاريخية والوثائق المسجلة لدى (عصبة الأمم)، بـأن (إنشاء وطن قومي يهودي) من خلال تشجيع التعاون مع (الجمعية الصهيونية) لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين والحصول على الجنسية الفلسطينية، هو جزء من الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية المعروفة باسم (إعلان بلفور)، وأن الحرب والقتل والتشريد والإبادة الجماعية من (١٩١٧ لغاية ١٩٤٨) نشأت في سياق تنفيذ هذه الاستراتيجية الإمبريالية البريطانية. أما بعد تراجع نفوذ بريطانيا في العالم والشرق الأوسط، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية، تولت الإمبريالية الأمريكية مهمة الحفاظ على هذا الكيان العنصري والدفاع عن جميع جرائمه وحروبه بالتعاون مع الدول الأوروبية، خاصة مع بريطانيا.

إن ولادة دولة إسرائيل تشبه كثيرا ولادة دولة (الولايات المتحدة الأمريكية) إن لم نقل نسخة منها، حيث شهدت فترة مخاض ولادتهما إبادة للسكان الأصليين. إسرائيل كيان استيطاني استعماري يهدف منذ نشأته إلى طرد السكان الأصليـين، وهو المسؤول عن أطول احتلال عسكري في التاريخ الحديث، ويمارس نظام فصل عنصري لعزل الفلسطينيين والسيطرة عليهم، أبشع من نظام الفصل العنصري (apartheid) لـ(جنوب أفريقيا).

هكذا أن المعضلة التي تعرف اليوم باسم "القضية الفلسطينية" وُلدت في سياق إمبراطوري-استعماري وإمبريالي غربي، كما يقول المؤرخ اليهودي والإشتراكي (إيلان بابيه) في كتابه (التطهير العرقي في فلسطين): إنه صراع استعماري استيطاني بين شعبٍ أصيلٍ في أرضه ومشروعٍ استيطاني حديث تدعمه قوى إستعمارية وإمبريالية عالمية. (٤)

إذًا، لا الحروب في الشرق الأوسط ولا المشكلة الفلسطينية، ليسوا وليدة‌ المنظمات الإرهابية (بل العكس هو الصحيح)، ولا امتداداً لصراعات دينية تعود إلى (٣) آلاف عام، كما يزعم ترامب، بل هي نتيجة تنفيذ الاستراتيجيات الاستعمارية والإمبريالية الغربية، وخاصة البريطانية والأمريكية.

هدف الخطة

عندما اندلعت حرب غزة (أكتوبر ٢٠٢٣)، حدثت هزّة سياسية قوية في منطقة شرق الأوسط أثرت على مسار التطبيع، المعروف بالاتفاقات الإبراهيمية. قبل الحرب، كانت واشنطن تعمل على صفقة تطبيع كبرى بين السعودية وإسرائيل، لكن الحرب جعلت السعودية تعلن أن "لا تطبيع دون قيام دولة فلسطينية مستقلة"، أي عودة إلى الموقف العربي التقليدي، هكذا وَقْفْ الحَرب في غزة أصبح شرطًا سياسيًا ضمنياً لاستئناف مسار التطبيع، الذي تجمد وتراجع وسط غضب شعبي عربي واسع.

أي حصل تصدع في التحالفات الإقليمية التي تراهنت عليها الإمبريالية الأمريكية للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية ونفوذها الجيوسياسي في المنطقة وتقويتها بوجه المنافسين من القوى الإمبريالية العالمية والإقليمية الأخرى.

بمعنى آخر أن استمرار الحرب يضعف الاتفاقيات الإبراهيمية والتحالفات الإقليمية الأمريكية ويقوي النفوذ الصيني والروسي والإيراني في المنطقة، وهذا هو سر إصرار ترامب على إنهاء الحرب بسرعة.

في البداية، وبهدف إنهاء الحرب سريعاً، شدد ترامب على أسلوب "فتح أبواب الجحيم" ضد (حماس)، أي الغزو السريع لقطاع غزة ونقل سكانه إلى مصر والأردن، ووضعه تحت الإشراف الأميركي لمدة لا تقل عن عشر سنوات لتحويله إلى منتجع سياحي (ريفييرا)، لكن عجز الجيش الإسرائيلي في حسم الموقف بسرعة والعزلة الدولية لإسرائيل بسبب مجازرها اليومية وجرائمها البشعة، وموجة الإعتراضات العالمية للبشرية المحبة للسلام والحرية ضد إسرائيل وضد الدول الغربية المساندة لها، خاصة من قبل الحركات العمالية والإشتراكية، كل هذە العوامل أجبرت ترامب على أن يبحث عن خيار المفاوضات مع (حماس) وإبرام صفقة لوقف الحرب بأسرع وقت ممكن. هذا ما يفسر الضغط الأمريكي على إسرائيل للتوصل إلى هدنة طويلة أو وقف إطلاق النار، بهدف تمهيد الطريق لعودة التفاهمات الإقليمية.

أي إن هذا الضغط الأمريكي على إسرائيل، لا ينطلق من حرصها على حل القضية الفلسطينية، ولا من مزاعم ترامب بحبه للسلام وسعيه لوقف الحروب حفاظًا على الأرواح، بل هو في الواقع ينبع من رغبة الإمبريالية الأمريكية في تمهيد الطريق لتهيئة الأجواء لعودة الإتفاقيات الإقليمية، من أجل الحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط وتأمين تفوقها على جميع منافسيها.

هذا وإن الاتفاقية لها العديد من الآثار الجانبية الأخرى التي تخدم الهدف الأمريكي، كالتستر على جرائم إسرائيل ضد الإنسانية من خلال قبول ما يسمى بخطة السلام، وإنقاذ الموقف المخزي للدول الغربية المنحازة سياسيا لإسرائيل والداعمة لها عسكريا من خلال بيع الأسلحة وقطع الغيار، وكذلك إنهاء الحرج الذي تعانيه سلطات الدول العربية أمام جماهيرها، وأخيراً التخلص من ضغط الاعتراضات الجماهيرية على صعيد العالم ضد المجازر والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.

وفي التحليل الأخير، فإن ما تحققّه الخطة على أرض الواقع، هو إعطاء نتنياهو هامشاً للمماطلة أو الانسحاب التكتيكي دون التوصل إلى حل دائم، وفرض شروط استسلام مُقَنَّعَة على (حماس) والسلطة الفلسطينية مقابل تحسينات شكلية في الوضع المعيشي للفلسطينيين. أي إن هذە الخطة ركزت على الأمن والإغاثة أكثر من السياسة والحقوق، قد تحقق هدوء مؤقت في غزة، لكنه لا يقدم أساساً لحل الصراع، بل للحافظ على التوازن غير المتكافئ الذي رسخته الولايات المتحدة منذ عقود.

حرب أوكرانيا وحرب غزة

عمّقت كلتا الحربين الانقسامات والاستقطابات داخل المجتمعات وداخل النظام السياسي الدولي أيضًا، إلا أن نطاق تأثير إحداهما يختلف عن الأخر.أثرت الحرب في أوكرانيا في المقام الأول على العلاقات الدولية، حيث مثّلت نقطة تحول في توازن القوى العالمي. إذ عمّقت الانقسام بين القوى الكبرى، وساهمت في تسريع عملية الاستقطاب العالمي والانتقال من نظام أحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب.

بينما أثرت الحرب في غزة بشكل رئيسي على العلاقات السياسية الداخلية بين الحركات الاجتماعية السياسية والفكرية، كالليبرالية والاشتراكية واليمين الفاشي ذي الطابع القومي أو الديني (سواء كان يهودياً، أو مسيحياً، أو هندوسياً، أو إسلامياً) وبينها وبين السلطة السياسية داخل مجتمعات كل بلد.

ما يهمنا هنا ليس الخوض في حرب أوكرانيا وآثارها على العلاقات الدولية، بل تسليط الضوء على دور حرب الإبادة الإسرائيلية ضد سكان غزة في تصعيد الصراعات الفكرية والسياسية بين الليبرالية والاشتراكية واليمين الفاشي، حيث أصبحت واحدة من أكثر ملفات السياسة الخارجية انقساما داخل المجتمعات الديمقراطية الغربية. فقد تفاعلت هذه التيارات مع الحرب، وعرضت تحليلاتها ورؤاها، وقدمت حلولًا للمشاكل المعقدة التي أفرزتها، مما أدى إلى تنامي الاستقطاب بينها. في الوقت الذي وقفت فيه أغلب الدول الليبرالية وتياراتها الفكرية وحركاتها السياسية البرجوازية إلى جانب الفاشية الإسرائيلية، وعملت (عبر سن قوانين وإصدار تعليمات سياسية للشرطة) على تضييق حرية التعبير ومنع الأنشطة المعارضة لجرائم إسرائيل بحجة دعمها للإرهاب، اغتنمت التيارات القومية الفاشية واليمين الرجعي في أوروبا وأميركا الفرصة لاستهداف المهاجرين والمسلمين، أي الشرائح الفقيرة والمهمشة من الطبقة العاملة.

في المقابل، نشطت المنظمات والأحزاب الشيوعية مع الحركات العمالية والنقابية في معارضة الحرب وإدانة دعم الحكومات الغربية لإسرائيل وإمدادها بالأسلحة، من خلال المظاهرات والمسيرات الحاشدة، ومن خلال الوقوف في وجه الأحزاب والحركات الفاشية للحد من أنشطتها.

إضافة إلى ذلك، فإن حرب الإبادة في غزة أيقظت، وعلى مقياس عالمي، الشعور الإنساني العميق بالمعناة والآلام التي تتعرض لها الجماهير الفلسطينية ودفعت قطاعات واسعة من الشباب والطلبة والمنظمات المدافعة عن الحريات والحقوق المدنية والمحبة للسلام إلى مزيد من التنظيم والنشاط في الجامعات والشوارع والإعلام الرقمي، وفي النهاية تمكنت هذە الجبهة الإنسانية العريضة من إنشاء حركة جماهيرية عالمية متخطية الحدود القومية والدينية لوقف الحرب بإصرارها على أن الطريق لإنقاذ عدد قليل من الرهائن ليس إرتكاب مثل هذه الجرائم القاسية والإبادة الجماعية من قبل اليمين الفاشي الإسرائيلي وبدعم من الإمبريالية الأمريكية والدول الغربية.

هكذا وفي سياق هذه الحرب أزيل قناع إدعاءات الدول والتيارات الليبرالية والديمقراطية البرجوازية لما يسمى بحقوق الإنسان والحريات وحق الشعوب، وهكذا فان حرب غزة لم تكن فقط نزاعًا مسلحًا في الشرق الأوسط، بل مرآة كشفت هشاشة الخطاب الأخلاقي في الغرب أيضاً.

الخاتمة

هكذا، وجدت القضية الفلسطينية نفسها في أجواء عالمية وشرق أوسطية جديدة. في الماضي، وخلال القرن العشرين، كانت البرجوازية وحكوماتها ومؤسساتها الدولية مثل (الأمم المتحدة) وغيرها تحاول، في إطار دفاعها عن إسرائيل وضمان تفوقها في المنطقة والتستر على جرائمها، البحث عن حلول لإيجاد مخرج لهذه المشكلة في الشرق الأوسط من أجل الحفاظ على مصالحها.

أما بعد سقوط الكتلة الشرقية السوفيتية في نهاية القرن العشرين، وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية (١٩٩٠٢٠٢٠)، تراجعت الحركات اليسارية والاشتراكية، وتقلص نفوذ ودور النقابات والاتحادات العمالية تحت وطأة الهجمات النيوليبرالية، مما رجح كفة الميزان لصالح التيارات اليمينية والفاشية والقومية والدينية. هذا وبخلاف النصف الأول من القرن العشرين الذي كان يتميز بمعاداة النازيين والفاشيين لليهود، فإن النازيين الجدد والفاشيين الجدد في العالم الغربي، الأوروبي والأمريكي، يدعمون فاشية إسرائيل ويوجهون حراب عدائهم ضد المهاجرين والمسلمين.

تخلت البورجوازية وحكوماتها عن قيمها الليبرالية التي كانت تفخر بها بعد الحرب العالمية الثانية، مثل حرية التعبير وحق التظاهر السلمي، وحق اللجوء، ومحاربة النازية، والعنصرية، ... ليس هذا فحسب، بل تميل إلى اتخاذ سياسات يمينية وعنصرية معادية لأبسط الحقوق والقيم الإنسانية، وتدعم حكومات رجعية استبدادية أو فاشية دينية وعنصرية كدولة إسرائيل، وذلك علناً وليس سرا كما في السابق.

ففي أجواء فكرية وسياسية كهذه، تخلت الدول الإمبريالية الغربية عمليًا عن حل الدولتين وعن اتفاقية أوسلو، رغم الادعاءات التي تهدف إلى تضليل الرأي العام. ليس هذا فحسب، بل حتى الدول العربية تخلت، هي الأخرى، عمليًا عن (مبادرة السلام) التي أقرّتها جامعة الدول العربية في قمة (٢٠٠٢) في بيروت، والتي تنص على انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ (١٩٦٧)، وقبولها قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية، وذلك مقابل قيام الدول العربية بإقامة علاقات طبيعية في إطار سلام شامل مع إسرائيل. واليوم نرى الدول العربية تصطف للدخول في عملية التطبيع مع إسرائيل، مخالفةً مبادرة السلام التي أطلقها جامعة الدول العربية.

إذن، فالقضية الفلسطينية تواجه اليوم واقعاً يتمثل في تخلي البرجوازية العالمية والعربية عملياً عن إصرارها على أي حل عملي، وتحولها إلى مجرد وسيلة لقضاء الوقت وتضليل الجماهير المستاءة من أنظمتها، فالكرة الآن، موضوعياً، تقع في ملعب الطبقة العاملة‌ والحركة الإشتراكية.

إن القضية الفلسطينية، كما تشير الأدلة والوثائق التاريخية، هي نتيجة تدخلات القوى الإمبريالية العالمية ومصالحها الجيوسياسية والعسكرية، بما في ذلك تورط الدول الإقليمية وصراع الحركات والتيارات الاجتماعية والسياسية المختلفة حولها. وهذا يعني أن حل القضية أوسع من كونه قضية تقتصر على بلد واحد.

لا شك في أن التغير في ميزان القوى الطبقي الداخلي في إسرائيل ضد التيارات اليمينية الفاشية يلعب دورًا أساسيًا في حل المسألة، لكن هذا التغير يعتمد على التغير في ميزان القوى الطبقي على صعيد دول منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال تعزيز ورص صفوف النضال الاشتراكي الأممي والدخول في ساحة النضال ضد الأنظمة البرجوازية.

نتناول في مقال آخر الحل الاشتراكي العملي والإنساني لهذه القضية من وجهة نظر الشيوعية والمصالح الطبقية للعمال والكادحين.
اواخر تشرين الأول-اكتبر/٢٠٢٥
*-*-*-*
الهوامش:
1. إسرائيل وحماس توافقان على المرحلة الأولى من خطة ترامب لوقف الحرب في غزة
2. https://www.bbc.com/arabic/articles/cqqnnq92qqro
3. http://palestineinarabic.com/Docs/inter_arab_res/Palestine_British_Mandate_1922_A.pdf

4. يمكن تحميل كتاب إيلان بابيه (التطهير العرقي في فلسطين) مجانا كملف (pdf)، عن طريق الرابط أدناه.
https://ketabpedia.com/download/398168/



#نادر_عبدالحميد (هاشتاغ)       Nadir_Abdulhameed#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاستعداد الاِستباقي للثورة المضادة في إقليم كوردستان العراق
- إقليم كوردستان العراق في الخارطة الجيوسياسية والجيوإقتصادية ...
- بين سطور رسالة اوجلان
- وجهة نظر طبقية حول التحولات السياسية في سوريا
- نتائج إنْتِخابات الدَّوْرَة السادسة لإقليم كوردستان، التحليل ...
- التحولات السياسية في بنغلاديش وآفاق النضال الطبقي
- الحرب في أوكرانيا والحفاظ على الاستقلال الطبقي
- جذور الفاشية المعاصرة في إسرائيل
- ربيع کوردستان، تلاحم المأساة والهبات الثورية
- إقليم كوردستان، إفلاس السلطة وعجز الحركات الاحتجاجية
- إقليم كوردستان العراق، إفلاس السلطة وبديلان واقعيان
- الدرس الأهم، في الذكرى الثانية والثلاثين للحركة المجالسية في ...
- كيف ننظم الحركة الإحتجاجية الطلابية في إقليم کوردستان العراق
- كوردستان العراق، إطالة عمر البرلمان ومتاهات المعارضة
- الصراع الأصلي في كوردستان العراق، صراع بين الحركة الشيوعية و ...
- مكانة تيار الإسلام السياسي في إقليم كوردستان العراق
- مكانة البرجوازية القومية الكوردية والإقليم الخاضع لها في إعا ...
- تجربتان من افغانستان
- إقليم کوردستان العراق، موقفان متضادان تجاه الانتخابات المبكر ...
- حول النهضة الإسلامية وظهور الإسلام السياسي


المزيد.....




- السيسي يستقبل خليفة حفتر ونائبه.. وبيان رئاسي يكشف ما بحثوه ...
- شهادة صادمة.. سائق في الجيش السوري بعهد الأسد يكشف لـCNN عن ...
- الكشف عن -أسد- التميمة الرسمية لنهائيات كأس أفريقيا 2025 الت ...
- تحقيق -ملفات دمشق-: ما هو جهاز - الراشدة- الذي استخدمه نظام ...
- أحمد الشرع: العلاقات مع تركيا والسعودية وقطر والإمارات -مثال ...
- سوريا : احتفالات بالذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد
- الاتحاد الأوروبي يصادق على إجراءات تهدف إلى تشديد سياسة الهج ...
- -إعلان غرناطة- يضع أسسا عالمية لمكافحة الإسلاموفوبيا بختام م ...
- رئيس المجلس الأوروبي: لن نقبل بتدخلات وتهديدات أميركا في سيا ...
- الأميركيون من أصول صومالية يحملون جوازاتهم بالشوارع خوفا من ...


المزيد.....

- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نادر عبدالحميد - سلام بلا فلسطينيين، حول خطة ترامب للشرق الأوسط