|
|
مسارات الفلسفة الالمانية واتجاهاتها من التنوير الى النقد المعاصر
مكسيم العراقي
كاتب وباحث يؤمن بعراق واحد قوي مسالم ديمقراطي علماني بلا عفن ديني طائفي قومي
(Maxim Al-iraqi)
الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 17:37
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفلسفة الالمانية كديالكتيك للوعي والنهضة تعد الفلسفة الالمانية، التي نشات وتطورت منذ القرن السابع عشر، واحدة من اكثر التيارات الفكرية تاثيرا وعمقا في التاريخ البشري، اذ لم تقتصر على معالجة الاشكالات الميتافيزيقية والابستمولوجية فحسب، بل قامت بدور محوري في صياغة الوعي القومي والتحولات الاجتماعية والسياسية في المانيا واوروبا. وقد تميز هذا المسار بطابع نقدي متواصل، يسعى فيه كل جيل لتجاوز سلفه مع الاحتفاظ بادواته المنهجية. يتناول هذا التقرير تحليلا شاملا لاتجاهات الفلسفة الالمانية، بدءا من جذورها العقلانية، مرورا بذروة المثالية التي ولدت الماركسية، وصولا الى التيارات النقدية والظاهراتية في العصر الحديث. ((ملاحظة: الميتافيزيقية: هي فرع الفلسفة الذي يدرس طبيعة الوجود والواقع المطلق والماهيات، والاسئلة التي تتجاوز حدود التجربة الحسية مثل الله والكون والروح. الابستمولوجية: هي نظرية المعرفة، وتهتم بدراسة كيفية اكتساب المعرفة البشرية، ومصادرها (العقل او الحس)، وتحديد شروط وقيمة المعرفة الحقيقية. التيارات النقدية: هي مدرسة فكرية (مدرسة فرانكفورت) ظهرت في القرن العشرين، هدفها الاساسي هو ممارسة النقد الاجتماعي الراديكالي للحضارة الغربية. تسعى هذه التيارات الى تحقيق التحرر الانساني من خلال تحليل اشكال الهيمنة والاستغلال، والكشف عن تناقضات المجتمع الحديث وهيمنة العقلانية الاداتية. الظاهراتية: هي منهج فلسفي (اسسه ادموند هوسرل) يركز على الوعي القصدي Intentional Consciousness والتجربة الذاتية. تهدف الى دراسة الظواهر كما تظهر مباشرة في الوعي، من خلال "تجميد" الحكم على الحقيقة الموضوعية. وقد طورها مارتن هايدغر لاحقا الى "ظاهراتية مفسرة" تركز على تفسير الكينونة. ))
(1) الجذور التأسيسية ومقدمات الثورة النقدية شهدت المانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر بدايات تاسيس منهج فلسفي صارم، وضع اللبنات الاولى للثورة المعرفية التي قادها ايمانويل كانط لاحقا. 1. العقلانية المنظمة في القرنين السابع عشر والثامن عشر تعود المراحل التاريخية المبكرة للفلسفة الالمانية الى القرن السابع عشر مع الفيلسوف غوتفريد لايبنتس Gottfried Wilhelm Leibniz، الذي يمثل ذروة العقلانية الاوروبية ومنظريها الرئيسيين. كانت فلسفته نظامية وشاملة، تركز على المونادات (الجواهر الفردية)، وتسعى لحل التناقضات الميتافيزيقية. وفي القرن الثامن عشر، برز كريستيان فولف Christian Wolff الذي عمل على تنظيم وتصنيف تراث لايبنتس الفلسفي. هذا التنظيم المنهجي هيأ الاجواء الاكاديمية والتعليمية في الجامعات الالمانية لتقبل التحديات الفلسفية الاكثر جذرية التي ستاتي مع ايمانويل كانط. ((المونادات (الجواهر الفردية): مفهوم فلسفي مركزي للفيلسوف الالماني لايبنتس، وتشير الى الجواهر الفردية او الوحدات الاساسية والغير قابلة للقسمة التي يتكون منها الوجود، وكانت محور فلسفته النظامية في القرن السابع عشر.)) 2. ايمانويل كانط ثورة العقل المتعالي Transcendental Critique يعد ايمانويل كانط (1724-1804) النقطة المحورية التي غيرت وجه الفلسفة الالمانية والعالمية. فقد جاء بمشروعه النقدي ليمثل نقطة التقاء وتوفيق بين العقلانية والتجريبية. كان المشروع النقدي لكانط، والموضح بشكل اساسي في كتابه نقد العقل المحض، ثورة كوبرنيكية، حيث لم يعد العقل مجرد متلق سلبي للمعلومات من العالم الخارجي، بل اصبح مشاركا فعالا في صنع المعرفة وتنظيمها. • عالم الظواهر وعالم الاشياء في ذاتها ولتحقيق ذلك، اقام كانط تمييزا جوهريا بين عالمين: عالم الظواهر Phenomena: وهو العالم كما ندركه بحواسنا وننظمه من خلال القوالب الذهنية القبلية (مثل مقولتي الزمان والمكان)، وهو المجال الوحيد الذي يمكن للعقل النظري ان يحقق فيه معرفة يقينية. وعالم الاشياء في ذاتها Noumena: وهو حقيقة العالم المطلقة والغيبيات (مثل الله، خلود النفس، حرية الارادة) التي تتجاوز قدرات العقل النظري وتوقعه في التناقض والوهم. في هذا السياق، يشار الى ان البناء الفلسفي لكانط، خاصة فيما يتعلق بمسالة الابستمولوجيا، كان مبنيا على اسس فيزيائية تاريخية محددة. فقد اعتمد كانط على فيزياء اسحاق نيوتن، وتحديدا تصوره بان "الزمان لا نهاية له والمكان فضاء ممتد" (الزمان والمكان تصورات قبلية مطلقة). وقد ادى التطور العلمي والفيزيائي اللاحق الى خلخلة اركان هذه الاسس، حيث ثبت فيزيائيا ان الزمان ليس ممتدا وان الفضاء ليس بعدا موجودا بنفسه، مما يوضح ان حتى اكثر اليقينيات الفلسفية عمقا يمكن ان تكون مشروطة تاريخيا ومعرفيا. ومع ذلك، تبقى اهمية كانط في المنهج النقدي الذي حرر الفكر من الدوغمائية والشك المطلق. • تأسيس الاخلاق الكونية الامر المطلق بعد تحديد حدود العقل النظري، انتقل كانط الى مجال العقل العملي (الاخلاق) ليفتح الباب امام الحرية والايمان العقلاني. ويعتبر مفهوم الامر المطلق Categorical Imperative الركيزة الاساسية في فلسفته الاخلاقية. الامر المطلق هو المبدا الاخلاقي الاسمي الذي تستمد منه كل الواجبات الاخلاقية. وهو يسمى امرا لانه يفرض مسارا سلوكيا محددا، ومطلقا لانه يامر من دون قيود، وبشكل مستقل تماما عن غايات الفاعل الاخلاقي او رغباته (الارادة الحسنة). فالارادة الخالصة هي ارادة فعل الخير، ليس كميل حسي، بل كواجب Devoir. وتتمثل الصيغة الاساسية للواجب في كونية القانون، بحيث تكون القاعدة الاخلاقية شاملة للجميع دون استثناء، وتنتهي بتخليق الانسان.
(2) ذروة المثالية الكلاسيكية والجدل الهيغلي مثلت المثالية الالمانية في مطلع القرن التاسع عشر، التي ضمت فيشته وشيلنغ وهيغل، ذروة الطموح الفلسفي لتجاوز الحدود الكانطية وبناء نظام كوني شامل يفسر الوجود والتاريخ كوحدة واحدة. بعد كانط، سعى الفلاسفة الى جعل "الانا" او "الذات" المبدا الوحيد للوجود. فقد حول يوهان غوتليب فيشته Johann Gottlieb Fichte التركيز من العقل الكانطي المحدود الى مفهوم "الانا المطلق" النشط والمنتج للواقع. لكن جورج فيلهلم فريدريش هيغل G.W.F. Hegel هو من قدم النظام الاكثر شمولا وتاثيرا. 1. هيغل الجدل والروح المطلقة تعتبر فلسفة هيغل نقطة تطور حاسمة في الفكر الفلسفي. وتتمحور رؤيته حول مفهوم الجدل (الديالكتيك)، الذي يعتبره هيغل ليس مجرد منهج للتفكير، بل هو القانون الداخلي الذي يسير عليه الوجود نفسه. فالجدل هو العملية التي يجعل بها كل شيء ينمو ويتطور عبر نقيضه (من خلال النفي والتجاوز او الاستيعاب). لقد قدم هيغل رؤية كلية للوجود والفكر (المنطق الهيغلي) حيث تتكون الحركة الجدلية من ثلاثة اركان اساسية هي: الفكرة الشاملة (الروح او الوعي المطلق)، والوجود، والماهية. والتاريخ كله بالنسبة لهيغل هو التطور التدريجي لهذه الروح الكلية Absolute Spirit عبر الزمن، سعيا لتحقيق الوعي الكامل بذاتها والحرية المطلقة. ضمن هذا المنظور، لا ينظر الى التغيير او الصراع على انه خسارة او فوضى، بل هو شرط للكمال، وهو الطريقة التي يتقدم بها الوجود. والانسان الذي يدرك هذه الحركة الجدلية، يدرك انه ليس متفرجا على التاريخ، بل هو تجل للديالكتيك نفسه، ويشارك في حركة الروح الكلية. 2. تطبيق الجدل على الوعي الاجتماعي جدل السيد والعبد احد المفاهيم الهيغلية الاكثر تاثيرا هو جدل السيد والعبد، الوارد في فينومينولوجيا الروح. هذا الجدل يوضح كيف يتكون الوعي الذاتي عبر الصراع والاعتراف بالآخر. وفي هذا الجدل، يعمل العبد ويحول الطبيعة، بينما السيد يستهلك منتجات عمله. كان لهذا المفهوم اثر عميق على كارل ماركس. فقد استخدم ماركس هذا الجدل لتحليل مفهوم الاغتراب في ظل الراسمالية. بالنسبة لماركس، فان العامل (الذي يمثل العبد) يفقد ذاته المجسدة في العمل، وتتحول منتجاته (التي اصبحت راس مال) الى قوة عدائية تستبد به وتزيد من هيمنة صاحب راس المال (السيد). هذا التحويل لصراع الوعي الذاتي الهيغلي الى صراع اقتصادي طبقي واغتراب العمل، كان مقدمة لمفهوم فائض القيمة والنقد الماركسي للراسمالية. ((فينومينولوجيا الروح هو العمل الفلسفي الرئيسي لجورج فيلهلم فريدريش هيغل، وهو عبارة عن ملحمة لتطور الوعي الذاتي والروح المطلقة عبر التاريخ. يصف هذا الكتاب المراحل المختلفة التي يمر بها الوعي البشري، من الادراك الحسي الى المعرفة المطلقة، وذلك باستخدام المنهج الجدلي (الديالكتيك) القائم على النفي والتجاوز. ويشمل مفاهيم اساسية مثل جدل السيد والعبد، الذي يوضح تكون الوعي عبر الصراع والاعتراف المتبادل.))
(3) نشأة الفلسفة الماركسية وتطوير الجدل المادي نشات الفلسفة الماركسية في منتصف القرن التاسع عشر كتحول جذري عن المثالية الالمانية، محافظة على منهجها الجدلي لكن مغيرة لمادتها الانطولوجية من "الروح" الى "المادة" (الاقتصاد والانتاج). 1. السياق الاقتصادي والاجتماعي لنشأة الماركسية ارتبط ظهور الماركسية بشكل وثيق بترسخ الثورة الصناعية وانتشارها في معظم البلدان الاوروبية في مطلع القرن التاسع عشر. ادى ظهور الراسمالية، كنظام اقتصادي جديد، الى تغيير شامل لوسائل الانتاج التقليدية، والاهم من ذلك، ادت الى تغيير البنى الاجتماعية. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، ادى النمو الراسمالي المتصاعد الى صعود الطبقة البرجوازية (ملاك المصانع وصغار التجار)، وتزايد هموم الطبقة البروليتارية (العمال). هذا الواقع الجديد هو ما وجه كارل ماركس نحو تحليل البنية التحتية (الاقتصاد) بدلا من البنية الفوقية (الفكرة). 2. الانشقاق الفكري والتحول المادي بعد هيغل، تعرضت فلسفته الجدلية لتاويل مثالي مفرط ادى الى تراجعها وابتعادها عن الواقع وصيرورة التناقضات الطبقية. وقد انقسم تلاميذه الى تيارين: اليسار الهيغلي (وعلى راسهم ماركس) واليمين الهيغلي. بدا ماركس في تكوين "ماركسيته" بالعودة الى العنصر الفلسفي الاصيل والاساس في فلسفة هيغل، وهو الجدل الهيغلي، لكنه عمل على تطويره واغنائه بما يعرف باسم المادية التاريخية والمادية الجدلية. كان الهدف من هذا التطوير هو الخروج من الاطار المثالي للفلسفة والجدل الهيغلي، والتركيز على الاساس المادي الذي يحكم التطور التاريخي والاجتماعي. بدات افكار ماركس الشاب بداية مثالية، لكنها سرعان ما انحنت منحى ماديا جديدا. بفضل هذا التحليل المادي، لم تعد الاشتراكية حلما طوباويا، بل قدمت كـ اشتراكية علمية، تستند الى تحليل منطقي لتناقضات الراسمالية تؤدي حتما الى تحول المجتمع. 3. مكونات النظرية الماركسية تتسم الماركسية بطابعها النظامي الشامل، وتنقسم عادة الى ثلاثة اقسام اساسية مترابطة هي: النظرية الماركسية للتاريخ وتعرف بالمادية التاريخية، التي ترى ان تطور المجتمعات يتم وفقا لتطور قوى الانتاج. الاقتصاد السياسي الماركسي وهو النقد الجذري للنظام الراسمالي، ويتمحور حول مفاهيم القيمة وفائض القيمة. الشيوعية العلمية وهي النظرية التي تتنبا بالتحول الثوري الحتمي نحو المجتمع اللاطبقي.
(4) فلسفة ما بعد هيغل نقد الميتافيزيقا والاسس في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تحول الفكر الالماني بشكل جذري، مبتعدا عن بناء الانظمة الكلية (مثل هيغل وماركس) نحو النقد الجذري للقيم (نيتشه)، واعادة التاسيس المنهجي (الكانطية الجديدة)، او التركيز على الوعي والتجربة الذاتية (الظاهراتية). 1. فريدريش نيتشه نقد الاصول الفلسفية والاخلاقية يعد فريدريش نيتشه Friedrich Nietzsche احد اكثر الفلاسفة الالمان تاثيرا في العصر الحديث، فهو يمثل قطيعة انطولوجية واخلاقية مع التراث الغربي كله. لقد مارس نيتشه نقدا جذريا للميتافيزيقا القديمة والحديثة على حد سواء. في نقده للاسس، هاجم نيتشه الفكر التاملي الذي لا يطابق الواقع، بدءا من سقراط وافلاطون، رافضا مركزية العقل الافلاطونية التي جعلت الحقيقة في "مقام اعلى" ومنفصلة عن الحياة. كما وجه نقده للفلسفة الحديثة، خاصة الكوجيتو الديكارتي (الذي يرى فهم الوجود يكون بالنفس) لان نيتشه ربط الوجود بالجسد. وانتقد كانط الذي قال بـ "الاخلاق المطلقة" وفكرة التعالي، واعتبر ان نجاح كانط لم يكن سوى "نجاح لاهوتي"، وان نقده للعقل ساهم في ترسيخ القوى الارتكاسية. ((انطولوجيا: هي فرع اساسي من الفلسفة (الميتافيزيقا) يدرس طبيعة الوجود والكينونة والماهية المطلقة للاشياء، ويهتم باسئلة مثل: ما الذي يوجد؟ وما هي حقيقة الاشياء. القوى الارتكاسية (Reactionary Forces) هي مفهوم نقدي يستخدمه الفيلسوف فريدريش نيتشه لوصف المبادئ والقيم التي تعمل على قمع الحياة والغريزة والارادة الفاعلة (الايجابية). في سياق نقد نيتشه لكانط، رأى أن الاخلاق المطلقة وفكرة الواجب المتعالية تساهم في تأصيل وترسيخ هذه القوى التي تسيطر على الانسان وتمنعه من تجاوز حدوده وتحقيق ذاته، مما يجعلها قوى مضادة للحياة والابداع في نظر نيتشه. )) تمحورت فلسفة نيتشه حول مفاهيم: • ارادة القوة Wille zur Macht: وهي قوة انطولوجية دافعة تسعى للتجاوز والتحقق. • موت الاله God is Dead: وهو اعلان عن انهيار منظومة القيم الغربية التقليدية التي كانت تعتمد على الدين كمصدر للاخلاق، مما قاد الى ظهور العدمية. ((العدمية (Nihilism) هي موقف فلسفي يتمحور حول انكار وجود هدف او معنى او قيمة موضوعية للحياة او الوجود. وقد اشتهر هذا المفهوم في الفلسفة الالمانية مع فريدريش نيتشه، الذي اعلن عن "موت الاله" (God is Dead)، معتبرا ان انهيار منظومة القيم الدينية والاخلاقية التقليدية في الغرب قد قاد الى ظهور العدمية، مما يتطلب من الانسان تجاوزها باعادة تقييم كل القيم. )) • الانسان الاعلى Ubermensch: الكائن الذي يتجاوز العدمية باعادة تقييم كل القيم. 2. الكانطية الجديدة وشوبنهاور العودة المنهجية للنقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين حركة فلسفية مهمة تعرف باسم الكانطية الجديدة Neo-Kantianism. كانت هذه الحركة بمثابة عودة الى كانط، مفضلة المنهج النقدي المتعالي على النظم الميتافيزيقية الكلية (مثل هيغل). لعب كتاب الفيلسوف ارثر شوبنهاور العالم ارادة وصورة، الذي تضمن نقدا لفلسفة كانط، دور "الشرارة الاولى" التي دفعت حركة العودة الى كانط الى نتائجها النهائية، وهي تاسيس الكانطية الجديدة. كان الفكر الفلسفي الالماني يتفاعل غالبا مع كانط نقدا وتقويما، مما يؤكد دوره كمنطلق معرفي دائم. 3. الظاهراتية الفينومينولوجيا هوسرل وهايدغر مثلت الظاهراتية، التي اسسها ادموند هوسرل Edmund Husserl، تحولا فلسفيا عميقا في القرن العشرين، حيث ركزت على "الوعي القصدي" وتجربتنا الذاتية. هدف هوسرل في اعماله مثل بحوث منطقية و تاملات ديكارتية الى تجميد الحقيقة الموضوعية بغية التركيز على الوعي كوعي بشيء ما، حيث لا يفهم الزمن كمعطى فيزيائي، بل كتدفق داخلي في وعينا. تاثر تلميذه مارتن هايدغر Martin Heidegger بشدة بالظاهراتية، لكنه حول العملية الفلسفية الى ما اسماه الظاهراتية المفسرة Hermeneutical Phenomenology. ركز هايدغر على "تفسير الكينونة (Dasein) بدلا من مجرد وصفها. هذا المسار منح دفعا كبيرا لمنهجيات لاحقة، لانه ركز على موقع الوجود نفسه وتنظيمات كينونته، لا على موقع الفرد. ((الوعي القصدي (Intentional Consciousness) هو مفهوم جوهري في فلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجيا) التي اسسها ادموند هوسرل. ملخصه: • هو مبدأ يقر بان الوعي البشري ليس كيانا سلبيا او فارغا، بل هو دائما وعي بشيء ما. • يعني ان كل فعل من افعال الوعي، سواء كان ادراكا او تذمرا او تخيلا، يتجه بالضرورة نحو موضوع او غرض ما (قصدي). • الهدف منه هو التركيز على التجربة الذاتية، حيث يتم تجميد الحقيقة الموضوعية للتركيز على الظواهر كما تظهر في وعينا، مثل فهم الزمن كـ "تدفق داخلي" بدلا من كونه معطى فيزيائيا. ))
(5) الفلسفة ودورها في النهضة والوعي القومي الالماني لم تكن الفلسفة الالمانية مجرد تاملات نظرية، بل كانت اداة محورية في صياغة الهوية الوطنية، ونشر الوعي، وتاسيس القومية الالمانية الحديثة، وهي عملية ذات وجهين: تاسيس الهوية، ثم نقدها الذاتي الجذري. 1. فيشته وتاسيس الهوية القومية يحسب الفيلسوف يوهان غوتليب فيشته Fichte، الذي يعد من ابرز فلاسفة العقلانية الالمانية، ضمن العقول المؤسسة للنزعة القومية الالمانية. وقد تجلى دوره المحوري في كتابه "خطابات الى الامة الالمانية" Reden an die deutsche Nation، الذي صدر عام 1808. كتبت هذه الخطابات كرد فعل مباشر على احتلال الاراضي الالمانية واخضاعها للامبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون. لم يكن هدف فيشته سياسيا ديماغوجيا، بل كان يهدف الى استنهاض الهمم من خلال تاسيس وعي قومي يقوم على اساس ثقافي وفلسفي. لقد نجح فيشته في استثارة الاحساس الالماني بالتميز المشترك في اللغة والتقاليد والادب، مما شكل هوية موحدة. ودعا فيشته الى غرس "التربية الوطنية الحقة" في النفوس، القائمة على الايمان بخلود الشعب، الذي هو ضمانة لخلود الافراد. وبهذا، قدمت المثالية الفلسفية، عبر فيشته، الاساس الفكري والروحي لليقظة القومية الالمانية. (لماذا ليس للعراق فلاسفة بعد كل جرائم الاحتلالات الخارجية الماثلة امامنا الامريكية, الايرانية, التركية, الخليجية, الدينية, المافيوية, الخ) 2. الفلسفة كأداة للنقد الذاتي وإعادة التربية تاكد الدور العملي للفلسفة الالمانية مرة اخرى في حقبة ما بعد الكارثة. فبعد استسلام المانيا النازية، تحملت الفلسفة الالمانية، ممثلة في مدرسة فرانكفورت ومن تبعها، مهمة نقد ذاتي شامل. على سبيل المثال، يرى يورغن هابرماس Jurgen Habermas، احد ابرز رموز الفلسفة النقدية المعاصرة، انه "نتاج اعادة التربية" التي شهدها المجتمع الالماني بعد التطبيق المنهجي لسياسة "اجتثاث النازية". هذا الدور الفلسفي تطلب تفكيك الاسس الفكرية والاخلاقية التي ادت الى فظائع النازية، مما يؤكد ان الفلسفة الالمانية لم تكتف بتاسيس الوعي، بل استمرت كالية نقد ذاتي مستمرة له. (سنحتاج الى فلسفة تعطي الاجوبة ونقد شامل وتفكك الاسس الفكرية والاخلاقية التي ادت الى فظائع الصدامية والبعث والاسلام السياسي والمليشيات الايرانية الحالية ونظامها والتحالف الباطني الظاهري مع الامبريالية الجديدة واسرائيل)
(6) مدرسة فرانكفورت النظرية النقدية ونقد العقل الاداتي تعد مدرسة فرانكفورت، او النظرية النقدية Critical Theory، التيار الفلسفي الاهم في الفكر الالماني المعاصر، وقد نشات لتشخص ازمة الحداثة الغربية في القرن العشرين. 1. نشأة النظرية النقدية وسياقها السياسي الاجتماعي تاسست مدرسة فرانكفورت في جامعة غوتة كـ "معهد للابحاث الاجتماعية" عام 1923. وقد نشا هذا التيار كرد فعل على الفوضوية التي جاء بها الفكر الليبرالي والراسمالية، والجمود الذي جاء به الاتجاه الشيوعي، بالاضافة الى رفضها للفاشية والنازية. كان معظم ممثلي الجيل الاول من المدرسة، ومن ضمنهم ماكس هوركهايمر Max Horkheimer وتيودور ادورنو Theodor Adorno وفالتر بنيامين، من اصول يهودية، وعليه، اضطر باحثو المعهد الى مغادرة المانيا واللجوء الى المنفى، خاصة الولايات المتحدة، بعد صعود النازية. كان الهدف الاولي للمدرسة هو بناء "نظرية نقدية" بمرجعية ماركسية. لكن تحت ادارة هوركهايمر، تحررت المدرسة من اكراهات الماركسية السياسية والايديولوجية. 2. نقد العقلانية الاداتية في "جدل التنوير" بعد الحرب العالمية الثانية، اضطلعت مدرسة فرانكفورت بمهمة فهم الكارثة واللا عقلانية التي وصلت اليها العقلانية الغربية. وكان كتاب "جدل التنوير" Dialectic of Enlightenment لهوركهايمر وادورنو، الذي صدر عام 1947، بمثابة النص المفتاحي للنظرية النقدية الاولى. لقد اكد الجيل الاول للمدرسة ان الوعد الكبير الذي حمله عصر التنوير بتحقيق التقدم غير المحدود والحرية الشخصية قد فشل. بل وجد هوركهايمر وادورنو ان العقل قد تطور ضمن الحداثة الغربية كـ "عقل اداتي، مصلحي، علمي، وتقني". وهذه "العقلانية الاداتية" هي ما قاد التنوير في سيرورة تدمير ذاتي، وكشفت عن مازق الحداثة. كانت مهمة النظرية النقدية هي ممارسة نقد سلبي ونقد جذري للحضارة الغربية، لتشخيص الاعراض المرضية للمجتمعات الغربية المعاصرة، مثل: • التشيؤ Reification: تحويل العلاقات الانسانية والقيم الى علاقات بين اشياء. • الاغتراب Alienation: فقدان الانسان لمكانته وتحوله الى مجرد ترس في الة بيروقراطية. • صناعة الثقافة: تحول ادوات التثقيف والاعلام الى ادوات سلطة للسيطرة على الناس وتوجيه الراي العام.
3. التحول الى النقد الثقافي وتجاوز الارثوذكسية الماركسية على الرغم من ان المدرسة انطلقت بمرجعية ماركسية، الا ان ماركسيتها لم تعد عقائدية. فقد وجه الجيل الاول نقدا جذريا للستالينية في الاتحاد السوفييتي، واعتبرها "الوجه الآخر للراسمالية". وبدلا من التركيز على الاقتصاد الماركسي الارثوذكسي، تحول اهتمام المدرسة الى نقد البنية الفوقية الثقافية، مع التركيز على علاقات القوى والهيمنة بدلا من الكلام التقليدي عن صراع الطبقات. وبهذه الطريقة، اصبح النقد الثقافي محور عملهم، متاثرين بفلاسفة اخرين مثل شوبنهاور ونيتشه وفرويد.
(7) يورغن هابرماس والبحث عن العقلانية التواصلية يعد يورغن هابرماس Jurgen Habermas، المولود عام 1929، الممثل الابرز للجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت، وهو وريث النقد الالماني المعاصر. يمثل هابرماس محاولة لاصلاح التنوير عبر تاسيس العقلانية في مجال جديد: التواصل. 1. هابرماس كممثل للجيل الثاني وريث النقد ورث هابرماس اعمال اساتذته (هوركهايمر وادورنو وماركوز)، ويعد صوتا مؤثرا على الحياة الثقافية الالمانية ورائدا للخطاب الفلسفي النقدي. مثلت فلسفته استمرارا وتطورا للفكر النقدي الذي اسسته المدرسة. 2. تطوير نظرية الفعل التواصلي Communicative Action العمل الرئيسي لهابرماس يتمثل في تطوير نظرية العقلانية التواصلية Communicative Rationality. راى هابرماس ان العقلانية لا تكمن فقط في العقل النظري (كانط) او الروح المطلقة (هيغل) او العقل الاداتي (الذي نقده اسلافه)، بل تكمن في بنى الاتصال اللغوي الشخصي نفسه. على عكس تشاؤم ادورنو الذي راى ان العقل قد دمر، حاول هابرماس، من خلال ما يعرف بالتحول اللغوي Linguistic Turn، اعادة اكتشاف العقلانية في فعل التواصل البشري المشترك. وتهدف هذه النظرية الاجتماعية الى تحقيق التحرر الانساني ضمن الاطار الاخلاقي الشامل والفهم المتبادل بين البشر. 3. اخلاق الخطاب والمجال العام ركز هابرماس على ربط النظرية بالممارسة وتطبيق رؤاه النقدية اجتماعيا وسياسيا. وقد طور مفهوم اخلاق الخطاب Discourse Ethics الذي يسعى لتبرير المبدا الاخلاقي على اسس توافقية. كما تطرق هابرماس الى مفهوم الفضاء العمومي Public Sphere، والذي يشكل مفتاح الممارسة الديمقراطية في نظره. يهدف هابرماس الى التغلب على "بطش القوة" وصور العنف المتكررة في تاريخ البشرية، وذلك من خلال "التحضر الذاتي والاعتراف المتبادل، وجوهر التفاهم والتواصل".
(8) كبار فلاسفة المانيا وملخص افكارهم الجوهرية لضمان الالمام الشامل بتاريخ الفلسفة الالمانية، من الضروري تلخيص الافكار الرئيسية لكبار الفلاسفة الذين شكلوا هذا المسار، وربطهم بالمراحل التاريخية التي مثلوها. 1. المراحل التاريخية والتحولات الكبرى في الفكر الالماني تطورت الفلسفة الالمانية عبر القرون، من النقد المعرفي الى النظام الكلي، ثم الى النقد المادي والجذري، وصولا الى العقلانية التواصلية. في مرحلة التنوير والنقد المتعالي في القرن الثامن عشر كان التيار الفلسفي الرئيسي هو الكانطية، وتركيزه المنهجي هو تاسيس الاساس القبلي للمعرفة وتحديد حدود العقل لانهاء الدوغمائية والشك المطلق، والركيزة الفلسفية هي ايمانويل كانط. وفي مرحلة المثالية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر (اوله)، كان التيار الفلسفي الرئيسي هو المثالية الالمانية، وتركيزها المنهجي هو سعي الروح المطلقة لتحقيق الذات عبر الجدل والوعي التاريخي، والركيزة الفلسفية هي هيغل وفيشته. وفي مرحلة المادية الجدلية في القرن التاسع عشر (وسطه)، كان التيار الفلسفي الرئيسي هو الماركسية، وتركيزها المنهجي هو تحويل الجدل الهيغلي من الاطار المثالي الى اداة لتحليل الصراع الطبقي والواقع الاقتصادي، والركيزة الفلسفية هي كارل ماركس. وفي مرحلة نقد القيم والعدمية في القرن التاسع عشر (اخره)، كان التيار الفلسفي الرئيسي هو نيتشه والكانطية الجديدة، وتركيزها المنهجي هو نقد الاخلاق التقليدية وارادة القوة وعودة منهجية الى العقل النقدي الكانطي، والركيزة الفلسفية هي نيتشه وشوبنهاور. وفي مرحلة الظاهراتية والنظرية النقدية في القرن العشرين، كان التيار الفلسفي الرئيسي هو هوسرل وهايدغر ومدرسة فرانكفورت، وتركيزها المنهجي هو التركيز على الوعي القصدي والكينونة، ونقد العقلانية الاداتية في ضوء الكوارث، والركيزة الفلسفية هي ادورنو وهوركهايمر. وفي مرحلة العقلانية التواصلية في القرن العشرين (اخره) والقرن الحادي والعشرين، كان التيار الفلسفي الرئيسي هو الهابرماسية، وتركيزها المنهجي هو محاولة لتاسيس اخلاقية ديمقراطية جديدة عبر التفاهم المشترك واستمرارية النقد الاجتماعي، والركيزة الفلسفية هي يورغن هابرماس. 2. كبار فلاسفة المانيا ومفاهيمهم الجوهرية • ايمانويل كانط، اهم عمل رئيسي نقد العقل المحض، المفهوم المحوري هو الامر المطلق Categorical Imperative، وملخص الفكرة الجوهرية هو تاسيس الاخلاق كواجب عقلي خالص، وتحديد حدود ما يمكن للعقل معرفته، وتاثيره الرئيسي هو مؤسس التنوير الفلسفي والمنهجي في اوروبا. • يوهان غوتليب فيشته، اهم عمل رئيسي خطابات الى الامة الالمانية، المفهوم المحوري هو الانا المطلق والتربية الوطنية، وملخص الفكرة الجوهرية هو تحويل المثالية الى ارادة قومية لترسيخ الهوية المشتركة في مواجهة الاحتلال، وتاثيره الرئيسي هو المؤسس الفكري لليقظة القومية الالمانية الحديثة. • جورج ف.ف. هيغل، اهم عمل رئيسي فينومينولوجيا الروح، المفهوم المحوري هو الجدل والروح المطلقة، وملخص الفكرة الجوهرية هو تفسير التاريخ كتطور للوعي والحرية عبر الصراع (الجدل) والنفي والتجاوز، وتاثيره الرئيسي هو وفر الاداة المنهجية الرئيسية (الجدل) للماركسية والنظرية النقدية. • كارل ماركس، اهم عمل رئيسي راس المال، المفهوم المحوري هو المادية الجدلية والاغتراب، وملخص الفكرة الجوهرية هو تطبيق الجدل الهيغلي على الاقتصاد، وتحليل اغتراب العمل وظهور القوة العدائية للراسمال، وتاثيره الرئيسي هو نقل الفلسفة الالمانية الى ساحة الصراع السياسي والاجتماعي العالمي. • الفيلسوف الرئيسي فريدريش نيتشه، اهم عمل رئيسي هكذا تكلم زرادشت، المفهوم المحوري هو ارادة القوة Will to Power، وملخص الفكرة الجوهرية هو نقد جذري للاخلاق التقليدية و"موت الاله"، والدعوة لتجاوز العدمية، وتاثيره الرئيسي هو يمثل القطيعة الكبرى مع النظم الكلاسيكية، وموثر عميق على الفلسفة القارية الحديثة. • هوركهايمر + ادورنو، اهم عمل رئيسي جدل التنوير، المفهوم المحوري هو العقلانية الاداتية، وملخص الفكرة الجوهرية هو نقد تحول العقل الى اداة سيطرة وتشيؤ، وتشخيص ازمة الحداثة بعد الكوارث، وتاثيرهما الرئيسي هو مؤسسا النظرية النقدية، حولا النقد الماركسي الى بعد ثقافي. • يورغن هابرماس، اهم عمل رئيسي نظرية الفعل التواصلي، المفهوم المحوري هو العقلانية التواصلية والمجال العام، وملخص الفكرة الجوهرية هو محاولة لاعادة تاسيس المعيارية الاخلاقية والديمقراطية عبر الحوار والتفاهم المتبادل، وتاثيره الرئيسي هو ورث النقد الالماني وقدم اطارا اجرائيا للديمقراطية الليبرالية الحديثة.
(9) التأصيل الفلسفي للأزمة كانط والنظرية النقدية في تشخيص الحرب والعلاج ان التحولات الكبرى التي عصفت بالمانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، من التوحيد القومي الى الحربين العالميتين ثم الانقسام والصدمة النازية، فرضت على الفلسفة الالمانية تحديا وجوديا ومعرفيا عميقا. وقد تباينت الاستجابات الفلسفية لهذه الكوارث بين تاسيس قانوني صارم للسلام (كانط)، ومحاولة ماركسية نقدية لتشخيص فشل الوعي (لوكسمبورغ ولوكاتش)، وتبرير انطولوجي مشؤوم للشمولية (هايدغر)، وصولا الى نقد جذري للعقلانية ذاتها (مدرسة فرانكفورت).
1. الميراث الكانطي القانون المدني والدولة كضامن للسلام الدائم شكلت فلسفة ايمانويل كانط، خاصة في نصوصه حول القانون والسياسة، الاساس الفكري لتشخيص الحرب وتقديم العلاج لها. ينطلق كانط من افتراض اساسي مفاده ان الحرب متاصلة وطبيعية في الطبع البشري، بينما يعد السلام اصطناعيا يبنى بناء. وفي ضوء هذا التشخيص، يرى كانط ان الدولة هي الضامن الوحيد لانهاء كل اشكال العنف والصراع بين الافراد والجماعات. فشرعية الدولة تقاس بمدى قدرتها على صيانة الامن والسلم لمواطنيها، داخليا وخارجيا، باعتبار ان هذا السلم هو عنوان كل تحضر. لم يكن مشروع كانط للسلم الدائم Zum ewigen Frieden مجرد دعوة اخلاقية، بل كان اطارا قانونيا مؤسسا لنظام عالمي يقوم على الدول الجمهورية، يهدف الى تجاوز الاشمئزاز الفكري العام من فكرة الحرب. يتجلى العلاج الكانطي في تاسيس القانون كضامن اساسي، ويطالب المفكرون المعاصرون بتاويل قراءة كانط على انها علم كون نقدي للسلام Critical Cosmology of Peace يعمل كاداة للنقد الدائم للوضع الديمقراطي القائم. ومع ذلك، فان هذا التاكيد على اولوية الدولة يقود كانط الى موقف صارم تجاه اي عمل ثوري عنيف. فبينما يقر كانط بان حكم الطغيان ينتهك حقوق الشعب، الا انه يرى ان محاولة الرعية لاسقاط الطاغية باسلوب عنيف هو تصرف ابعد ما يكون عن العدل، ولن يجوز للرعية التظلم اذا ما لاقت العقاب نتيجة لهذا الصراع. ان الرفض المطلق للثورة العنيفة والدفاع عن التدرج في التغيير يتقاطع منهجيا مع الموقف الذي تبنته الماركسية الارثوذكسية (كاوتسكي)، والتي هيمنت على الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) ففي الوقت الذي امنت فيه الماركسية الارثوذكسية بضرورة الانتظار الحتمي للاصلاح عبر الاليات البرجوازية، قدم التقليد الكانطي اساسا فلسفيا لقرار SPD بالتخلي عن العنف الثوري لصالح التدرجية البرلمانية، مما عمق الشرخ الايديولوجي بين اليسار الالماني الاصلاحي واليسار الراديكالي الثوري. (الى اين انتهى الان الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)؟) 2. تشخيص العنف الكلي نقد العقلانية الاداتية Instrumental Reason في اعقاب الصدمات النازية والفظائع المنظمة للهولوكوست، رات مدرسة فرانكفورت (ممثلة بهوركهايمر وادورنو) ان الازمة لا تكمن فقط في الاقتصاد او غياب القانون، بل في الجذور المعرفية للحضارة الغربية نفسها. لقد كان الهدف هو تجاوز النقد الاقتصادي الى تحليل انثروبولوجي وفلسفي اعمق للعقلانية. شخصت مدرسة فرانكفورت النازية والشمولية كـ "تتويج مروع" لمسار التنوير، وليس انحرافا عنه. واعتبر هوركهايمر وادورنو ان العنف الكلي Total Domination الذي انتجته النازية كان نتيجة لهيمنة العقلانية الاداتية Instrumental Reason وقد ميز هوركهايمر بين شكلين من العقلانية: • العقلانية الموضوعية Objective Reason: كانت ترتكز على فكرة الخير الاعظم، ومصير الانسان، والمصالحة مع نظام كوني يطلب الانسجام الاجتماعي. • العقلانية الاداتية/الذاتية Subjective/Instrumental Reason: هي الشكل المهيمن في العصر الحديث، وهي عضو الحساب والتخطيط و محايدة فيما يتعلق بالغايات. وظيفتها هي ايجاد الوسائل الاكثر كفاءة لتحقيق اهداف متبناة بشكل عشوائي، دون اي التزام باي معنى كوني للحياة الطيبة. ادت هذه الهيمنة الى مكننة القسوة والسيطرة الكلية Total Domination، حيث تم اهمال المناقشة الفلسفية للاهداف والغايات العليا واستبدالها بمنطق منهجي للتنظيم والادارة. ان الجدل حول تشخيص الحرب والعلاج يظهر التباعد العميق في الفلسفة الالمانية. كان التشخيص الفلسفي للحرب والعلاج عند كانط ومدرسة فرانكفورت يختلف كما يلي: بالنسبة لكانط، كان سبب الحرب الرئيسي هو الطبيعة العدوانية للانسان وغياب القانون الدولي الرادع، بينما كان جوهر العلاج هو اقامة دولة الحق والقانون وتاسيس نظام عالمي جمهوري. اما بالنسبة لمدرسة فرانكفورت، فكان سبب الحرب هو هيمنة العقلانية الاداتية Instrumental Reason والتركيز على الوسائل دون الاهداف، وكان جوهر العلاج هو استعادة العقلانية الموضوعية وتجاوز سيطرة العقل المبرمج على الطبيعة والانسان. ((الأنثروبولوجي: علم يدرس الإنسان وثقافاته وتطوره وسلوكه الاجتماعي.))
(10) أزمة فايمار الانقسام الإيديولوجي وفشل الثورة (1918-1919) كانت فترة جمهورية فايمار (1918–1933) فترة اضطراب سياسي وفكري اثر بعمق على تطور النظرية النقدية. وقد تجسد هذا الاضطراب في الصراع الحاد داخل اليسار الالماني حول كيفية تحقيق الاشتراكية. 1. تصنيف الحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD في ضوء الماركسية الأرثوذكسية شكلت الماركسية الارثوذكسية، التي بلورها كارل كاوتسكي، الفلسفة الرسمية للغالبية العظمى من الحركة الاشتراكية في الاممية الثانية. كان الهدف الاساسي لهذه المدرسة هو تبسيط وتدوين المنهج والنظرية الماركسية. وقد امنت الماركسية الارثوذكسية بان المادية التاريخية هي علم يكشف عن "قوانين التاريخ" ويثبت حتمية انهيار الراسمالية واستبدالها بالاشتراكية. النتيجة السياسية لهذا الموقف الحتمي هي ان التاريخ لا يمكن "استعجاله"!!، ويجب على الاحزاب العمالية، مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، "الانتظار" حتى تنضج الظروف الاقتصادية المادية. وبناء على ذلك، تبنى SPD مقاربة تدرجية، مستغلا الديمقراطية البرجوازية لتحسين حياة العمال ريثما تسقط الراسمالية بتناقضاتها الموضوعية الداخلية. (كما هو انتظار المهدي المنتظر!!) 2. تحليل ثورة سبارتاكوس دور روزا لوكسمبورغ في تسريع التاريخ مثلت رابطة سبارتاكوس (لاحقا الحزب الشيوعي الالماني KPD) الجناح الثوري الذي رفض التدرجية والانتظارية. اكدت روزا لوكسمبورغ، وهي مفكرة محورية في الحركة، على ضرورة ان يتخلى الحزب عن السلبية "القدرية بيديْن مطويتين" في انتظار "الوضع الثوري". رات لوكسمبورغ ان واجب الاشتراكيين الديمقراطيين هو "التعجيل بتطور الامور والسعي لتسريع الاحداث" من خلال توضيح حتمية المرحلة الثورية للبروليتاريا. هذا الموقف كان هو التبرير الفلسفي لاندفاعها في انتفاضة سبارتاكوس في يناير 1919. على الرغم من انها لم تبدا الانتفاضة، الا انها رفضت "الجلوس مكتوفة الايدي" اثناء اندلاع الثورة، اذ كان تخاذلها سيعني "خيانة لمبادئها"، كونها كانت دائما من دعاة "الثورة المستمرة". 3. تشخيص لوكاتش للفشل التشيؤ Reification والوعي الزائف بعد الفشل الدموي لانتفاضة سبارتاكوس في برلين وفشل الثورات في المجر وبافاريا، ظهرت الحاجة الى اعادة نظر جذرية في النظرية الماركسية. حاول جورج لوكاتش في كتابه الموثر التاريخ والوعي الطبقي (1923) فهم هذا الفشل وتجاوز "التفاول المفرط والخاطئ بعمق" الذي ميز الماركسية التقليدية التي افترضت اتصالا مباشرا بين الظروف المادية ووعي البروليتاريا. تمحور تشخيص لوكاتش حول سؤال جوهري: كيف يمكن للناس ان "يفشلوا في ادراك مصالحهم المادية ويقتنعوا بالتصرف ضدها؟". ولهذا الغرض، استعاد لوكاتش وطور مفاهيم ماركس حول الاغتراب، والوعي الزائف، والايديولوجيا، مقدما مفهوم التشيؤ Reification كاداة تحليلية محورية. التشيؤ هو العملية التي يعمل بها النظام الراسمالي على "جعل الوجود موضوعيا" Objectify existence، حيث تبدو الحياة الراسمالية "طبيعية وخاضعة للقانون"، مما يخفي علاقات الاستغلال ويمنع الوعي الطبقي الحقيقي. لقد اثبت الفشل الدموي لانتفاضة سبارتاكوس في 1919 عدم كفاية الماركسية الارثوذكسية، التي كانت تراهن على الحتمية الاقتصادية. هذا الاخفاق حفز مفكرين مثل لوكاتش على استعادة هيغل والديالكتيك ومفاهيم التشيؤ والاغتراب، لشرح سبب عدم تحول الازمة الاقتصادية الى وعي ثوري. شهد اليسار الالماني انقساما ايديولوجيا كما يلي: التيار الفكري الاول هو الماركسية الارثوذكسية/التدرجية المرتبط بالحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، وكان منهجه تجاه الثورة هو التدرجية والانتظار الحتمي لانهيار الراسمالية والعمل ضمن النظام البرجوازي، وخلاصته الفلسفية هي الحتمية التاريخية (كاوتسكي): التاريخ لا يمكن استعجاله. التيار الفكري الثاني هو التحرري الثوري (سبارتاكوس) المرتبط برابطة سبارتاكوس/الحزب الشيوعي الالماني (KPD)، وكان منهجه تجاه الثورة هو الدعوة لـ "تسريع الاحداث" والعمل الثوري المباشر، وخلاصته الفلسفية هي تجاوز التشيؤ (Lukacs): الثورة تتطلب تدخلا واعيا وطليعيا.
(11) المنعطف الوجودي هايدغر وتبرير التحولات الكبرى (1933-1945) بينما كان الجدل الماركسي يدور حول التدرجية والثورة، قدم مارتن هايدغر استجابة انطولوجية عميقة ومثيرة للجدل للتحولات السياسية الالمانية، وخاصة صعود النازية. 1. الكينونة والسياسة العلاقة الإشكالية بين الأنطولوجيا والتورط النازي يؤكد النقاد، بمن فيهم مفكرون من مدرسة فرانكفورت مثل هربرت ماركوز ويورغن هابرماس، ان دعم هايدغر للحركة النازية لم يكن مجرد "خطأ" شخصي معزول، بل كان "انعكاسا علنيا لبعض اعمق قناعاته الفلسفية واكثرها اثارة للجدل". وقد راى البعض، مثل وينفريد فرانزين (1975)، ان هناك صلة وثيقة بين الانطولوجيا الوجودية في الكينونة والزمان وتورط هايدغر السياسي في دعم النازية. ان فلسفة هايدغر اظهرت ازدراء صريحا للمؤسسات الديمقراطية. حتى بعد انتهاء الكارثة النازية، لم يقتنع بان الديمقراطية هي النظام السياسي الامثل للعصر الحديث، واصفا اياها بـ "الانحلال المدْمَقَر" للمؤسسات السياسية الالمانية، وكتب في عام 1974 ان اوروبا "تدمَّر من الاسفل بـ الديمقراطية ". علاوة على ذلك، ربط هايدغر مفهوم "الفوهرر" بـ "المصير" Destiny ضمن سياق انطولوجي، مشيرا في محاضرته عام 1934 حول هولدرلين، الى "الفوهرر الحقيقي والوحيد" كشخصية "قدرية" تحمل علامة على مجال الارباب شبه الخالدة. (لاحظ مفهوم القائد الضرورة الذي انتجه صباغي الاحذية من بعثيين الذين مجدوا صدام حتى اصبح غولا ارعن دمر العراق وامكاناته بسبب جذوره البدوية الريفية التي نقلها للسلطة كما فعل قروي اخر ذو اساس ديني مغلق غبي وهو مختار العصر حسب لقب صباغي الاحذية من الاسلام السياسي!!) 2. جدل "الحقيقة الداخلية والعظمة" للنازية في محاولة للدفاع عن نفسه خلال فترة اجتثاث النازية، ادعى هايدغر انه عارض الاسس الفلسفية للنازية، ولا سيما البيولوجية وتفسيرهم لـ ارادة القوة لنيتشه. ومع ذلك، فان محاضرة 1935، التي نشرت لاحقا تحت عنوان مدخل الى الميتافيزيقا، تضمنت انتقادا للـ "فلسفة" المروجة للنازية، لكنه اشار في الوقت نفسه الى ان الحركة النازية لديها "الحقيقة والعظمة الداخلية لهذه الحركة (اي المواجهة التقنية المحددة عالميا مع انسان العصر الجديد)". بالنسبة للنقاد، مثل هابرماس، لم يبتعد هايدغر عن الاشتراكية القومية في حد ذاتها، بل اصبح مستاء بعمق من ايديولوجيتها الرسمية المتجسدة في شخصيات مثل الفريد روزنبرغ. يرى هابرماس ان افتقار هايدغر للنقد الصريح بعد تخليه عن منصبه الاداري (ما سماه هابرماس "التحول غير المُخول")، يعود الى فصله افعاله وتصريحاته عن نفسه كشخص تجريبي، وعزوها الى "مصير لا يمكن تحميله المسؤولية". يمثل هذا النموذج الفلسفي اساسا ميتافيزيقيا للانحياز لديكتاتورية المصير Existential Dictatorship، حتى لو كانت الفلسفة تهدف ظاهريا الى "تجاوز الميتافيزيقا".
(12) النظرة للحزب الشيوعي الألماني KPD والماركسية الأكاديمية
ادت التحولات التاريخية وصعود الشمولية (النازية والستالينية) الى تشكيل موقف فريد لمدرسة فرانكفورت من الحزب الشيوعي الالماني (KPD) ونزع الطابع السياسي عن النظرية النقدية.
1. استقلالية مدرسة فرانكفورت عن الكيانات الحزبية تاسس معهد البحوث الاجتماعية في عام 1923، وكان اول مركز ماركسي للبحوث في جامعة المانية. وقد تم تاسيسه بتمويل مستقل عن الحزب الشيوعي، وكان هذا الاستقلال مقصودا. كان الهدف الاولي هو محاولة توليف التيارات الماركسية المختلفة في فلسفة متماسكة وعملية. للحفاظ على وضع المعهد كمؤسسة جامعية، تم التفاوض لضمان ان يكون مديره بروفيسورا جامعيا من النظام الحكومي. هذا الحرص على الاستقلال الموسسي تجسد في استبعاد الناشطين السياسيين ذوي العضوية الحزبية. فعلى الرغم من مشاركة جورج لوكاتش وكارل كورش في ندوة العمل الماركسي الاولى، الا ان عضويتهما في الحزب الشيوعي حالت دون مشاركتهما الفعالة في المعهد الدائم، مما يؤكد حرص المعهد على عدم التبعية الايديولوجية او التنظيمية للحزب. 2. نقد الستالينية والتحول الأكاديمي اخذت مدرسة فرانكفورت موقفا نقديا جذريا تجاه الشيوعية السوفييتية والحزب الشيوعي الالماني (KPD) بعد الثورة الروسية. راى مفكرو المدرسة، مثل ماركوز وادورنو، ان الحزب البلشفي، الذي كان طليعة ثورة اكتوبر، اصبح مؤسسة "مركزية وقمعية" حولت دكتاتورية البروليتاريا الى دكتاتورية الحزب نفسه. مع صعود النازية في 1933 وفشل الثورات العمالية في الغرب، بدا ماكس هوركهايمر، مدير المعهد منذ عام 1930، عملية تحول فكري. شعر هوركهايمر بان الطبقة العاملة الاوروبية اظهرت "طبيعة برجوازية" في الدول المتقدمة ولم تعد الموضوع الثوري. هذا القناعة ادت الى انسحاب استراتيجي ومؤلم، حيث تحول المشروع الفكري من "التحليلات المادية التاريخية الصارمة للراسمالية والصراع الطبقي" الى "الاهتمامات التاملية بالثقافة والسلطة". تمثل هذا التحول ابعادا عن النشاط السياسي المباشر نحو الاكاديميا والفلسفة. وقد وصف النقاد لاحقا ادارته بانها "جعلت السياسة اكاديمية بدلا من تسييس الاكاديميا". 3. نزع الطابع السياسي Depoliticization في ألمانيا الغربية عندما عاد القادة الفكريون لمدرسة فرانكفورت الى المانيا الغربية في 1949-1950، وجدوا انفسهم في بيئة سياسية موجهة بالكامل نحو معاداة الشيوعية. كانت المانيا الغربية واحدة من "جبهات الحرب العالمية الفكرية ضد الشيوعية"، وفي هذا السياق، كان الحزب الشيوعي الالماني (KPD) محظورا رسميا، وتخلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) عن الماركسية بشكل رسمي. وفي ظل هذا المناخ، اكتمل "نزع الطابع السياسي" عن المعهد. لم يعد هناك مجال للمشاركة السياسية الماركسية الثورية خارج اطار الدولة الغربية المعادية للشيوعية. وهذا التحول سمح للنظرية النقدية بان تصبح خطابا اكاديميا مفصولا عن الطبقة العاملة المنظمة، مما يمثل تحولا ايديولوجيا كبيرا نحو الاكاديميا بدلا من الثورة.
(13) النتائج التحليلية يظهر التحليل المفصل لمسارات الفلسفة الالمانية مدى عمق وترابط مراحلها المختلفة. ان السرد الفلسفي الالماني منذ كانط هو في الاساس عملية بحث مستمرة عن المطلق او عن العقلانية الكلية: سواء كانت كامنة في الشروط القبلية للمعرفة (كانط)، او متجلية في تطور الروح عبر التاريخ (هيغل)، او محجوبة وراء الصراع الطبقي والاغتراب (ماركس)، او متجسدة في فعل التفاهم والتواصل (هابرماس). الاستنتاجات الرئيسية: 1. المنهجية الجدلية كارث مستدام: رغم التباعد الهائل بين المثالية الهيغلية والمادية الماركسية والنظرية النقدية، فان الاداة المنهجية للجدل (الديالكتيك) بقيت هي القوة الدافعة للتحليل. لقد انتقل الجدل من تفسير تطور الفكرة الى تفسير صراع الطبقات، ثم الى تحليل تناقضات التنوير، مما يثبت ان الفلسفة الالمانية كانت دائما تسعى لتفسير العالم عبر تناقضاته الداخلية. 2. الفلسفة بوصفها وعي قومي ونقد ذاتي: لعبت الفلسفة الالمانية دورا مباشرا في صياغة الهوية القومية (خطابات فيشته)، لكنها لم تتردد لاحقا في الانخراط في نقد ذاتي جذري لهذا الوعي نفسه (مدرسة فرانكفورت)، خاصة بعد الكوارث التاريخية. وهذا يمثل قدرة فريدة على استخدام العقل كاداة لبناء الهوية وتفكيكها في ان واحد. 3. تحول الازمة الانطولوجية الى ازمة ثقافية: في العصر الحديث، وبعد فشل النماذج الثورية الكبرى، حولت مدرسة فرانكفورت مركز الاهتمام من البنية التحتية الاقتصادية الى البنية الفوقية الثقافية، مما سمح للنقد الفلسفي بالتكيف مع اشكال الهيمنة الحديثة التي تعتمد على الاعلام والتقنية (العقلانية الاداتية). 4. اصلاح العقلانية في العصر المعاصر: يمثل مشروع هابرماس محاولة اخيرة وهامة لاعادة تاسيس المعيارية والاخلاق في عالم ما بعد الميتافيزيقا والعدمية، من خلال التركيز على اللغة وشروط التفاهم، مقدما بذلك اساسا اجرائيا مستقبليا للديمقراطية يتجاوز تشاؤم الجيل السابق.
اما فيما يخص المقارنة بين المناهج الفلسفية للتحولات الكبرى في الحربين العالميتين فهي تتلخص في اربعة تيارات رئيسية: 1. التيار الفلسفي الاول هو الكانطية (مبدا القانون)، وكان تشخيصه للازمة/الحرب هو العدوانية الطبيعية للانسان وغياب القانون الدولي، والعلاج المقترح هو دولة الحق/القانون والسلم الدايم العالمي، وموقفه من التحولات السياسية هو رفض الثورة العنيفة والدفاع عن استمرارية الدولة. 2. التيار الفلسفي الثاني هو الماركسية الثورية (لوكسمبورغ/لوكاتش)، وكان تشخيصه للازمة/الحرب هو التشيؤ والوعي الزائف، والعلاج المقترح هو الثورة الطليعية وتسريع الاحداث، وموقفه من التحولات السياسية هو فشل ثورة سبارتاكوس دليل على الحاجة للتدخل الواعي. 3. التيار الفلسفي الثالث هو الوجودية (هايدغر)، وكان تشخيصه للازمة/الحرب هو النسيان الوجودي وهيمنة التقنية العالمية، والعلاج المقترح هو البحث عن "الحقيقة الداخلية والعظمة" لحركة تجاوز التقنية (ربط مؤقت بالنازية)، وموقفه من التحولات السياسية هو ازدراء للديمقراطية وانحياز لديكتاتورية المصير (الفوهرر). 4. التيار الفلسفي الرابع هو النظرية النقدية (فرانكفورت)، وكان تشخيصه للازمة/الحرب هو هيمنة العقلانية الاداتية التي تنظم القسوة، والعلاج المقترح هو استعادة العقلانية الموضوعية وتجاوز الهيمنة، وموقفه من التحولات السياسية هو نزع الطابع السياسي والتحول الى النقد الاكاديمي بعد فشل الثورة.
(14) المصادر 1. ناصر احمد سنه - "يورغن هابرماس": فيلسوف الماني، برؤى نقدية عالمية - https://www.asharqalarabi.org.uk/markaz/m_abhath-19-07-10-1.htm 2. يورجن هابرماس: مقدمة قصيرة جدا - https://www.hindawi.org/books/15707294/6/ 3. يوسف بن المكي باحث بسلك الدكتوراه في الفلسفة، جامعة محمد الخامس، المغرب - مدرسة فرانكفورت ومسار العقلانية - ديسمبر 8, 2023 https://caus.org.lb/%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%83%D9%81%D9%88%D8%B1%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/ 4. الامر المطلق عند كانط - 2018/12/10 https://www.aljabriabed.net/n56_12ouzal.(2).htm 5. هيجل: مقدمة قصيرة جدا - 2019/11/07 https://www.hindawi.org/books/17351825/4/ 6. تاثير مدرسة فرانكفورت في فلسفة يورغن هابرماس - https://www.diwanalarab.com/%D8%AA%D8%A3%D8%AB%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%83%D9%81%D9%88%D8%B1%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%8A%D9%88%D8%B1%D8%BA%D9%86.html 7. اضواء على الفلسفة الماركسية - https://www.alaan.cc/article/167622/ 8. مدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية: النشاة، الخصائص، المرجعيات - https://alantologia.com/blogs/66380/ 9. ملخص كتاب نقد العقل المحض ايمانويل كانط - https://www.youtube.com/watch?v=pvoJJZW6-Wg 10. الظاهراتية الفينومينولوجيا هوسرل - https://photokalam.blogspot.com/2025/05/blog-post_10.html 11. الفلسفة الالمانية - https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9_%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9
12. الفلسفة الحديثة وابرز فلاسفتها وتياراتها - https://khitabdelta.com/?p=2077 13. خطابات الى الامة الالمانية (Reden an die deutsche Nation) - https://www.marefa.org/%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA_%D8%A5%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9 14. الفلسفة الالمانية بعد الحرب العالمية الثانية - https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-8321 15. النقد الهيغلي لكانط : دحض التجريبية والامر المطلق - https://istighrab.iicss.iq/?id=62&sid=209 16. الماركسية - https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%83%D8%B3%D9%8A%D8%A9 17. المخابرات المركزية الأمريكية وعداء مدرسة فرانكفورت للشيوعية https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=785659
ملاحظة: عدا الافكار الاساسية في هذا البحث فقد تم الاستعانة احيانا بتعريفات محددة وتفاصيل من الذكاء الصناعي!
#مكسيم_العراقي (هاشتاغ)
Maxim_Al-iraqi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار الألماني بين حصار المؤسسات وصعود اليمين المتطرف في ظل
...
-
نحو تقييم الدول بشرعية الانجاز فقط لا بالانظمة او الدساتير ا
...
-
العراق واقتصاده من البلوتونومي الى خزانات البلوتونيوم واقتصا
...
-
4 سنوات كارثية قادمة بتامر ايراني امريكي بعد سيطرة امة الجبن
...
-
الانكفاء العلماني وصعود الثيوقراطية الفاشية الفاسدة في الشرق
...
-
نظرية النافذة المكسورة في بلد مكسر منتهب مدمر مثل العراق
-
الذكاء الصناعي الراسمالي والة الغباء الصناعي الديني الطائفي
...
-
تحليل ايديولوجي وسياسي لعداء الاسلام السياسي للحضارتين المصر
...
-
صعود اليسار الجديد في معاقل الراسمالية الغربية وافول نظيره ا
...
-
نظرية ناش وتوازن الفشل, في تحليل الأوضاع السياسية والاقتصادي
...
-
ستراتيجيات قمع الثورة المضادة في مراحل التحول السياسي الحرجة
...
-
كيف استغل الاستعمار والإمبريالية الجديدة الإسلام السياسي لتح
...
-
تاثير شركات السلاح الغربية في صياغة واستدامة الحروب (1914-20
...
-
تاريخ وتطور الادعاءات الأمريكية الزائفة لتبرير العدوان والهي
...
-
الاقتصاد السياسي للاستدامة الحزبية - دروس الصين وفشل روسيا و
...
-
ستراتيجية الاحتواء الدموي وسحق المد اليساري في العالم
-
الفعل التاريخي التأسيسي للقوة والمفاجأة في قلب مسار التاريخ
...
-
الأنظمة الطارئة كأدوات للتدبير الخارجي وآليات تفكيك الدولة ا
...
-
تفكيك اللامساواة في العالم لاسباب دينية في ضوء نظرية رأس الم
...
-
تفكيك اللامساواة في العالم لاسباب دينية في ضوء نظرية رأس الم
...
المزيد.....
-
الأردن: تكرار حوادث الاختناق خلال أسبوع بوسائل تدفئة يثير ال
...
-
فيديو جديد يظهر رهائن غزة يحتفلون بـ-حانوكا- قبل وفاتهم
-
برلين تستدعي سفير موسكو بسبب هجمات سيبرانية منسوبة لروسيا
-
فضلون في بلا قيود: الأمن أساس الاستقرار
-
أوروبا تقرر استخدام الأصول الروسية لتمويل قروض أوكرانيا
-
كأس العرب: الأردن يتغلب على العراق ويلتحق بالمغرب والسعودية
...
-
بعد عام على سقوط الأسد.. هل استعاد الإعلام السوري حريته؟
-
إيران : تعتقل نرجس محمدي الحائزة على جائزة نوبل للسلام 2023
...
-
ليبيا: مقتل أحد كبار مهربي البشر في مداهمة أمنية عقب اعتداء
...
-
فرنسا: بارقة أمل للأجانب بعد تبني الجمعية الوطنية لقرار التج
...
المزيد.....
-
العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو
...
/ حسام الدين فياض
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
المزيد.....
|