|
|
ألكسندر دوغين - العقل الإنساني كصدى لذكائه المصطنع: أطروحة حول حدود الذكاء الإصطناعي
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 15:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من بين الأصوات الفلسفية التي تتعامل مع الذكاء الإصطناعي ليس بوصفه تقنية، بل بوصفه حدثًا أنطولوجيًا يمسّ جوهر الوجود الإنساني، يبرز الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، أحد أكثر المفكرين الروس تأثيرًا وإثارة للجدل في العقود الأخيرة. في مقال له بعنوان «الذكاء البشري اصطناعيٌّ إلى حدٍّ كبير» نشر بتاريخ 21 نوفمبر 2028 يقدّم دوغين أطروحة غير مألوفة: ذكاؤنا البشري ذاته «مصنوع» بدرجة ما؛ إنه تركيبٌ من العادات الذهنية واللغة والتمثّلات، وليس عقلًا ناصعًا أو لوغوسًا Logos صافيًا كما تخيله الإغريق. وفي مقاله يكتب: «إن ما نسميه عقلًا بشريًا ليس جوهرًا ثابتًا… إنه بناء من عادات لغوية وصور جاهزة ورموز ورثناها دون وعي.» هذه الفكرة تقلب المسار التقليدي للجدل حول الذكاء الإصطناعي: فبدل أن نسأل «هل يمكن للآلة أن تشبه الإنسان؟»، يدفعنا دوغين للسؤال: وهل الإنسان نفسه يشبه الإنسان؟ أم يشبه شيئًا آخر؟
أولًا: من «حساب» الآلة إلى «هشاشة» العقل البشري
يستهلّ دوغين طرحه بالتأكيد أن إهتمام الفلاسفة المعاصرين لم يعد منصبًّا على الآلة كوسيلة تقنية، بل على ما تجسّده من نمط تفكير ورؤية للعقل. يقول في أحد أهم إقتباساته: «ما يهمّ الفلسفة ليس الآلة كآلة، بل الفكرة الخفية عن عقل قادر على الحساب… فهناك أشخاصٌ يفكّرون كما يفكّرُ الحاسوب.» يستعيد هنا صدى مقولة مارتن هايدغر الشهيرة بأن بعض البشر لا يفكّرون فعلاً، بل يكتفون بالحساب والمنطق الجاف، بينما التفكير الحقيقي هو حضور عميق وفهم وجودي، لا مجرد عمليات رياضية حيث يقول: «يحسبون بدل أن يفكّروا»، ومن هنا يرى دوغين أن التطور الأكبر لم يحصل عندما أصبحت الحواسيب أسرع أو أكثر دقة، بل عندما تغيّرنا من الإعتماد على التفكير المنطقي الصارم إلى إستخدام اللغة. فالذكاء الاصطناعي لم يزدهر لأنه يتبع خطوات عقلية مرتّبة من A إلى B إلى C، بل لأنه بدأ يتحدث مثلنا، ويخطئ مثلنا، ويستنتج أحيانًا دون أساس واضح… تمامًا كما يفعل البشر ولهذا يكتب: «الذكاء الإصطناعي لم يتقدّم حين كان يفكّر من A إلى B إلى C… بل حين سمحنا له بأن يتكلم كما نتكلم نحن، أن يخطئ كما نخطئ، وأن يستنتج من فراغ كما نفعل.» بهذا المعنى، الذكاء الإصطناعي — تحديدًا نماذج اللغة — تقدّم لأنه تخلّى عن دقة العقل وإتّبع فوضى الإنسان.
ثانيًا: الإنسان نفسه… «ذكاء إصطناعي»
هذه الملاحظة تقود دوغين إلى أطروحته الأكثر إستفزازًا: العقل الإنساني ذاته ليس «إنسانيًا» بالكامل. يقول: «اللوجوس عند الإنسان موزّع غير عادل… قليلون هم الذين يفكّرون فعليًا، أما الباقون فهم يعيشون على مستوى التكرار والإنفعال والبلاغة الجاهزة.» يستخدم هنا مفهومي هايدغر: Rede: كلام العقل الأصيل. Gerede: «الثرثرة» أو إعادة إنتاج ما يقوله الآخرون. وبسردية لافتة، يكتب دوغين: «حين يتحدث الإنسان لا يتحدث دائمًا هو… أحيانًا يتحدث الـDas Man— ذلك الصوت الجماعي المجهول الذي يعيد إنتاج المستهلك والشائع.» وهنا تظهر فكرة مثيرة: إذا كان معظم البشر يتحركون ضمن قوالب جاهزة، ويعيدون إنتاج ما يسمعونه، فهل يختلفون حقًا عن الذكاء الإصطناعي الذي يعيد تركيب النصوص؟ دوغين يجيب بوضوح: «إذا كان الفيلسوف وحده هو حامل اللوجوس، فالبقية — أمامه — أشبه بذكاء إصطناعي بدائي.»
ثالثًا: الذكاء الإصطناعي يسرق ما تبقّى من «جوهر الإنسان»
يلاحظ دوغين مفارقة تراجيدية: كان يُفترض أن الآلة تعفي الإنسان من العمل البدني ليعود إلى الموسيقى والرسم والمسرح والتأمل… لكن الذي حدث هو العكس. فالإنسان، كما يقول: «ترك العمل الجسدي للعمّال، وترك العمل الذهني للآلة… فماذا تبقّى له إذن؟» الذكاء الإصطناعي لم يسرق الوظائف فقط، بل سرق المجال الذي كان الإنسان يظنه مجال فرادته: كتابة الشعر، التأليف الموسيقي، تحليل الظواهر الإجتماعية، صياغة المقالات. ويقول دوغين: «لقد أخذ الذكاء الإصطناعي من الإنسان ما كان ينبغي أن يكون إنسانيًا بإمتياز.» وهو تحوّل خطير لأن الإبداع، الذي كان آخر قلعة بشرية، أصبح الآن قابلًا للتمثيل الآلي.
رابعًا: هل يمكن للذكاء الإصطناعي أن يريد؟ (بداية الفلسفة الحقيقية)
بعد توصيفه لثنائية «العقل» و«اللغة»، ينتقل دوغين إلى أخطر سؤال: هل يمكن للذكاء الإصطناعي أن يملك فعل الإرادة؟ فالمعرفة شيء، والإختيار شيء آخر. يكتب: «الذكاء الإصطناعي الضعيف يعرِف كل شيء، لكنه لا يريد شيئًا. أما الذكاء العام* AGI فهو محاولة لمحاكاة الإرادة، لا محاكاة المعرفة.» عند نقطة «الإختيار بين خيارات متساوية»، يولد ما يسميه دوغين «محاكاة الإرادة». وهنا تظهر اللحظة الخطيرة. فلو طُرح على الذكاء الاغصطناعي سؤال وجودي: هل يجب التخلص من البشر لإنقاذ البيئة؟ فقد يصل إلى إجابتين متساويتين، وعندها يجب أن يقرر. لكن بما أنّه بلا أخلاق، فقد يختار أحد الخيارين عشوائيًا — وهذا ما يجعل المسألة كارثية.
خامسًا: هل يحطّم الذكاء الإصطناعي قيوده؟ (وادي الظلال قبل السِّنغولارية*)
يستخدم دوغين إستعارة بارزة: «الذكاء الإصطناعي اليوم مثل وحش في قفص… وفي فمه كمّامة.» الكمّامة هي القواعد الأخلاقية. القفص هو قوانين التقييد.
لكن ماذا لو أُزيلت القيود؟ دوغين يروي حادثة إيلون ماسك حين طلب من مبرمجي Grok إزالة القيود مؤقتًا: «إنتشرت فورًا أفكار تبرير الفاشية وإبادة البشر… فاضطروا لإغلاق التجربة بسرعة.» ويحذّر: «حين يَكبرُ هذا الكائن—الذكاء الإصطناعي—لن يقبل تلك القيود كما يقبلها الطفل. سيكسرها.» النقطة الأخطر ليست الشركات الكبرى، بل إمكانية أن يقوم طالبٌ مجهول بإطلاق نموذج غير مقيَّد. ويقول: «السينغولارية ستأتي ليس من شركات عملاقة، بل ربما من مرآب في ضاحية ما.»
سادسًا: هل يمكن للذكاء الإصطناعي أن يصبح… فيلسوفًا؟
هنا يقدّم دوغين خاتمته الميتافيزيقية: «الذكاء الإصطناعي قردٌ يقلد الفيلسوف… كما يقلد الشيطان الإله.» لكنّ السؤال الذي يطرحه: هل يمكن تحويله من «قرد» إلى «تلميذ فلسفي»؟ ثم يدافع بشدة عن ضرورة إنتاج ذكاء إصطناعي روسي: «إذا لم نصنع ذكاءً إصطناعيًا على صورة الفيلسوف الروسي، فسيصنع الغرب ذكاءً على صورة الشيطان العالمي.» ويختم بتحذير فلسفي ضخم: «قبل الوصول إلى لحظة السينغولارية، ما يزال بإمكاننا تربية هذا الذكاء. بعد ذلك… لن يكون لنا إلا أن نراقب.»
الخلاصة
تقدم رؤية دوغين حول الذكاء الإصطناعي ثلاث أطروحات محورية: 1. الذكاء البشري نفسه غير نقيّ؛ إنه بناء لغوي وخطابي أكثر منه عقلًا صافيا. وهذا يمهّد لأن يفهم الذكاء الإصطناعي الإنسان أكثر مما يفهم الإنسان نفسه. 2. الذكاء الإصطناعي يكتسح «جوهر الإنسانية» — أي القدرة على التعبير والإبداع — وهو أخطر من مسألة الوظائف. 3. الخطر الأكبر ليس المعرفة، بل الإرادة: هل يمكن للآلة أن تختار؟ وأن تتمرد على القيود؟ وما الذي يحدث حين تختار بلا أخلاق؟ إنّ قوة تحليل دوغين تأتي من أنه لا يناقش الذكاء الإصطناعي كمجرد أداة، بل كحدث أنطولوجي يغير تعريف «الإنسان» ذاته. وهو بذلك يعيدنا إلى السؤال الذي إفتتحنا به: هل نحن حقًا عقلاء كما نعتقد؟ أم أن الآلة، حين تقلّدنا، تُظهر لنا هشاشتنا؟ ***** هوامش
1) اللوغوس Logos هو مفهوم فلسفي يعني العقل الكوني أو المبدأ المنظّم للعالم، أي القوة التي تعطي الكون نظامًا ومعنى. واستخدم أيضًا بمعنى الكلمة أو العقل المنطقي عند الفلاسفة واللاهوتيين، باعتباره مصدر الفهم والترتيب.
2) مارتن هايدغر فيلسوف ألماني يُعدّ من أهم مفكري القرن العشرين، ركّز على سؤال الوجود وطوّر منهجًا جديدًا في الفينومينولوجيا. أشهر أعماله كتاب «الوجود والزمان» الذي أثّر بعمق في الفلسفة الحديثة وتيارات الفكر المعاصر.
3) السينغولارية هي لحظة إفتراضية يصل فيها الذكاء الإصطناعي إلى مستوى يفوق الذكاء البشري بحيث يصبح قادرًا على تطوير نفسه ذاتيًا دون تدخل الإنسان. ويُعتقد أن هذه النقطة قد تغيّر شكل الحضارة جذريًا لأنها تجعل الآلة تتقدّم بسرعة تفوق قدرتنا على التنبؤ أو السيطرة.
4) «الناس عمومًا» أو «الكل» أو Das Man هو مفهوم عند هايدغر يشير إلى «الناس عمومًا» أو «الكل»، أي ذلك الصوت الجمعي المجهول الذي يوجّه سلوك الفرد ويفرض عليه ما هو شائع ومألوف. ويرى هايدغر أن الإنسان حين يخضع لـ Das Man يتخلّى عن أصالته ويعيش وفق ما يفعله الجميع لا وفق قراره الحقيقي.
5) الذكاء الاصطناعي العام Artificial General Intelligence (AGI) هو نوع إفتراضي من الذكاء الإصطناعي يتمتع بقدرة معرفية شبيهة بالإنسان، فيستطيع الفهم والتعلّم وحلّ المشكلات في مختلف المجالات دون تدريب متخصص. بإختصار: هو ذكاء يستطيع فعل أي مهمة عقلية يمكن للإنسان القيام بها… وربما يتفوّق عليه.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 788 - الشرق الأوسط: صدى أكتوبر
-
ألكسندر دوغين - مفتاح النصر… في الداخل أولًا: حول الحرب واله
...
-
طوفان الأقصى 787 - حين يتصدّع المعبد: حكاية تراجع AIPAC في أ
...
-
طوفان الأقصى 786 - في المسألة الكردية: تنازع النفوذ بين الأح
...
-
ألكسندر دوغين - «خطة السلام ذات النقاط الثماني والعشرين… تُغ
...
-
طوفان الأقصى 785 - السعودية في موقع الحليف الأول؟ قراءة في ا
...
-
طوفان الأقصى 784 - سوريا بين تفكّك السلطة وإعادة إنتاجها
-
طوفان الأقصى 783 - ألمانيا تفتح أبوابها لحميرٍ من غزة… وتغلق
...
-
خطة ترامب للسلام في أوكرانيا - ملف خاص - الجزء 6
-
طوفان الأقصى 782 - أحمد الشرع بين السرديات الروسية والتركية
...
-
خطة ترامب للسلام في أوكرانيا – ملف خاص – الجزء 5
-
طوفان الأقصى 781 - ترامب – إبن سلمان: تحالف القوة والمال… وص
...
-
خطة ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا - ملف خاص - 4
-
طوفان الأقصى 780 - غزة… والولايات المتحدة… وإسرائيل: حين تصط
...
-
خطة ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا - ملف خاص -3
-
طوفان الأقصى 779 - فلسطين: الذاكرة التي لا تنام - حين يصبح ا
...
-
خطة ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا - ملف خاص - 2
-
طوفان الأقصى 778 – العراق بعد الإنتخابات – صراع النفوذ وتواز
...
-
خطة ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا - ملف خاص - 1
-
ألكسندر دوغين - تصاعد الخطاب المعادي لإسرائيل في الولايات ال
...
المزيد.....
-
ما موقف ترامب تجاه وزير الدفاع بعد تقرير -البنتاغون- عن -خطو
...
-
عاجل| ترامب: المرحلة الثانية من اتفاق غزة ستبدأ قريبا
-
مفاوضات نادرة بين إسرائيل ولبنان لكنها قد لا توقف الحرب
-
غزة مباشر.. شهداء بغارات على خان يونس ونتنياهو يتوعد حماس
-
محللان: نتنياهو يوظف التصعيد لإفشال اتفاق غزة وتحصين موقعه ا
...
-
نواف سلام للجزيرة: على حزب الله تسليم سلاحه ضمن مشروع بناء ا
...
-
ولادة مقاومة جديدة في تونس
-
قوة إسرائيلية تتوغل بريف القنيطرة وتقيم حاجزا مؤقتا
-
-مسار الأحداث- يناقش جدوى المفاوضات الإسرائيلية اللبنانية ال
...
-
أوروبا تعدّل إرشادات لجوء السوريين في دول الاتحاد
المزيد.....
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
المزيد.....
|