|
!!توني بلير حفيد اللورد كرومر
صالح سلمان عبدالعظيم
الحوار المتمدن-العدد: 1837 - 2007 / 2 / 25 - 12:39
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
وُلد اللورد كرومر في العام 1841، وشهد ذروة المد الإمبريالي البريطاني، وتوسُع الإمبراطورية الإستعمارية التي لا تغيب عنها الشمس. وكان له نصيب هائل وضخم وعنيف من إسهامات هذه الإمبراطورية الدموية من خلال عمله مندوباً ساميا للإحتلال البريطاني في مصر في الفترة من عام 1883 وحتى عام 1907، قبل أن يرحل عن مصر على إثر فضيحة دنشواي التي إرتبطت بإعدام أربعة مصريين من الفلاحين، إضافة إلى جلد عدد آخر منهم. لقد إشتهر اللورد كرومر بصفاقته في معاملة المصريين، والحديث المزري عنهم، في الوقت الذي كان يرى فيه أن إنجلترا صاحبة فضل كبير في تعليم هؤلاء المصريين الجهلاء وإخراجهم من حالة الفقر التي يعايشونها. ورغم هذا الخطاب الصفيق، فإن واقع الأمر لم يكن يشير إلى أى تقدم حققه الإستعمار البريطاني للمصريين، فقد كانت مصر تمثل خزينة مفتوحة على مصراعيها تصب في مصلحة التاج البريطاني، مثلها في ذلك مثل الهند، لتؤمن له المزيد من القوة والهيمنة على العالم. لقد تم سرقة مصر ونهبها منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، في أكبر عملية نهب منظم تمت تحت سمع وبصر قيم التنوير الغربية، وقيم الحضارة الغربية المدعية.
توفي اللورد كرومر عام 1917، والإمبراطورية البريطانية مازالت في أوج قوتها، رغم المصاعب الهائلة التي بدأت تواجهها، وبشكلٍ خاص بعد تصاعد حركات الإستقلال ضدها، إضافة إلى ظروف وأوضاع الحرب العالمية الأولى، وبداية بزوغ المارد الأمريكي. وفي العام 1953، وُلد توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الحالي، الذي غالباً ما سوف يترك منصبه بحلول صيف هذا العام. وبينما شهد كرومر بريطانيا وهى في قمة هيمنتها، فإن بلير شهدها وهى ذيلية خاضعة مُرتمية في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي لم يستطع أن يتخلص منه بلير ذاته، وربما الكثير من القادة البريطانيين السابقين، وعلى رأسهم مارجريت تاتشر. فبريطانيا لم تنس أنها كانت قوة عظمي، ولم تنس أنها قد حكمت العالم، وتحكمت بمقاديره، وغيرت التاريخ والجغرافيا، في أكبر عملية إعادة تشكيل للعالم في القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد دفع هاجس الإحساس بالماضي التليد بالكثير من قادتها إلى التوحد مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ مفرط ومهين في الكثير من الأحيان.
نشر توني بلير مقالاً حديثاً في المجلة الأمريكية ذائعة الصيت "شؤون خارجية"، عدد يناير/ فبراير 2007، بعنوان "معركة من أجل القيم الكونية"، تناول فيه العالم وأحواله من منظور سياسي يلملم حقائبه، ليترك رئاسة وزراء بريطانيا العظمى. ورغم بعد المسافة بين إختفاء اللورد كرومر عن ساحة الحياة، وظهور توني بلير، فإن أوجه الشبه بينهما كثيرة، رغم اختلاف العصر، وتحولات التاريخ، وإعادة تشكيل الجغرافيا. وحتى نعرض لأوجه الشبه فيما بينهما، علينا أولاً أن نبين أهم القضايا التي تناولها السيد بلير في مقالته أو لنقل رؤيته الإستعمارية الحديثة.
يبدو عنوان المقالة دالاً بدرجة كبيرة على ماهية رؤية بلير، فهناك دعوة نضالية من أجل القيم الكونية التي تجمع فيما بيننا كبشر يجمعنا كوكب واحد وأهداف مشتركة واحدة. فالسيد بلير يتجاوز دور السياسي ليفرض علينا دور الداعية الأخلاقي، الخائف على مصير الكون، حيث تدفعه مثالياته، التي يرى أنها تعبيراً جاداً وحقيقيا عن طروحات سياسية واقعية، إلى الحديث عن هموم كوكبنا، والمصائر المختلفة التي تنتظرنا. وحتى يجد بلير تكأة حقيقية يستند إليها في حديثة عن هذه القيم الكونية، التي يجب أن يتحد الجميع من أجل الدفاع عنها وتحقيقها، فإنه يتحدث عن الإرهاب الإسلامي المعاصر المنتشر في كل أرجاء الأرض. وبأريحية الحكماء، والسياسيين الذين ينتظرون ترك مناصبهم وكراسيهم، فهو يفصل بين هؤلاء الإرهابيين، وبين ملايين المسلمين الطيبين، الذين يؤمنون بالتسامح وبالقيم الغربية، قيم الحداثة، التي يحيلها بلير إلى قيم الحضارة الإنسانية المشتركة. ورغم حديثه المستمر والمتواصل عن هذه القيم، فإنه لا يكشف لنا عن عناصر ومكونات هذه القيم، بقدر ما يجعلنا نستشعر أنها لا تخرج عما يؤمن به الغربيون أنفسهم من قيم وقناعات مرتبطة بالحضارة الغربية.
لا يوجه بلير رؤيته للقراء العرب والمسلمين، لكنه يوجهه، وهنا مكمن الدهاء والخبث، إلى بعض القراء في العالم الغربي، الذين يلومون أمريكا وبريطانيا على حربهما ضد الإرهاب، ويرون أن سبب تعاظم الإرهاب، يعود إلى السياسات الغربية الخاطئة في العراق وأفغانستان وفلسطين. يؤكد بلير أن هؤلاء المواطنين الغربيين الذين مازالوا يؤمنون بأخطاء الغرب المختلفة ضد المسلمين يجب أن يغيروا آرائهم، وأن يقفوا ضمن جبهة الدفاع عن القيم الغربية، قيم الإنسانية المشتركة. إضافة إلى ذلك، يرى بلير أن المعركة ضد الإرهاب لا يجب أن تقف فقط عند الجانب الأمني، بل يجب أن تتعداه إلى تغيير العقول والقلوب، فبدون أن نتغير نحن العرب والمسلمون، ونؤمن بأهمية النضال والحرب ضد الإرهاب، ونستدمج القيم الغربية، المعبرة عن القيم الإنسانية المشتركة، لن تنجح معركة الحرب ضد الإرهاب. لم يكتف الغرب بالتدخل في تغيير المناهج والمقررات الدينية والتعليمية في العالم العربي، لكنه يريد الآن تغيير عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا.
يرتدي بلير مسوح النقاء والإنسانية والحكمة، فيتحدث عن دور الغرب، في مكافحة الفقر، والحفاظ على البيئة، ونشر العدل والمساواة. هكذا تختلط الأفكار وتتعدد الرؤى. يبدأ بلير مقالته بالحرب على الإرهاب، وبأهمية النضال من أجل القيم الإنسانية المشتركة، واضعاً المسلمين والعرب في صدر الصورة، ثم ينتقل إلى الحديث عن أهمية مكافحة الفقر والحفاظ على البيئة. ورغم أنه يُحمِّل الدول الغربية دوراً هاماً في مكافحة الفقر والحفاظ على البيئة، إلا أن هذه الأدوار تتلاشى بجانب معركة النضال والكفاح من أجل الحفاظ على القيم الإنسانية المشتركة التي يمكن أن تضيع على أيدي المسلمين والعرب، وعلى أيدي المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية.
واللافت للنظر هنا، أن بلير مازال يعظم من شأن الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الكوني، إلى الدرجة التي يرى أن "الخطر في العلاقة مع الولايات المتحدة اليوم لا يكمن في أنها شديدة الارتباط بالعالم. بل الخطر في أنها قد تقطع جسورها وتنسحب". مازال بلير متوحداً مع سياسات بوش، ومازال يربط مصير العالم بالدور الأمريكي الذي ثبت عدم فاعليته في الكثير من أرجاء العالم، إلى الحد الذي يمكن معه القول بأن أمريكا لا تتدخل في أى مكان في العالم إلا واندلعت فيه الحروب والإضطرابات المختلفة.
كان اللورد كرومر يمتلك صفاقة الخطاب الإستعماري في الربعين، الأخير من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين، لذلك فقد كان يسرق المصريين مباشرة، ثم يكيل لهم خطابات الإستهزاء التي تحط من شأنهم، وتنتقص من قدرهم. وفي كل هذه الأحوال فقد كان مركزيا في تفكيره، تشمله التوجهات الغربية الإستعلائية المُحطة من شأن الشرق وثقافته وإسلامه. كان خطاب اللورد كرومر متسقاً مع تكوينه الإمبريالي الجلف. فلم يكن الرجل بحاجة لكى يناور ويلف ويدور ليختار كلماته عن المصريين بعناية وبحرص، فقد كان الحاكم الفعلي لمصر لمدة تربو على الربع قرن من الزمان.
ورغم تغير الزمان والتاريخ والجغرافيا الآن قياساً لما كان عليه الحال زمن اللورد كرومر، فإن بلير لم يتغير، ولم يفارق جينات جده الإستعمارية. الفارق بينهما، أنه بينما كان كرومر يحتقر مصر والمصريين والإسلام بشكلٍ مباشر وعلني، فإن بلير يتحدث عن الإسلام بإعجاب في صدر مقالته، ثم يتحدث عن القيم التي يجب النضال من أجلها، والتي هى في النهاية قيم المجتمعات الغربية المسيحية. وبينما يرى الملايين في كافة أنحاء العالم العربي في حزب الله نموذجاً حقيقيا للمقاومة، مثله مثل حماس، فإن بلير يصفهما بالإرهاب. إن الفارق الرئيس بين كرومر وبلير يكمن في أن الأول كان صفيقاً وجلفاً في أحاديثه الإستعمارية، بينما يغلفها الثاني بإطار القيم الكونية والإنسانية المشتركة، ويمنحها طابعاً كونيا شاملاً، وكأنه نبي القرن الواحد والعشرين المنتظر.
ينسى بلير أو يتناسى أنه كذب أمام شعبه بخصوص أسلحة الدمار الشامل في العراق. كما ينسى أو يتناسى الجرائم النازية التي إرتكبتها القوات الأمريكية والبريطانية في العراق، وعلى رأسها ذلك التدمير المنظم والمقصود للمرافق المدنية التي حصلت بموجبه الشركات الأمريكية والبريطانية على عقود إعادة بنائها. كما ينسى أو يتناسى فضحية سجن أبي غريب، وإستخدام الأسلحة المحرمة دوليا ضد العراقيين، حتى قصف مقر الأمم المتحدة ذاته، الذي ذكره بلير في مقالته، من المرجح أن يكون قد تم بمعرفة القوات الأمريكية للتخلص من أى وجود للأمم المتحدة في العراق. وينسى بلير أو يتناسى أن ذهاب القوات الأمريكية والبريطانية للعراق لم يكن من أجل سواد عيون العراقيين، ومن أجل تحقيق الديمقراطية له، لكنه من أجل المصالح المادية المباشرة، ومن أجل العقود التي حصلت عليها رجال الأعمال الغربيون. كما ينسي أو يتناسى تلك الممارسات الصهيونية الدموية ضد الفلسطينيين وضد المدنيين اللبنانيين التي تتم تحت سمع ومرئى العالم الغربي المتحضر.
من الغباء أن يتصور بلير أن الديمقراطية يمكن أن تحدث بمجرد دخول القوات الأمريكية والبريطانية إلى العراق أو إلى أفغانستان، وأن العالم العربي سوف يتغير بمجرد دخول هذه القوات. فما حدث هو العكس تماماً حيث المزيد والمزيد من إعادة تشكيل جغرافيا المنطقة، والمزيد والمزيد من زراعات الأفيون في أفغانستان. كل ذلك على مرئى ومسمع قوات التحالف الدولي، راعية القيم الكونية التي يتحدث عنها السيد بلير. كان من الممكن أن يرحل السيد بلير في صمت، ويتركنا نبحث عن القيم الخاصة بنا، والمناسبة لمنطقتنا، لكنه أبى إلا أن يترك لنا تلك النسخة الأكثر إبتذالاً وصفاقة ودهاءً من خطابات جده اللورد كرومر.
#صالح_سلمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|