أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)















المزيد.....


المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 17:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في المقال السابق، رأينا كيف أفسدت حركة النهضة نتائج الثورة، وكيف قوّضت إمكانية بناء نظام ديمقراطي في تونس، مما أعاد تشكيل نظام الحكم الفردي في ثوبٍ جديد.

في هذا المقال، نستكشف الطبيعة التكوينية للإسلام السياسي، كأحد أهمّ معيقات بناء الديمقراطية

أولًا: لا ديمقراطية بلا مشروع وطني

عرفت تونس، منذ سنة 2011، انتقالًا سياسيًا فريدًا في العالم العربي، إذ مثّل لحظة تاريخية استثنائية فتحت أفقًا نحو الديمقراطية بعد عقود من السلطوية. غير أنّ ما سُمّي بـ"الانتقال الديمقراطي" لم ينجح في ترسيخ مؤسسات الحكم، ولم يتأسّس على ركائز تسمح ببناء نظام حكم ديمقراطي لأنّ النخبة التي تولت الحكم، لم تلتفت لمطالب الناس المادية والمعنوية. وانشغلت بسؤال "من يحكم؟" بدل التوافق على سؤال "كيف نحكم؟"
لذلك أُجريت الانتخابات، ووُضع الدستور، وتكاثرت الأحزاب، غير أنّ كلّ هذه المظاهر الشكلية لم تُنتج نظامًا ديمقراطيًا مستقرًّا، بل أسست لحالة من التشظي والانقسام السياسي والمجتمعي، نتيجة غياب رؤية اقتصادية وإدارية واضحة ومتفق عليها، من جهة تُلطِّف آثار الأزمة الاقتصادية وانعكاسهاتها المباشرة على معيشة الناس، ومن جهة أخرى تضمن فعالية الدولة واستمراريتها.

ثانيًا: ماهي شروط الانتقال الديمقراطي وماهي أسباب فشله في تونس؟

من خلال دراسة تجارب الانتقال العديدة تبيّن أن بناء الديمقراطية في بلد يعيش أزمة اقتصادية حادّة، ومؤسسات مترهّلة، وضغوطًا مالية خارجية متفاقمة، لا يمكن أن يتحقق بآليات شكلية كالتصويت والتداول على السلطة فقط، بل يتطلب مشروعًا وطنيًا جامعًا يحدّد أولويات الحكم، وآلياته، وحدود التنافس السياسي داخله.
فالديمقراطية بهذا المعنى ليست "نتيجة تلقائية للانتخابات"، بل ثمرة توافق وطني طويل النفس، يتأسّس على إدراك جماعي لمقتضيات المرحلة الانتقالية، وضبطٍ عقلانيٍ للعلاقات الجديدة بين الشعب والدولة، وبين البعد الديمقراطي للنظام السياسي (فصل السلطات وتحييد الإدارة) وبين المضمون الاجتماعي للديمقراطية (إنتاج الثروة وإعادة توزيعها على أسس جديدة).
ولعل المفتاح الاستراتيجي لنجاح عملية الانتقال من السّلطوية الى الديمقراطية في أيّ بلد، هو أولا وقبل كل شيء مدى تفاهم النخب على وضع برنامج عاجل لمحاربة الفقر وتحسين شروط حياة الناس المعيشية، حتى تبني شبكة آمان شعبية تحمي الديمقراطية. وثانيا، مدى قدرتها على رفض الخضوع لجماعات المصالح، والتخلي عن ذهنية الانتقام والاقتلاع، واستعدادها لتسوية تاريخية أساسها عدالة انتقالية نزيهة قائمة على الاعتراف والاعتذار وجبر الخواطر وطيّ صفحة الماضي.
بعد ذلك تأتي بقيّة العوامل البنيوية التي تشكّل بتظافرها شروط الانتقال الديمقراطي:
• حد معقول من الاستقرار الاقتصادي.
• تحرّر مؤسسة القضاء واستقلالها التامّ.
• الإجماع على الدولة، وإيمان النّخب بحق الشعب المطلق في أن يُشرّع للأمور العامة. وبأن الدّستور وُضِع لكي يجعل حدود السلطات، ويضمن الحقوق والحريات .
• غلق المنافذ على التدخل الخارجي.
• طبيعة القطاع الخاص غير الإجرامية ودرجة التزامه بالعمل ضمن القانون.
• درجة تطور المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية.
• درجة انخراط النخبة الإدارية العليا في عملية الانتقال الى الديمقراطية.
• المساواة ودرجة انخراط النساء في الشأن العام.
• مستوى التمدرس.
• حجم الطبقة الوسطى.
• غياب طموح الحكم لدى المؤسسة العسكرية.

ثالثًا: خصوصية المجتمع التونسي كحاضنة للدولة الحديثة

لو طبّقنا هذه الشروط على واقع تونس لتوصّلنا إلى استنتاجات جدّيّة تؤكّد أنّ جميع شروط العلوم السياسية للانتقال الدّيمقراطي مُتوفّرة ومجتمعة في بلدنا. وبالمناسبة يصعب أن تتوفرة مجتمعة بالكامل في أيّ بلد آخر، لا عربي ولا أجنبيّ. فهذه الخصوصيه لها علاقة بعوامل تاريخية وجغرافية وثقافية وديمغرافية، تفاعلت جميعها بحيث كان هنالك تأثير لكلّ عنصر في باقي العناصر. ومحصّلة ذلك التفاعل عبر قرون، هي الوحدة السكّانية المتينة واستقرار الحدود وما ينجم عنه اندماج السكان واستمرار مؤسسة الدولة وولاء الناس لها.
ومن المؤكد أنّ هذه العوامل، هي التي بَنَت لغة التواصل وطبيعة العقد الاجتماعي، والعادات والمعتقدات وتجارب التّأمّل، والعلاقة بالأرض وبالطبّ وبالأحوال الشخصية وبقضيّة العبودية وبوضع المرأة، وبسلوك الناس، وبقدرتهم على التكيّف، وتواصلهم واختلاطهم ببعضهم البعض، وسهولة استيعاب البلد للبرّاني وسرعة دمجه في نسيجها.. وحتى طبيعة الأهازيج الموسيقية لها علاقة بهذه العوامل التونسية الخالصة، التي لا يمكن شطبها، ولا نقلها. وأعتقد أنهاّ ستنعكس، في العهود الأخيرة على "الهوية الوطنية"، التي كانت أساس المواجهة مع الاستعمار الفرنسي طيلة النصف الاول من القرن العشرين. وستنعكس على محاولات التنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعلى التعليم ودرجة التمدّن. وعلى الفن والأدب. وعلى منسوب الانفتاح على المنجز العلمي. وعلى التطلّع للاندماج المغاربي والعربي. وعلى مستوى الاتصال والتواصل مع الشعوب الأخرى. وأخيرا على استعداد التوانسة لتأسيس نظام ديمقراطي يصون الحرية والكرامة للجميع.

رابعًا: حدود المقارنة بين التجارب الأوروبية والتجربة التونسية

على الرّغم من أن هذه الاستنتاجات حول شروط الانتقال إلى الديمقراطية يمكن تعميمها، فمن الخطأ إسقاط تجارب الانتقال الأوروبية على الحالة التونسية على نحو تُغفل معه الفوارق البنيوية والمحيطية. ففي سبعينات القرن العشرين، احتضنت أوروبا الغربية الانتقال الديمقراطي في إسبانيا والبرتغال، ودعمته بالمال والاستثمارات والضمانات الأمنية. وكذلك في التسعينات، تحوّلت دول أوروبا الشرقية من حكم الحزب الواحد إلى التعدّدية، تحت المظلّة الأوروبية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، لأنّ أروبا الغربية كانت تخشى على استقرارها من انهيار الأوضاع الإنسانية والامنية على حدودها وداخل فضائها القاري. أما في تونس، فالوضع كان معكوسًا تمامًا، بحيث واجهت التجربة التونسية تصميمًا أجنبيًا واضحًا على إفشالها، حتى لا تتحوّل إلى نموذج عربي يهدد أنظمة الحكم الوراثية في الخليج، حيث منابع النفط.
وهكذا وُجدت الديمقراطية التونسية في بيئة عدائية خارجيًا، وهشّة داخليًا، فكان فشلها حتميًا ما دامت افتقدت للسند الإقليمي وللإجماع الوطني الصلب القادر على حمايتها من التفكك والانقسام. وهنا، في قلب هذا الموضوع، يأتي الحديث عن حركة النهضة كأحد أهم عوامل الفشل في التجربة التونسية، بوصفها معول التخريب الأوّل الذي مسكت به الرجعية في الإقليم والعالم لنسف مضمون الثورة.

خامسًا: الإسلام السياسي كعقبة بنيوية أمام بناء الدولة الحديثة

كُنّا نؤمن بِحقّ الإسلاميين في المشاركة كحزب سياسي، مثلهم مثل كل التيارات الفكرية، معتقدين أن إقصاء الإسلاميين، أو أي تيار آخر هو تقويض لإمكانية بناء الديمقراطية، مُطمئنًّين لكون تونس صاحبة أعرق الدساتير المكتوبة في التاريخ، لا يُخشى عليها من التطرّف. فهي البلد الذي حرّم العبودية قبل الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا. وهي التي كتبت منذ قرنين دستور عهد الأمان، الذي سوّي بين جميع السكّان على اختلاف دياناتهم حين كانت معظم أمم الدنيا تعيش عهود الظلمات. وهي التي أنجبت نخبة فرضت عملية إصلاح متدرّجة داخل المؤسسة الدينية وداخل الدولة والمجتمع. فمن الطبيعي، بعد كل هذا الميراث الشاهق، أن تكون المساواة مسألة محسومة. وكذلك الديمقراطية واحترام القانون. ولكن بعد أن وصلت حركة النهضة للحكم. بعد تجربة الاغتيالات المرة، صرنا نُكرّر تلك الحكمة التي تقول: "إن النظرية رمادية اللون، وحدها شجرة الحياة خضراء إلى الأبد". وفهمنا بأن تونس ما كانت لتصل إلى هذا الوضع المُهين، لولا هذا الجسم الغريب عليها وعلى أهلها وعلى إسلامها.

بدأت المؤامرة على الثورة بمخطط ايصال حركة النهضة للحكم لأنها الحركة الوحيدة القادرة على تخريب الثورة وإفساد نتائجها من خلال تفتيت تلك الكتلة الإجتماعية العظيمة التي هبّت وأسقطت نظام بن علي، وذلك بتغيير طبيعة الصراع على العدالة والحرية والكرامة، إلى صراع مُفتعل بين مسلمين وكُفّار. وبالفعل سرعان ما انقسم الشارع بمجيء الرايات السوداء. ومباشرة بعد سقوط نظام بن علي، وبالتوازي مع نشاط القناصة، نشطت حركة أموال هائلة لم تعرفها الساحة العربية في تاريخها، وبدأت الإمدادات تصل من الخليج العربي، وأُقيمت روابط وصلات لم تكن متصورة من قبل، جمعت أمراء دول سُلالية مع دُعاة للجهاد مع أنصاف مثقفين ليبراليين وحداثيين، وضباط جيش واستخبارات، مع مستثمرين بخلفيات غربية، وعصابات من اللصوص والمهربين والقتلة، ورجال أمن مفصولين، وأشباه ثوريين، وأُطلق سراح سُجناء متطرفون من أروبا وتونس. واشتغل الجميع على إيصال الإخوان المسلمين للحكم لتغيير مسار الثورة وجرّها إلى المُستنقع.

الإسلام السياسي وُلِد ضدّ الدولة الحديثة

عندما نتحدث عن جذور التيار الإسلامي السياسي، غالبا ما يتوقف الدّارسون في عشرينيات القرن الماضي عندما ظهرت جمعيّتيْ "الشبان المسلمين" و"الإخوان المسلمين" في مصر. والحقيقة أن هنالك بداية أبعد قليلا ارتبطت بمواجهة التنظيمات العثمانية (أربعينات القرن التاسع عشر)، وهو برنامج واسع النطاق أطلقه الباب العالي بالتعاون مع الفرنسيين لتحديث الدولة ونمط الاجتماع، وبناء علاقة من نوع جديد بين الدولة والمجتمع، قاده رجال حكم كبار، مثل رشيد باشا، فؤاد باشا، وعلي باشا الذين سعوا إلى استبدال مؤسسة الدولة التقليدية محدودة السلطات بنموذج دولة حديثة مركزية لها سيطرة مطلقة على أرضها وشعبها. وهكذا تمّ إلغاء الأنظمة الوسيطة الضرائبية، وتأسست علاقة ضرائبية مباشرة بين الدولة وموطنيها. وتم تنظيم الجيش ليصبح مؤسسة محترفة على ذمّة وزارة الحربية المُستحدثة. كما سيطرت الدولة على مجال التعليم، فأنشأت وزارة مركزية لنشر التعليم الحديث والتحكم في المناهج، وأُلغي نظام القضاء التقليدي ومرجعيته الفقهية التي ظلت متروكة بيد "العلماء" منذ بزوغ الإسلام. ثم، وبالتّدريج وضعت هذه الدولة الناشئة يدها على قطاع كبير من الأوقاف لتعزيز مصادر دخلها، وتوفير الأموال الضرورية لتلبية حاجات مؤسسة الحكم والإدارة المتسعة بصورة غير مسبوقة في تاريخ الاجتماع الإسلامي.

هذا المشروع التحديثي الجديد ولّد عددا من التطورات، أبرزها:
وُلِادة وزارة عدل بنظام عدلي حديث وقوانين تُشرّعها الدولة. وقد استبطن المشروع التحديثي قوانين وتشريعات زمنية وضعية لا تخضع تمامًا للفقيه كما كان الحال في السابق.

التطور الثاني، تمثّل في التضخم الهائل لجسم البيروقرطية الإدارية وتوسّع سلطاتها، بحيث لم يعد القضاء وأمور الزواج والطلاق والتربية والتعليم والفتوى متروكة لطبقة العلماء، وبالتالي لم يعد الإصلاح ممكنا بأهل الحل والعقد من خلال النّصح والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإنما أصبح مرتبطا بإسقاط هذه الدولة "الكافرة" ذات السيطرة المطلقة على كل مناحي حياة الجماعة المسلمة من حماية حدود الامبراطورية، إلى التجارة والأمن والمؤونة والتعليم والتشريع والضرائب.

كان لهذه التطورات الكبرى تأثيرات على الاجتماع الاسلامي، طالت المكانة الاجتماعية لطبقة العلماء وطالت امتيازات وجهاء السلطنة الذين هُمّشوا وضُرِبت مصالحهم المادية بسبب سيطرة الدولة على الأوقاف، وضُرِبت مكانتهم المعنوية حين سُحبت منهم مهام القضاء والتعليم. ولذلك شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر عددًا من الثورات المناهضة لما يعرف ب"عهد التنظيمات" قادتها جماعة سمّت نفسها "العثمانيين الشبان"، أو "العثمانيين الجدد" مثل شِيناسي ونامق كمال، ومدحت باشا... وغيرهم من الذين اعتبروا الدولة الجديدة مؤسسة استبدادية تدمر قيم الاسلام بهدف توكيد احتكارها للسلطة والحياة. والحل عند "العثمانيين الشبان"، هو العودة إلى النظام التقليدي ما قبل التنظيمات. ولأول مرة في تاريخ المسلمين تولد معارصة تطالب ب"العودة إلى الشريعة"، واضعين بذلك أسس التماهي بين الدولة المركزية الحديثة والكُفر، وبين نظام الحكم التقليدي وحكم الشريعة.
رُفِض مطلب العودة إلى ما قبل دولة التنظيمات، واستُهجِن شعار "العودة للشريعة". ذلك أن الشريعة في الموروث الإسلامي مثلت "خطاب المجتمع" وليس مؤسسة قانونية علوية قائمة بذاتها ومفروضة على رعايا السلطنة. بمعنى أن الشريعة كانت الفضاء الذي يتشكل فيه السلوك العام للناس، ومعايير العلاقات، فهي ثقافة الجماعة المحلية. فلِكل إقليم شريعته ولغته وعاداته وتقاليده، ومقاييس المعروف والمنكر في حياته. ولذلك كانت الدعوة ل"العودة إلى الشريعة" غير واقعية لأن أصحابها صوّروا الشريعة باعتبارها وضعًا تشريعيا كان قائما وجرى "التخلي عنه" ويجب "العودة إليه". وظلت هذه الجماعة تكفّر الدولة وتشنّ عليها الغارات لما يقارب أربعين عاما، إلى أن جاء عبد الحميد بداية الثمانينات ليقضي عليها نهائيًا
في العقود اللاحقة، سيظل صدى هذا الخطاب التكفيري العنيف يتردّد، ليؤدي في النهاية إلى ولادة التيار الإسلامي السياسي مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

دون إطالة اصطدمت الدولة العربية الحديثة، مباشرة بعد ولادتها، بعدوّ لدود، يسكن بين ضلوعها، ويتربّص بها لتحطيمها. وسرعان ما انفجر العنف في مصر، من اغتيال النقراشي في أربعينات القرن الماضي، ومحاولة قتل عبد الناصر بغطاء بريطاني في حادثة المنشية في الخمسينات، وصولا إلى اغتيال السادات آواخر السبعينات. ثم توسّع ليطال سوريا في الثمانينات، والجزائر في التسعينات.. وبعد ذلك، أو بسببه ولدت الجماعات الإسلامية المسلحة العابرة للحدود والقارات من رحم جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها الجماعة الأمّ.

خلاصة القول، والحقيقة المركزية التي يجب الانتباه إليها وزيادة النظر فيها وتفكيكها وإعطائها من الجهد البحثي لفهمها على نحو أكثر وُضوحًا، هي أن جماعات الإسلام السّياسي وُلِدت في أصلها وجذورها ضدّ قيام الدولة الحديثة. وهي بهذا المعنى قوى طُفيليّة مُعطّلة لمسار التاريخ، ومن المؤسف القول بأنّ بناء الديمقراطية في ظل وجود هذه الجماعات هو ضرب من الوهم. وهذا بالضبط ما يُفسّرُ الخراب الذي تُخلّفه هذه القوى كُلّما عثر التاريخ ومكّنها من الحكم في أي بلد من البلدان. وهو أيضا ما يُفسّر فشل التجربة الديمقراطية في تونس. إذا لا يمكن بأية حال من الأحوال بناء نظام ديمقراطي بالتعاون مع طرف سياسي مُسلّح خارج القانون، تقوم عقيدته على رفض الدولة نفسها، مُستعينا بالتكفير والعنف والإرهاب ورفض الانسجام مع قيم العصر. وهذا في حدّ ذاته يمنع قيام مرجعية وطنية جامعة، ويمنع ولادة طبقة سياسية متفاهمة على الحد الأدنى من عقلنة السياسة وقيادة البلاد إلى الأمام ...
ولا يمكن لأي مجتمع عربي أو مسلم أن يتحرك إلى الأمام ما لم يحسم الإجماع حول دور الإسلام وموقعه في المجال العام، على نحو يجعل من قضايا الإجماع الداخلي حول مصير البلاد ثقافة اجتماعية راسخة. وما دام هنالك إسلام سياسي ستظل هذه المجتمعات تُصارع أسئلة الديمقراطية والحريات والهوية والمواطنة ودور الدولة وعلاقاتها بالعالم، وأيضا أسئلة الفقر والتنمية. فشعوب ونخب لا تستطيع التوافق الأدنى حول المسائل الكبرى التي تُبنى عليها الأوطان والأمم، ستبقى عُرضة للتمزق والحروب الداخلية والفساد والعنف والتطرّف بشتّى أنواعه.

سادسًا: من فشل التوافق إلى انهيار الثقة الوطنية

لم تقتنع النخبة السياسية "الديمقراطية" في تونس بأن حركة النهضة تيار إرهابي مُخادع، كلّما ضاقت عليه الخيارات وفقد أوراق القوة، يلجأ إلى التقية، ويلبس قناع الحداثة والديمقراطية، ويرفع شعارات التوافق والعلمانية وحقوق المرأة، فقط ليكسب الوقت ويطمئن خصومه. لكن ما أن يتمكّن ويُحكم قبضته، حتى يعود إلى ممارساته الأصلية: أسلمة المجتمع، تشغيل الجهاز السري، الاغتيالات والترهيب، وإحياء خطاب الجهاد تحت الشعار المركزي "الإسلام هو الحل".
لم تدرك النخبة المعطوبة عندنا، أن هذا التيار سيظلّ واقفا خارج المشترك الوطني، ورافضًا لأيّ إجماع. وسيظل يترصّد فرصة توفّر ظروف تُمكّنه من هدم الدولة، وهدم مكاسب المجتمع، حتى يعود بها إلى زمن السّيبة والتسيّب، أو ما يعتقد انه "زمن الشريعة".
لم تفهم هذه النخبة أن مهمة بناء دولة ديمقراطية تبدأ بعزل الإسلام السياسي، لا بالأمن والمحاكم، بل من خلال إجماع باقي الطيف السياسي على الحد الادنى الجمهوري الديمقراطي. وعلى أساس ذلك الإجماع سيتمكّن التوانسة من بناء مؤسسات دستورية حقيقية غير مغشوشة، ونظام ديمقراطي حقيقي غير مغشوش. أمّا وحركة النهضة موجودة كحزب سياسي يندمج بالإرهاب، ويستقوي على الدولة بجهاز سرّي، ويضع رقبة تونس على ذمة دول وجماعات أجنبية. فإن الحلم بأن هذا البلد سيستقرّ، أو يبني حجرا، أو يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، هو أمر مستحيل، وضرب من الخيال.

إذن وجود حركة النهضة في حد ذاته شكّل عائقًا من عوائق الاستقرار، وعاملا رئيسيًا من عوامل إجهاض التجربة الديمقراطية. والتحدّي الأخطر هو أن الضمير الجمعي للشعب التونسي أو "تونس العميقة" (إذا صحّ التعبير) بعد أن جرّبت حكم هذه الجماعة، لن تقبل بحكم أي نخبة تتحالف معها. ذلك أن المجتمع التونسي "مجتمع دولةٍ" يرفض السّيبة منذ قرون، وعنده ذاكرة ومخزون ثقيل من الدّروس. وبرأيي، سقطت النهضة حين استفزت ذاكرة المجتمع بتعمّدها تخريب الدولة وإضعافها. حينئذ فقط أُصيب المجتمع في الصميم وحسم أمره في مسألة عودتها للحكم.

هذه بلاد ذات حدود مستقرة منذ آلاف السنين، واستقرار الحدود ساعد على نوع من استقرار الهوية واندماج السكان، وسهّل تحوّلهم في العصر الحديث إلى شعب موحّد يمتلك ثقافة متراكمة، وحركة إصلاح مستمرة، ونُخبًا لعبت دائمًا دور الوسيط بين الدولة والمجتمع.
ولم يعرف هذا الشعب فراغًا سياسيًا أو ثقافيًا حقيقيًا منذ قرون، إذ ظلّت الدولة، في أشكالها الحفصية ثم الحسينية ثم الوطنية تتّكِأُ على نخبة البلاد، ما سهّل تحوّلها إلى الإطار الجامع مُحافظا على استمرارية المؤسسات وعلى حدٍّ أدنى من التوازن الاجتماعي.
ومن هنا يمكن القول إنّ المجتمع التونسي يقوم، في عمقه التاريخي، على "عقد اجتماعي ضمني" يربط بين الشعب والدولة، بما يضمن استمرارية تغذية الثقة في منظومتها الرمزية. بحيث يستحيل على أي حركة سياسية تونسية أن تنجح في كسب ولاء الناس إن كانت معادية للدولة.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- العقلانية كشرط للسيادة: تونس بين صخب الشعارات ومتطلبات الدبل ...
- تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي
- بين السلطة والاتحاد: هشاشة الداخل ومساحات النفاذ الأجنبي
- السيادة الوطنية
- عوامل سقوط النظام
- سوريا ليست تونس: نقد القياس السياسي وبيان شروط سقوط الأنظمة.
- المسافة بين التجربتين: في بطلان قياس تونس على سوريا.
- التونسيون ليسوا ضد الديمقراطية، بل ضد من يختزلها في تجربة ال ...
- بين خطاب -التاسعة- وواقع العولمة: هل كلّ ناشط في المجتمع الم ...
- براغماتية الدولة: قراءة في التصويت الجزائري على القرار الأمر ...
- القرار 2803 أخطر ما صدر عن مجلس الأمن بشأن فلسطين منذ تأسيس ...
- منطق السلطة بين تطبيق القانون وحماية أمن الدول
- هل المشكل في الفساد أم في مكافحة الفساد؟ قراءة نقدية في الخط ...
- المشهد الرّمزي حول زيارة أحمد الشرع لواشنطن
- فوز زهران ممداني: بداية التحول البنيوي في المشهد الأمريكي
- مشروع قرار أمريكي لمجلس الأمن بصدد -إنشاء قوة استقرار دولية ...
- خصوصية الانتقال الديمقراطي في تونس وعوامل فشل التجربة
- لماذا لم يدافع الشعب التونسي عن -الديمقراطية-؟


المزيد.....




- السيسي يستقبل خليفة حفتر ونائبه.. وبيان رئاسي يكشف ما بحثوه ...
- شهادة صادمة.. سائق في الجيش السوري بعهد الأسد يكشف لـCNN عن ...
- الكشف عن -أسد- التميمة الرسمية لنهائيات كأس أفريقيا 2025 الت ...
- تحقيق -ملفات دمشق-: ما هو جهاز - الراشدة- الذي استخدمه نظام ...
- أحمد الشرع: العلاقات مع تركيا والسعودية وقطر والإمارات -مثال ...
- سوريا : احتفالات بالذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد
- الاتحاد الأوروبي يصادق على إجراءات تهدف إلى تشديد سياسة الهج ...
- -إعلان غرناطة- يضع أسسا عالمية لمكافحة الإسلاموفوبيا بختام م ...
- رئيس المجلس الأوروبي: لن نقبل بتدخلات وتهديدات أميركا في سيا ...
- الأميركيون من أصول صومالية يحملون جوازاتهم بالشوارع خوفا من ...


المزيد.....

- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)