*ما يتم التداول حوله هو ما طلبه شارون منذ عامين واكثر *ما يجب ان يحكم قبولنا أو رفضنا لنهج المرحلية الآن هو جوهر ما يجول في رؤوس حكام اسرائيل*
حين وصل اريئيل شارون الى سدة الحكم قي اسرائيل، كرئيس للحكومة، راهن الكثيرون من الساسة والمحللين على فشله السريع، او على عدم مقدرة ما يسمى بـ "الاسرة الدولية" على تحمله، وتحمل سياسته الدموية، وانه سيعيد اسرائيل الى عزلتها التي عايشتها إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987- 1993). خاصة واننا امام شخص تاريخه مليء بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبها، خلال فترة "خدمته" في الجيش الاسرائيلي، وبعد ذلك وزيرا للحربية الاسرائيلية، ومناصب وزارية أخرى. وكثيرة هي الدول التي اعلنت بعيد العدوان الاسرائيلي على لبنان، في العام 1982، وبعد مجزرة صبرا وشاتيلا، عن شارون بأنه شخص غير مرغوب فيه على اراضيها.
لم تكن تلك الرهانات ضرب من الخيال، بل اعتمدت على ابسط اسس العلاقات والاعراف الدولية، وكيف ان العالم تعامل مع مجرمي حرب من امثال شارون. ولكننا اليوم امام واقع مقلوب كليا، فجميع ابواب العالم مفتوحة امام شارون، ومنها ابواب عربية. ومن اجل التعاون مع شارون تبادر دول، مثل بلجيكا الى الغاء قوانينها التي تسمح باعتقال مجرمي حرب، حتى وإن لم يرتكبوا جرائم حرب على اراضيها... ويصل الامر الى ان يصف رئيس الولايات المتحدة الامريكية جورج بوش، شارون بانه "رجل سلام". وطبعا هنا محظور علينا ان نستغرب هذا الوصف حين يطلقه جورج بوش، الذي انطلق الى العالم بأسره ليرتكب مجازر بشرية ضد شعوب بأكلمها، إن كان هذا في حربيه على افغانستان والعراق، او الحروب الاقتصادية التي يشنها على العديد من دول العالم.
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل وصل الى ما هو اخطر منه بكثير.
حين صعد شارون الى دفة الحكم في المرة الأولى، وضع لنفسه قاموسا سياسيا، وايضا هنا سقطت الرهانات حوله، وكل ما طلبه شارون تحول الى مطلب دولي، وإن شئتم، فقد تحول الى مطلب عربي، وإن شئتم أكثر فأكثر، فقد تحول الى مطلب بعض اهل الدار الفلسطينية.
نذكر جيدا مطالب شارون الأولى بعد توليه الحكم، حين قال ان كل شيء يبدأ على الساحة الفلسطينية لوقف المواجهة الدموية، مع ان الاصح ان نقول وقف العدوان الارهابي على الشعب الفلسطيني، لان المواجهة لم تكن في اي من الايام متكافئة. بل كان من مصلحة اسرائيل الغازية ان تكبّر من مسألة المواجهة وتضخمها، "لتبرر" امام العالم جرائمها الارهابية، وهذا لا ينتقص من حجم الصمود الفلسطيني، وانما يبرز حجم الجريمة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني.
لقد طلب شارون وقف ما اسماه بالتحريض الفلسطيني، ووقف ما اسماه بـ "العنف الفلسطيني"، واعلن صراحة ان ليس لديه ما يبادر اليه، وشيئا فشيئا بدأ ينتشر هذا المطلب، امام اسطوانة اسرائيلية عالقة، لم تتغير ولم تتبدل، وبمساعدة الادارة الامريكية المحكومة بيد جورج بوش ومجموعته.
وكانت تسعى اسرائيل دائما الى جعل الساحة الفلسطينية منتفضة بشكل دائم، وحين كانت تُلاحظ اي فترة هدوء قبل اي تحرك دبلوماسي دولي، كانت تبادر الى ارتكاب جرائم في لحظة دقيقة وحساسة، تأكدت فيها اسرائيل ان الرد الفلسطيني سيتزامن حتما مع بدء التحرك الدبلوماسي المذكور. وحينها وبهجمة اعلامية خبيثة ولكنها "ذكية"، كانت تسلط الاضواء على الفعل الفلسطيني وكأنه نقطة بدء لدوامة جديدة "يحق" لاسرائيل الرد عليها!.
واهتمت اسرائيل بالنص الاعلامي المتداول عالميا عند كل عملية عسكرية كانت تقوم بها، فنقرأ "توغلت اسرائيل في المدينة الفلسطينية... ردا على العملية الفلسطينية التي اودت بحياة... اسرائيليا". ولشدة الغضب فإن هذا النص كان يتم تداوله في جميع الوسائل الاعلامية العربية قبل الاجنبية، وهنا يثبّت في وعي الرأي العام العالمي، بأن نقط البدء العدوانية كانت دائما لدى الجانب الفلسطيني، وهذا ايضا ما اراد شارون وحكومته ترسيخه.
لسنا في صدد مراجعة مطولة لحوالي عامين ونصف العام من حكم اريئيل شارون، ولكن في مراجعة سريعة نجد ان اسرائيل الشارونية اتبعت هذا الاسلوب دون توقف، فراجعوا، مثلا، ما كان يسبق زيارات المسؤولين الامريكيين الى اسرائيل والضفة الغربية والقطاع من امثال كولن باول، وجورج تينت، وانتوني زيني، وستجدون اننا امام سيناريو واحد من ابتكار اسرائيلي.
من هنا انطلق شارون، وخاصة بعد مرور شهرين على حصار الرئيس ياسر عرفات في رام الله، اي في اوائل شهر شباط/ فبراير العام 2002 الى نشر مطلب تغيير القيادة الفلسطينية، وبشكل خاص الرئيس عرفات، وكان عرّاب هذا المطلب وزير خارجيته شمعون بيرس، الذي كان صاحب فكرة "اسناد منصب رمزي لعرفات وتعيين رئيس حكومة فعلي بدلا منه"، ونجح الثنائي في تسويق هذه البضاعة بسرعة فائقة لدى الادارة الامريكية، التي لم تكن بحاجة الى من يقنعها، ومن ثم لدى الاتحاد الاوروبي، الذي ما زالت غالبية دوله تتعامل مع الرئيس عرفات، ولكنها لم تقاوم فكرة تعيين رئيس الحكومة، خاصة وان جهات عربية "اشترت" الفكرة وضغطت لتطبيقها، على الرغم من كل الخطابات العربية الرنانة، المخالفة ظاهريا لتحييد عرفات. وقد كانت قمتا شرم الشيخ والعقبة الاخيرتين تثبيتا لهذه الفكرة. وطبعا ان هذه الفكرة كانت بحاجة الى ايدي تنفيذية فلسطينية، وطبعا هذه الايادي لم تتأخر.
في خضم كل هذا وردت عدة مصطلحات، مثل دولة فلسطينية موقتة، وقد يقول قائل ان هذه الفكرة ظهرت للمرة الاولى في واشنطن، ولكن الفكرة ظهرت لاول مرة في المذكرة التي اطلق عليها اسم "مذكرة بيرس- ابو العلاء" (احمد قريع). ومصطلح التحريض الفلسطيني، دون ان نسمع اي كلمة عن التحريض الاسرائيلي. وفوق كل هذا مصطلح "الارهاب الفلسطيني"، وقد ابتلعت جهات عديدة هذا المصطلح، حتى "بتنا" وكأننا امام معركة ليس من اجل زوال الاحتلال الاسرائيلي الارهابي، وتحرير الشعب الفلسطيني، وانما من اجل انقاذ اسرائيل وحكومتها من "الضربات" الفلسطينية.
لننتبه الى ما يجري الحديث عنه، من قبل الساسة والاعلام، لدى كل تحرك دبلوماسي او لقاء اسرائيلي فلسطيني، فالحديث دائما يتركز حول ما تطلبه اسرائيل، مثل "الارهاب الفلسطيني"! و"جمع السلاح" و"وقف التحريض الفلسطيني"، وهذا الى جانب بعض العبارات الفلسطينية "الاستثنائية" التي تتضمن المطالب الفلسطينية، ولكنها تبقى استثنائية وهامشية في تلك "المناسبات الاعلامية". وما نراه على ارض الواقع، فعليا، هو استفحال الارهاب الاسرائيلي الذي يظهر بصور عديدة ومتعددة، من استمرار الحصار الاقتصادي ومنع الحركة الفلسطينية، والقتل البطيء، واستفحال الاستيطان وتثبيته اكثر فأكثر.
فعلى صعيد الاستيطان، مثلا، قال تقرير أخير لحركة "السلام الآن" الاسرائيلية ان اسرائيل تواصل البناء في المستوطنات، وان البؤر الاستيطانية الصغيرة، التي تسميها اسرائيل غير قانونية، وقرر شارون ازالتها، باقية على حالها، لا بل تتم فيها مشاريع بناء مكثفة، ويزودها الاحتلال بكافة متطلبات البنى التحتية من طرقات ومياه وكهرباء.
المذهل في الفترة التي نعيشها اننا دخلنا في نفق جديد من مفاوضات المراحل، التي لا تقود إلا الى متاهات، وكل هذا وفق مخطط اسرائيلي امريكي مدروس. فإذا اتفقنا، جدلا، ان قضية مثل القضية الفلسطينية لا يمكن حلها دفعه واحدة، وتجاهلنا مرور عشر سنوات من فكرة المراحل، فإن ما يجب ان يحكم قبولنا الآن لفكرة المرحلية هو جوهر ما يجول في رؤوس حكام اسرائيل والمؤسسة الحاكمة بكافة اذرعها. وهذا الجوهر ليس متسترا، او لغزا، بل ان حكام اسرائيل يصرون على كشفه يوميا، من خلال الممارسات على الارض، من تفشي الاستيطان واستمرار الحصار ومأسسته وتخليده من خلال الجدار الفاصل، الى جانب القرارات الاخيرة الصادرة عن البرلمان الاسرائيلي، التي لا تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة محتلتين، وتصريحات شارون نفسه ومن يدور حوله، التي تؤكد ان ليس بنيتهم الموافقة على اقامة دولة فلسطينية قادرة على الحياة وانما مخسوفة من حيث المساحة ومعدومة الصلاحيات والاستقلال.
هذه ليست دعوة لليأس، ولرفع اليد عن احتمالات وفرص الدبلوماسية، ولكن هناك دعائم ضرورية يجب ان تكون من اجل كسر التعنت الاسرائيلي العدواني، فليس من المناسب، مثلا، الآن، ان نرى انهراقا عربيا على حكومة شارون، ومن المجدي ان يقضي سفيرا القاهرة وعمان في تل ابيب فترة نقاهة اكبر في بلديهما، ولا داعي لفتح ابواب عربية اكثر امام شارون، ومن السابق لاوانه التقاط صور ضاحكة، فلسطينية اسرائيلية، امام ديوان شارون. وهناك ضرورة لكي تتحرك الدبلوماسية العربية بشكل موحد في اوروبا، مثلا، لمنع عملية تلاشي الدور الاوروبي المطلوب، امام العربدة الدبلوماسية الامريكية، وعدم الاستجداء امام "الباب العالي الواشنطني"، وانتظار ما يقولونه هناك ليردوده هنا كالببغاوات، وعدم الانخراط اكثر فاكثر في تهميش القائد الفلسطيني ياسر عرفات. وكل هذا بهدف خربطة الاوراق الاسرائيلية المختومة امريكيا.
في المحصلة العامة فإن من يقرر مصير الشعب الفلسطيني هو الشعب الفلسطيني نفسه، والمعركة الآن هي كيف تنتهي مأساة هذا الشعب بالشكل العقلاني والعادل الذي يضمن الاستمرارية والحياة، وبأقل ثمن، ولكن شكل تحركات اليوم بعيدة جدا عن هذا الهدف.
*كاتب سياسي وصحفي فلسطيني مقيم في الناصرة