أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - ثرثرات السياسة تفسد الوعي















المزيد.....

ثرثرات السياسة تفسد الوعي


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 18:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


د. عبد الجبار الرفاعي
ورد في الفصل الثالث من "فن الحرب" للحكيم الصيني المعروف سون تزو Sun Tzu: "الانتصار في مئة معركة ليس من أسمى مهارات المجد، إنما أسمى مهارة أن تقهر عدوك بلا قتال". يتغلب وعي السياسي الواقعي حين يدرك أن أعلى مراتب النصر هو الانتصار بلا حرب، وأنه يجب ألا يهدر الفرص، ويغرق في الأوهام، لأن توهم القوة لا يصنع القوة، وتوهم الانتصار لا يصنع الانتصار. السياسة في أصلها فن للعيش المشترك، ومجال عام تتجسد فيه مسؤولية الإنسان عن تنظيم حياته مع الآخرين. عند أرسطو كانت السياسة أرقى صور الأخلاق، لأنها تعنى بسعادة الجماعة لا بمصلحة الفرد وحده. وفي الفكر الحديث صارت السياسة فن إدارة الصراع بالعقل لا بالعنف، وإدارة المصالح بواقعية.
السياسة الواقعية هي علم إدارة المصالح والمصائر المشتركة للمواطنين. السياسة التي تبني الأوطان تستثمر في التنمية، ولا تتورط في الاستثمار في الأيديولوجيات التعبوية، وتتفادى الحروب بكل الوسائل. هذا المعنى الواقعي للسياسة فقد حضوره في الأنظمة الثورية في بلادنا العربية وغيرها، حين تغلبت الثرثرة على التفكير، وصار الكلام في السياسة شغفًا عامًا يمارسه من لا معرفة له بها، فغدت السياسة على ألسنة هؤلاء مثل مرآة مهشمة لا تعكس الواقع بل تشوهه.
يتحدث أكثر الناس في مجتمعنا بالشأن السياسي، وكأنها حفلة للتفاخر اللفظي لا مجالًا للفهم والمسؤولية. بعد ضمور الوعي السياسي صار الحديث في الشأن العام موجة من الأصوات المندفعة التي تملأ المجال العام بضجيج لا ينتج فهمًا ولا يبني وعيًا. أفسدت أصوات المتحدثين غير الخبراء في السياسة المجال العام، ممن يتحدثون بلا وعي سياسي بالواقع، وأجهضت التفكير النقدي، وعطلت القدرة على الإصغاء، وجرى من خلالها استبدال الفكر بالشعارات والضوضاء الصاخبة، والعقل بالمشاعر، وإثارة المكبوتات التاريخية. وسائل التواصل اليوم منحت كل إنسان منبرًا بلا مسؤولية، فصار الحديث السياسي مسرحًا للانفعال والخصام المبتذل، يتكلم فيه الجميع ليعلنوا عن أنفسهم لا ليكشفوا الحقيقة.
صار الحديث في السياسة هواية من لا هواية له، وملاذًا لمن يهرب من مسؤوليته الفكرية والأخلاقية والوطنية، حتى صارت كثرة الكلام مهارة للتعويض عن الفهم الدقيق والعمل. بتضخم هذه الظاهرة، غابت المفاهيم المحورية في السياسة؛ كالدولة والحكومة والسلطة، والوطن والمواطنة، والقانون، والحرية والمسؤولية، والقيم والعدالة والحقوق، وغدت كلمات مستهلكة تستعمل من دون وعي بمعانيها التاريخية والفكرية والسياسية. لم يعد المتكلمون في السياسة يسألون: ما الدولة؟ ما الحكومة؟ ما السلطة؟ ما الدستور؟ ما العدالة والحقوق والقانون؟ ما الحرية والمسؤولية؟ ما الوطن والمواطن والمواطنة؟ لأن السؤال اختبأ تحت ركام الشعارات، وتحول النقاش إلى حلبة للصراخ، والاختلاف إلى خصومة.
كلما ارتفع صخب الثرثرة خفت صوت الفكر، وذبلت السياسة بوصفها فنًا للعيش المشترك، وتحولت إلى حلبة للإثارة والغضب والانقسام والتمزق. بالكلمات والشعارات الساذجة التي تقال في السياسة، يتسع الخرق في نسيج الوعي الجمعي، ويضطرب الرأي العام، وتزداد المسافة بين المواطن ومعنى الوطن، فيغدو الانفعال بديلاً عن الفعل، والصراخ بديلاً عن الحجة، والوهم بديلاً عن المعرفة. مَن لا يملك وعيًا سياسيًا لا يستطيع أن يخدم وطنه بالكلام، لأن السياسة ليست لعبة للكلام بل صناعة للمعنى. الوعي السياسي ليس حفظًا للمواقف ولا تكرارًا للكلمات، إنما هو إدراك للعلاقة بين الإنسان والدولة، بين الحرية والمسؤولية، بين العدالة والكرامة. لا يستقيم القول في السياسة إلا إذا صدر عن عقل يزن الكلمة بميزان القانون والقيم، وقلب يرى في الخلاف طريقًا إلى الفهم لا ساحة للصراع. السياسة من غير وعي سياسي تنقلب إلى عبث يهدر الطاقات، ويزرع الكراهية، ويبدد الأمل في البناء. حين يغيب الوعي السياسي، تصبح الثرثرة بديلاً عن العمل، ويغدو الصمت هو الملاذ هروبًا من هذر الكلام. الصمت هنا ليس انسحابًا من الشأن العام، بل هو إنصات للمعنى قبل النطق به، وتأمل في الكلمة قبل استعمالها.
السياسة لا تبني الوطن بالهذيان، ولا تبني الوعي بالكلام غير المسؤول، بل تتكرس بالمسؤولية، وتترسخ حين يتكلم مَن يفكر بصمت وتريث قبل أن تصدر منه أية كلمة، ويصغي مَن يريد أن يفهم. السياسة فعل وعي وبصيرة، لا ارتجال وانفعال وشعارات طائشة. حين يعاد الاعتبار للوعي السياسي ولفن الإصغاء، تستعيد الكلمة معناها، وتستعيد السياسة وظيفتها الواقعية، ويستعيد الوطن الانتماء إليه الذي يجتثه االتهريج والصراخ والأوهام. السياسة لا تبنى على ضجيج الحناجر، إنما تنبثق من يقظة العقول، ولا تنهض بالأكثر كلامًا، إنما بالأنضج وعيًا. حين يتكلم الإنسان في ما لا يعرف يهرب المعنى، وتفقد الكلمات محتواها المؤثر، ويغدو القول هذرًا ييستنزف الوعي. الثرثرة السياسية من غير خبرة ولا معرفة تشبه مَن يرسم خارطة لبحر لم يره، ولا يعرف عمقه، ولا يدرك تياراته. في زمن طغت فيه الأصوات على الفكر، غدت السياسة ميدانًا لمن لا دراية لهم بها، وصار الجدل السياسي تسلية يومية يمارسها مَن يظن أن السياسة انفعال لا مسؤولية، وكلام لا بناء، وشعار لا وعي.
مادامت السياسة في مضمونها فن لإدارة الحياة المشتركة، وموازنة دقيقة بين شبكات المصالح المتنوعة، وصيغة للعدل تحفظ كرامة المختلفين، فحين تتحول إلى ثرثرات فإنها تعني العجز عن الفهم، ومرآة للغرور تزين الجهل وتخفي الحقيقة. يتحدث بعض السياسيين عن الوطن كأنه غنيمة، ممن لا ينبض في ضميرهم الوطن، وعن الدولة كأنها إرث خاص، وعن الحرية كأنها صراخ في الهواء، لا التزام ولا وعي بمسؤولية الكلمة. عندئذ يتلاشى المعنى، وتغدو الألفاظ والشعارات أداة للهدم لا أفقًا للبناء.
في هذا الفضاء يعاد انتاج الأمية السياسية، ويتكلم السياسيون كثيرًا من غير أن يعرفوا قليلًا، ويظنون أن تكرار الكلمات وصخب الشعارات علامة نضج، فيما هو وجه آخر للفراغ. الأمية السياسية ليست جهلًا بالنظريات ولا نقصًا في الثقافة العامة، إنما هي فقدان الحس بالواقع، وضعف البصيرة بالمصالح العليا، والعيش في انفعال دائم يستنزف العقل، ويقود إلى نزاعات لا تهدأ. الذين يثرثرون في السياسة من غير وعي يطفئون نور الفهم في العقول، ويشوشون على الناس إدراكهم لما يجري، فيختلط الوهم بالحقيقة، والعاطفة بالحجة، والشك بالمعرفة، وينشأ من ذلك ضجيج لا يفتح طريقًا للوعي ولا يخلق ادراكًا للواقع وشدة تعقيده. كلما ارتفع صوت الثرثرة انحسر صوت الفكر، وصارت السياسة وسيلة للخصومة والاحتراب، وغاب حضورها بوصفها فنًا لإدارة المصالح والمصائر المشتركة.
السياسة لا تستقيم إلا إذا كانت فعل وعي واقعي يربط الكلمة بالمسؤولية، والفعل بالقيمة، ويستمد منطقه من المعرفة لا من الانفعال. لا تصلح السياسة حين تمارس كعرض مبتذل في منابر الفضائيات والتواصل، أو كصراع في ساحات الغضب والانفعال. الوطن لا يبنى بالصراخ، إنما بالعقل الهادئ والضمير الوطني اليقظ، وتقديم الولاء للوطن على الولاء للعشيرة والطائفة. الوعي السياسي ليس تكديس معلومات غير دقيقة عن الأحزاب والزعامات، إنما هو إدراك للعلاقة بين الإنسان والمجتمع، بين الحرية والعدل، بين المصلحة والوطن والمواطن.
حين يغيب الوعي السياسي تستنزف السياسة في جعجعة الألفاظ، ويتحول النقاش إلى سوق للمزايدات، وتغدو الكلمة صدى بلا أثر. في تلك الحالة، يكون الصمت أصدق من الادعاء، والإنصات أعمق من الكلامة. السياسة تحتاج إلى عقل حاذق واقعي، يرى في الاختلاف طريقًا إلى الفهم لا ميدانًا للعداء، وتحتاج إلى إنسانٍ يدرك أن إصلاح العالم لا يتم بالنوايا وحدها، بل بالفكر الذي يضيء الطريق، وبالضمير الذي يصغي إلى نداء استغاثة المعذبين والضحايا في الوطن. السياسة عمل إنساني قبل أن تكون خطابًا أيديولوجيًا، ووعي بالإنسان قبل أن تكون صراعًا على السلطة والثروة. حين يستعيد الإنسان هذا المعنى، تستعيد السياسة وظيفتها، وتستعيد الكلمة حرارتها، ويستأنف الوطن حضوره في ضمير المواطن.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذكاء الاصطناعي تحدٍّ وفرصة
- مقدمة كتاب الهوية في شِراك الأيديولوجيا
- الصمت مرآة لقوة الإرادة
- أنين الأرض من استباحة مواردها
- يتطور النحو عند المخزومي بتطور اللغة
- الصمت فعل مقاومة للثرثرة والابتذال
- تغلغل المنطق في النحو وعلوم اللغة
- مغامرة تأسيس دار نشر للكتاب الورقي
- اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة
- تتعدد اللغات بتنوع سياقات استعمالها ومجالات تداولها
- تحديات اللغة في العصر الرقمي
- اغتراب اللغة عن الواقع اغتراب للإنسان عنها
- كتاب دروب المعنى
- تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة
- عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب
- الأسماء الإلهية في سياق لغة الغيب
- لغة الغيب لغة رمزية
- لغة الغيب غير لغة العلم
- رؤيا الغيب في لغة الدين
- الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا


المزيد.....




- غريب آبادي: الجمهورية الإسلامية كانت دائمًا في طليعة مكافحة ...
- البابا لاون الرابع عشر يدعو رؤساء الطوائف المسيحية والمسلمة ...
- الأنبا إبراهيم إسحق يشارك في لقاء بابا الفاتيكان الأساقفة وا ...
- غرفة العمليات الحكومية تستعرض خطة الإغاثة والتعافي لوزارة ال ...
- التميمي يبحث تطوير إدارة قطاع الأراضي في محافظة سلفيت وتعزيز ...
- إسرائيل تنشر أرقاما متضاربة عن عدد اليهود بدول عربية
- لبنان.. رئيس الفاتيكان ينتقد ضجيج الأسلحة ويطالب بالمحبة وال ...
- -تنظيم الدولة الإسلامية يشكل تهديداً عالمياً متزايداً- - الت ...
- بابا الفاتيكان يدعو إلى السلام في لبنان
- بابا الفاتيكان يواصل الدعوة للسلام في اليوم الثاني من زيارته ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - ثرثرات السياسة تفسد الوعي