|
|
الجذور الخفية للفاشية البعثية.
عمر الخطاط
الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 18:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الرموز الخفية للفاشية البعثية!
ما حدث قبل أيام في ساحة الأمويين بدمشق، حيث رفع متظاهرون تابعون لحكومة الجولاني صندوق طلاء أحذية كرمز لإهانة الکورد في رۆژئاڤا، لا يمكن تجاهله.
أولاً، رفع صندوق "طلاء الأحذية" كرمز للسخرية من الكورد ليس تصرفاً فردياً لفرد قد يكره الکورد؛ بل هو نتيجة تاريخ طويل من تراكم الفاشية المبرمجة من قبل النظام البعثي، والتي انتشرت الآن في المجتمع وترسخت في عقول شريحة كبيرة من الشعب السوري، وخاصة أولئك الذين يؤيدون نظام الجولاني.
طلاء الأحذية ليس أمراً او عملا مخجلاً؛ إن كان هناك أي خجل، فهو نظام البعث، الذي لا يقبل أي تعريف للوجود "للآخر المختلف"، ويفرض عليه، بالإضافة إلى العنف المبرمج من قبل الدولة، نظام حياة لا إنساني. حزب البعث، كحزب قومي عربي ذي سياسة شوفينية تجاه الکورد، فرض منذ بدایات حکمه سياسة إفقار المناطق الكردية. منعت أجهزة الأمن التابعة له إنشاء أي مصانع أو مشاريع اقتصادية في هذه المناطق. احتلت أراضي المزارعين الکورد ومنحتها للعرب الوافدين من دير الزور والرقة ومناطق أخرى، وحظرت اللغة الكردية وحرمت الأكراد من حقهم في الهوية.
إذا أجرينا مقارنة بسيطة، يمكننا القول إن طلاء الأحذية هو عمل أكثر إنسانية ونبلًا من أفعال الإسلاموية الحاكمة، التي جعلت من قتل و سبي النساء وإهانة الناس وسرقتهم و أبادة الأقلیات الدینیة ممارسات يومية.
لكن النقاش لا يتوقف عند هذا المستوی. إذا أردنا فهم جذور هذه الفاشية، فعلينا العودة إلى تاريخ نشوء الدولة القومية في أوائل القرن العشرين. الفاشية التي تُمارس الآن ضد الکورد في بلد مثل سوريا هي إرثٌ أسود من نظام البعث الفاشي، وأولئك الذين تولوا السلطة بعده، هم مثالٌ آخر على نفس عقلية البعث، ولكن بغطاءٍ مختلف.
أن تاريخ صعود هذه الفاشية ليس نتاجًا للأنظمة الحديثة فحسب؛ بل له جذورٌ تاريخية تعود إلى اللحظة التي بدأت فيها القوى (العثمانية والصفوية والعربية) بتقسيم المركز والأطراف. الکورد، الذين انتشروا على مساحة شاسعة ومؤثرة في هذه المناطق، لم يكن لديهم دولةٌ تفرض روايتهم الخاصة، لذا و وفقًا لمنطق علم الاجتماع السياسي، فإن الدول التي لا تُنتج خطابًا رسميًا عن نفسها يُعاد كتابة تاريخها من قِبل الآخرين.
مع سقوط الإمبراطورية العثمانية وإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة لصالح إمبرياليي الحرب المنتصرین، وصلت إلى السلطة في كلٍّ من هذه الدول عددٌ من الحركات القومية، و ولد مشروع الدولة القومية. في العراق وسوريا، وصل حزب البعث العربي إلى السلطة في ستينيات القرن الماضي. كان مشروع هذه الحركة الفاشية هو بناء أمة عربية عظيمة تمتد من شرقها إلى غربها. يقول ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث: "الأكراد من أصل عربي، لكن الاستعمار نسيهم لغتهم". و اضاف "یمتد الوطن العربي من جبال زاگروس إلى المحيط الأطلسي، لكن هناك أقليات عدة تعیش فیه، إذا تسببت هذه الأقلیات في مشاكل للأمة العربية، فسنهجّرها خارج حدودنا".
احتاجت الدول الناشئة، المشبعة بالخطاب القومي والعروبي، إلى خطاب يوحد عناصرها المختلفة ويعلن وحدة وهمية. في الوقت نفسه، اعتُبر وجود الکورد عقبة أمام وحدة "الأمة العربية" يجب إزالتها. أدرك البعث أن الإقصاء والعنف و التهجیر لە ثمن باهظ. ورغم عدم تقصيرهم في هذه السياسات، إلا أنهم كانوا بحاجة إلى إعادة تعريف الکورد وفقًا لأيديولوجية البعث و في إطار مشروع قومي متأزم وداخل دولة عربية فاشية تفسر نفسها على أنها المحتكر الوحيد لمعنى الاستقلال. أراد البعث و في سعيهم وراء وحدة مصطنعة، خلق "آخرً" داخلي يدعم مشروعهم وتناقضاتهم الداخلية. وهكذا، أنتجوا الکورد لا كشعب له لغته وتاريخه، بل كتهديد دائمي یهدد وحدتهم القومیة الوهمیة. ومنذ ذلك الحين، يُصوَّر الکورد في وسائل الإعلام والمناهج الدراسية والنكات واللغة اليومية على أنهم يُعاملون بالمراقبة والاعتقال والقمع، بدلًا من الاعتراف بحقوقهم. في هذا السياق، لعبت الأنظمة البعثية في العراق وسوريا دورًا مباشرًا في تحويل الکورد من مکون رئیسي و مواطن إلى رمز "للخطر الداخلي". لم يكن سبب هذه الشیطنة أن الکورد يشكلون تهديدًا حقيقيًا لهذه الأنظمة، بل لأن النظام كان بحاجة إلى مثل هذا التهديد لإعادة إنتاج شرعيته. لم تكن وسائل هذا التحول الفاشي سياسية واقتصادية فحسب، بل كانت ثقافية أيضًا. كانت النكتة البريئة ظاهريًا إحدى أبرز أدوات العنف الرمزي المستخدم. يصف بورديو هذا العنف بأنه عنف "لا يدرك ضحاياه أنه عنف"، مما قد يجعله أكثر خطورة من الخطاب الرسمي؛ لأنه يعيد إنتاج التسلسلات الهرمية في الوعي الجماهيري بطريقة لا يلاحظها أحد أو يتفاعل معها. وهكذا، سينشأ جيل يعتقد أن الکورد غوغائیین، أغبياء، خونة للوطن، وأن عقولهم مغلقة وعنيفین ويجب ابادتهم. صفات لا علاقة لها بالواقع، بل هي خطاب سياسي کراهي لإنتاج شعور قومي فارغ يُعرّف "نحن العرب" ضد "الآخر" المختلف الذي یصنفونه کتهديد.
هنا تصبح الفاشية مفهومًا سياسيًا واجتماعيًا يعمل في زوايا المجتمع الصامتة. ولأنها مصنّعة، فهي بحاجة إلى إعادة إنتاجها يوميًا. لذلك، تُصنع صورة الکورد في السياق الاجتماعي كموضوع للسخریة. مع مرور الوقت، ترسخت الصور التي صنعها نظام البعث عن الکورد في الوعي العام لدرجة أن عامة الناس نظروا إليهم من خلال عيون النظام، كما نرى الآن في سوریا الجولاني الیوم. هذه ليست مجرد عملية نفسية، بل هي آلية سياسية وفلسفية معقدة تسمح للنظام بالسيطرة على الناس حتى دون تدخل مباشر. عندما يرسم البعث صورة معينة للکورد ويصفهم بالخطرين أو الأغبياء أو الانفصاليين، فإنه لا يحاول شيطنتهم فحسب، بل يسعى أيضًا إلى تشكيل وعي الأغلبية التي تستقبل هذا الخطاب وتعيد إنتاجه.
بالنسبة للفاشية البعثية، كأي فكر فاشي آخر قائم على رؤية جوهرية- Essentialist، يتحول الاختلاف إلى جوهر، والتنوع إلى تهديد، والاستثناء إلى قاعدة، ويصبح الخوف من الآخر جزءًا من الهوية الوطنية الزائفة التي تصنعها الدولة. مع مرور الوقت، يأخذ الناس هذه الصور ويُجادلون بقوة بأنهم هم انفسهم من انتجوە، وليس مُصنّعًا لهم ومُفروضًا عليهم يوميًا عبر الإعلام والتعليم واللغة المُتداولة. وقد استُخدم هذا ضد الکورد وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية. الدولة تصنع الصورة، الإعلام یدعمها و یروج لها، و المجتمع یتقبلها، و الفرد دون أن يعلم أنها مُصنّعة له یتبناها و مستعد للموت من اجل صورة وهمیة عن الآخر صنعت لە من اقبیة المخابرات.
عندما ينظر السوريون إلى الکورد من منظور النظام، فهذا يعني أن السلطة انتقلت من موقعها الخارجي إلى الوعي العام الأجتماعي و أن المجتمع بدأ يُعيد إنتاج نفس الفاشية بطریقة عفویة.
هنا، يفرض مفهوم التحرر مهمتين: أولاً؛ التحرر من نظام سياسي يفرض نظاماً وخطاباً فاشيين؛ ثانیا؛ التحرر من قوة معرفية كامنة في العقل العام تبدو "طبيعية"، في حين أنها منتج أيديولوجي فاشي أُعيد إنتاجه لعقود.
مقاومة هذه الفاشية، المتجذرة في الوعي الجماعي، لا تتوقف عند ردود الفعل الغاضبة أو الكلام المباشر، بل تبدأ أولاً بتفكيك أساس الفكر الذي يجعل من رفع صندوق أحذية عملاً مهيناً. المشكلة ليست في الصندوق نفسه، بل في المعنى الرمزي المُحیط به وفي المخيلة الجماعية التي تنظر إلى الکورد کموضوع للسخرية وتجعل من إهانتهم عملاً بطولياً. إن مواجهة الفاشية هنا ضربة قویة لتلك المخيلة. مخيلة صنعتها نظام عروبي فاشي لعقود.
تبدأ المواجهة باستعادة المعنى. عندما تبدأ الإهانات برفع صندوق أحذية، يمكننا عكس المعادلة، و تفسیر عمل صبغ الأحذية كرمز للعمل النبيل. بذلك، يُمكننا خلق معانٍ جديدة تُكسر احتكار السلطة على الرموز. فقوة الفاشية مبنية على احتكار المعنى، وعلى تعريف ما هو أساسي وما هو نبيل، ما هو جميل وما هو قبيح، من "نحن" ومن "هم". فإذا استطعنا استعادة القدرة على تعريف الرموز و أبطال قوتها علی السخریة، فإننا سنضرب في صميم الفاشية ونستعيد القدرة على التحكم في المعنى.
لكن المواجهة ليست رمزية فحسب؛ بل هي معرفية أيضًا. تزدهر الفاشية حيث تضعف المعرفة أو تغيب. يكتسب الناس صورة "الآخر" من النكات والشائعات، لا من الواقع. لذلك، فإن الكشف عن تاريخ الکورد ولغتهم وثقافتهم ونضالهم ليس ترفًا ثقافيًا، بل هو عمل سياسي ذو أهمية مباشرة ضد الجهل الذي يُغذي الفاشية. المعرفة ليست معلومة، بل هي عملية تشكيل مخيلة الجمهور، وكأنك تقول للناس: "ما تسخرون منه ليس شبحًا، ولا وهمًا، بل شخص حقيقي له تاريخه وعقله وآلامه وأحلامه". بهذا المعنى، تؤدي المعرفة الی اضعاف الفاشية لأنها تُضعف قدرتها على خلق عدوٍّ مجهول الهوية.
وأخيرًا، هناك المواجهة السياسية. الفاشية ليست مجرد فكرة؛ بل هي جزء من بنية السلطة ورأس المال. لا يمكن تفكيكها تمامًا دون تفكيك النظام الذي يُنشئها ويُعيد إنتاجها. لا يجب أن يتم ذلك بالثورة وحدها، بل يمكن تحقيقه من خلال بناء مساحات عامة جديدة، مساحات تسمح بالنقد والاعتراف والحوار وظهور أصوات حرة تُعرّف نفسها، لا أن تُعرّفها وسائل إعلام فاشیة. عندما تُفتح المساحات للأصوات المُهمّشة، تتلاشى السرديات الفاشية، لأن السرديات الفاشية لا يمكنها البقاء والأستمرار إلا في المساحات التي تخلقها حول ضحاياها.
تبدأ مواجهة الفاشية بأدق التفاصيل وتنتهي بأكبر الهياكل. تبدأ الأمر بأستعادة كرامة عمال الشوارع الذين يصبغون الأحذية، وتنتهي باستعادة كرامة الإنسان. تبدأ بكلمة وتنتهي بتحرير خيال مجتمع بأكمله. إنها حرب طويلة، لكنها ليست ميؤوسًا منها، لأن الفاشية، رغم رسوخها، ليست بناءً طبيعيًا، بل بناءً مُصنّعًا. ما تم بناؤه، يُمكن تفکیکه، وما تم تفکیکه، يُمكن تجاوزه، وما تم التغلب عليه في النهاية يخلق مساحة للإنسان ليصبح الإنسان الحقيقي، وليس صورة أنشأها نظام فشل داخليًا ولا يزال يزدهر على إيذاء الآخرين.
30.11.2025
#عمر_الخطاط (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رد علی تساؤلات یساري تقلیدي!
-
مدخل الی ثنائیة رأس المال والسلطة في کردستان.
-
المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العمالي العراقي ، خطوة إلی
...
-
الاجدى تقوية أتحاد المجالس والنقابات العمالية وقيادته!...ملا
...
-
الصور الكامنة خلف الإعدام
المزيد.....
-
إيرباص تكتشف مشكلة جديدة في طائرات الركاب A320 الأكثر مبيعًا
...
-
صانعا محتوى مصريان يثيران جدلاً بشأن سلامة بعض المنتجات الغذ
...
-
البابا لاون يزور لبنان ويصلي في ضريح مار شربل
-
ترامب يوجه إنذاراً نهائياً لمادورو: غادر البلاد الآن واترك ا
...
-
الباحثة الإسرائيلية المُفرج عنها في العراق تثير الجدل.. ما ع
...
-
-جيش بلا وجوه-.. إسرائيل تكشف كواليس -التحرك الخفي- لقواتها
...
-
خلاف على ملكية وحق رعاية كلب تصل إلى القضاء الألماني
-
معهد -سيبري-: شركات الأسلحة تجني أرباحًا طائلة من حرب أوكران
...
-
الإنكارُ الغربيُّ لوجودِنا كشعوبٍ وأمّةٍ.
-
فنزويلا: مكالمة بين ترامب ومادورو وغارات أمريكية مثيرة للجدل
...
المزيد.....
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
المزيد.....
|