أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فراس ناجي - النظام الاقتصادي الرأسمالي... الى أين؟















المزيد.....

النظام الاقتصادي الرأسمالي... الى أين؟


فراس ناجي
باحث و ناشط مدني

(Firas Naji)


الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 14:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


رغم انهيار المعسكر الاشتراكي وتبنّي معظم دول العالم للنظام الرأسمالي، فإن هذا النظام لا يزال يعيش أزمة بنيوية عميقة. فالدول الغربية المتقدمة يتعمق فيها الانقسام الاجتماعي وفقدان الثقة بالمؤسسات؛ في حين دول مثل بنغلاديش والنيبال واندونيسيا والمغرب وبمعدلات نمو مرتفعة للناتج المحلي الإجمالي GDP، تتزايد فيها موجات الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بحكوماتها أو هددت أنظمتها السياسية. أمّا الصين، فقد نجحت في تحقيق نموّ متوازن واستقرار اجتماعي لافت. المفارقة هنا ليست في الأرقام، بل في جوهر النظام نفسه: كيف يمكن أن يكون الاقتصاد قويًا، والمجتمع في حالة اضطراب متصاعد؟

في الولايات المتحدة، تشير المؤشرات الاقتصادية منذ عام 2021 إلى اقتصاد متماسك ظاهريًا: نموّ بنحو 3,5%، بطالة عند 4%، وتضخم متراجع إلى حدود 3%. لكن خلف هذه الأرقام تكمن حقيقة مغايرة؛ فستون بالمئة من العاملين غير قادرين على الادخار أو تغطية حالات الطوارئ، وقرابة 12% من السكان يعيشون تحت خط الفقر. أما التعليم الجامعي فأصبح عبئاً مالياً يتطلب قروضاً طويلة الأمد، فيما يفتقر أكثر من ثلاثين مليون شخص إلى التأمين الصحي. حتى السكن، الذي كان عماد الطبقة الوسطى، أصبح حلمًا بعيد المنال في المدن الكبرى.

هذا التدهور المعيشي ترافقَ مع تراجع الثقة بالنظام السياسي، إذ يشعر ملايين الأمريكيين بأن دولتهم لم تعد تمثلهم. وتحوّل الإحباط الاجتماعي إلى انقسام هويّاتي عميق تغذّيه الشعبوية، كما تجلّى في صعود تيار "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً" وإعادة انتخاب الرئيس ترامب بنزعاته الاستبدادية ولتجاوز سلطاته الدستورية. وقد وصف ستيف بانون، أحد أبرز منظّري هذا التيار، الأزمة بأنها لحظة شبيهة بما قبل الحرب الأهلية، مُحذرًا من "ثورة فرنسية" في أمريكا إذا لم يتم معالجة أسباب الأزمة الاقتصادية.

غير أن جذور هذه الأزمة أعمق من السياسات الراهنة أو من فشل الإدارات المتعاقبة؛ إنها نتاج دورة تاريخية طويلة للنظام الرأسمالي نفسه. فالرأسمالية، بوصفها نظاماً ديناميكياً، تتحرك في مسار دائري يبدأ بالإنتاج ثمّ الاحتكار والريع، وتنتهي بانهيار النظام المالي كما حدث في 1929 و2008.

في بداياتها، كانت الرأسمالية الكلاسيكية نظاماً إنتاجياً قائماً على العمل كمصدر للقيمة بينما عدّت الريع والاحتكار كعوائق للاستثمارات الإنتاجية، فكان الربح مشروطاً بالإنتاج الفعلي لا بالمضاربة. غير أن التناقض بين الرأسمال الصناعي والرأسمال المالي ظهر سريعًا، وبتنظير من النيوكلاسيكية التي ألغت التمييز بين الربح المنتج والربح الريعي أو المالي، تحالفت النخب المالية مع الطبقة السياسية للانقلاب على الرأسمالية المنتجة. فأُنشأت البنوك المركزية الخاصة للتحكم في عرض النقود، ووُضعت السياسات الاقتصادية لضمان خفض الضرائب على الأرباح وشرعنة الاحتكار.

فانتقل مركز الثقل من الصناعة إلى المال، ومن الإنتاج إلى التلاعب بالأدوات المالية والاحتكارية. بهذا التحول، انقطعت العلاقة بين الربح والعمل، وأصبح تراكم الثروة هدفاً بذاته، بصرف النظر عن نتائجه الاجتماعية. بلغ هذا المسار ذروته في الكساد العظيم عام 1929، حين انفجرت فقاعة المضاربة في البورصة، فانهارت البنوك وتلاشت المدخرات وتفككت الطبقة الوسطى. ولولا تدخل الدولة عبر "الصفقة الجديدة" التي أطلقها الرئيس فرانكلين روزفلت في 1933، لربما سقط النظام تحت ضغط الغضب الشعبي. شكّلت "الصفقة الجديدة" تسوية تاريخية: الدولة تنظم السوق وتحمي المجتمع من الإفلاس الجماعي، ورأس المال يقبل بالضرائب والقيود مقابل بيئة مستقرة للنمو، والعمال يقبلون بالنظام الرأسمالي مقابل ضمانات الرفاه والأجور العادلة. ومن رحم تلك التسوية وُلدت دولة الرفاه الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية، التي حافظت لعقود على توازن دقيق بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. أما النخب المالية، فقد تكّيفت مع هذا النظام الرأسمالي "المنضبط".

لكن هذا التوازن لم يدم طويلًا. فكما انقلبت النيوكلاسيكية في القرن التاسع عشر على الرأسمالية الإنتاجية، انقلبت النيوليبرالية منذ السبعينات على دولة الرفاه. ومعها بدأت دورة جديدة من التوحش الرأسمالي تحت شعارات الحرية الفردية والسوق المفتوحة. في تلك المرحلة، أعادت النخب المالية بناء خطاب فكري وإعلامي ربط بين حرية السوق والحرية الإنسانية، وشيطن دور الدولة باعتباره تدخّلًا في الحرية. فتحوّل رجال الأعمال إلى روّاد التقدم، بينما صُوِّرت الضرائب والضوابط القانونية كعقبة أمام الاستثمار الذي يخلق فرص العمل. وبالتوازي، تمّ تفكيك القيود القانونية التي كانت تحد من النفوذ السياسي لرأس المال، فصار المال يصنع القوانين ويموّل الحملات الانتخابية ويحدّد أولويات الدولة.

في عهد رونالد ريغان في الثمانينات، اكتملت الثورة النيوليبرالية: تخفيضات ضخمة في الضرائب على الأثرياء، خصخصة واسعة للخدمات العامة، وتحرير شامل للأسواق المالية. ومع العولمة، هاجرت الصناعات إلى دول منخفضة التكلفة، ففقدت أمريكا ملايين الوظائف الإنتاجية، بينما تضاعفت أرباح الشركات الكبرى. تحول الاقتصاد إلى اقتصاد تمويل ومضاربة، وتآكلت ركائز دولة الرفاه، ليتحوّل النمو الاقتصادي إلى ظاهرة رقمية لا تنعكس على حياة الناس.
استمر هذا المسار حتى الأزمة المالية في 2008، التي كانت متشابهة بنيوياً مع انهيار 1929، فكلتاهما نتجتا من سيطرة المال على السياسة وهيمنة الاقتصاد المالي على الاقتصاد الإنتاجي. لكن نتائجهما التاريخية جاءت متباينة، فالأولى أفضت إلى الصفقة الجديدة وبناء دولة الرفاه، بينما الثانية انتجت المزيد من التوّحش الرأسمالي. فبدل إعادة هيكلة النظام، تمّ إنقاذ المصارف الكبرى على حساب دافعي الضرائب، وازداد تمركز الثروة بيد أقل من 1% من السكان. وفي نفس الوقت تراجعت الطبقة الوسطى، وحلت الانقسامات الثقافية والعرقية والدينية محل الصراع الطبقي، فتحولت الأزمة الى صراع هوياتي وصعود للفاشية الجديدة.

فاليوم لم يعد بالإمكان ترميم النظام عبر أدواته القديمة، لأن الاقتصاد لم يعد إنتاجيًا بل أصبح مُثقل بالديون، والمجتمع لم يعد طبقياً، والدولة لم تعد بهوية قومية موحدة بل منقسمة ثقافياً. إن ما نشهده اليوم ليس مجرد ركود اقتصادي، بل تحول حضاري يعلن نهاية دورة كاملة من التاريخ الرأسمالي الغربي. وقد لا تأتي بعده "صفقة جديدة" بل نظام جديد بالكامل، ربما أكثر استبدادًا أو أكثر تفتتاً يعيد تعريف الديمقراطية نفسها في عصر ما بعد الرأسمالية الغربية.

على الجانب الآخر من العالم، تظهر الصين كاستثناء لافت في المسار الرأسمالي العالمي. فمنذ انفتاحها الاقتصادي في أواخر السبعينات، تبنّت آليات السوق ولكن دون التخلي عن سيطرة الدولة على رأس المال. سمحت بتراكم الثروة، لكنها لم تسمح بتحوّل الأثرياء إلى قوة سياسية مستقلة كما حدث في الغرب. فالمسار الاقتصادي هناك ظلّ إنتاجيًا، مرتبطًا بالتصنيع والتكنولوجيا والبنية التحتية، لا بالمضاربة والريع.

هذا التوازن بين السوق والدولة هو ما منح الصين استقرارها النسبي وسط العواصف المالية العالمية. فحين انهارت البورصات الغربية عام 2008، كانت الصين تواصل نموّها عبر الاستثمار الفعلي في الاقتصاد الحقيقي. كما أن طريقة حساب الناتج المحلي لديها أكثر واقعية من النموذج النيوليبرالي الذي يضخّم الناتج الغربي عبر احتساب الأرباح الريعية والمضاربات المالية كأنها إنتاج. لذلك، فإن النموّ الاقتصادي في الصين يعكس زيادة فعلية في الإنتاج المادي، بينما في أمريكا يعكس تضخماً في أسعار الأسهم والعقارات.

أما على الصعيد الدولي، فقد فرضت النيوليبرالية منذ السبعينات هيمنتها على المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد والبنك الدولي، وبعد ذلك على منظمة التجارة العالمية ومؤسسات الأمم المتحدة الاقتصادية؛ فعمّمت منطقها الريعي على العالم كله. فأصبح هناك تضخم وهمي للناتج العالمي يعكس تضخم أسعار الأصول والخدمات المالية، لا زيادة الإنتاج الحقيقي العالمي.

لقد أصبحت الإحصاءات الاقتصادية أداة أيديولوجية لخدمة تدفقات رأس المال العالمي، وشرعنة توسيع سلطة رأس المال المالي على حساب الدولة، فتُخفي الواقع بدل أن تكشفه، وترتفع مؤشرات النمو بينما يتدهور المستوى المعيشي الفعلي للمجتمعات. وهذا يفسر كيف يمكن أن تتزامن "الازدهارات" الرقمية مع موجات الاحتجاج الشعبي في دول عدة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

من الصعب التنبؤ بما سيأتي بعد هذه الدورة، لكن المؤكد أن الرأسمالية الغربية وصلت إلى حدودها التاريخية. فكما أن الإقطاع لم يسقط في يوم واحد بل تفكك ببطء تحت وطأة تناقضاته، كذلك تتفكك الرأسمالية المتوحشة اليوم تحت ثقل تناقضاتها وأزماتها الذاتية. فالحل سيكون حضارياً أكثر منه اقتصادياً يبحث فيه العالم عن معادلة بديلة تُوازِن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، بين الحرية والمساواة، بين رفاهية الانسان والحفاظ على البيئة.



#فراس_ناجي (هاشتاغ)       Firas_Naji#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنحدار أمريكا ام أزمة الحداثة؟
- هل سيكون الشرق الأوسط الجديد اسرائيلياً؟
- التحدي الوجودي للمشرق العربي
- الشرق الأوسط بعد عودة ترامب الى الحكم
- الحرب حول فلسطين ومستقبل المنطقة – الى أين؟
- ثورة بغداد المنسية 1831- المحطة المبكرة في بزوغ العراق الحدي ...
- حرب غزة وانكشاف أزمة الحداثة الغربية
- إنتخابات مجالس المحافظات وأزمة أحزاب المعارضة في العراق
- تحوّل إسرائيل الى عبء جيوستراتيجي على أمريكا وانعكاساته الاق ...
- طوفان الأقصى والمشروع الوطني العراقي
- 14 تموز وتقرير المصير لكرد العراق
- الحرب البريطانية العراقية 1941 ودروس اليوم - نزاعُ أجيالٍ أد ...
- الحزب الشيوعي العراقي وعملية التغيير السياسي في العراق
- الغطاء السياسي لسرقة القرن في العراق
- الانتخابات المبكرة في العراق وإصلاح المنظومة الانتخابية
- رؤية اجتماعية-ثقافية لنشوء الدولة العراقية، القسم الثاني
- رؤية اجتماعية-ثقافية لنشوء الدولة العراقية، القسم الأول
- التغيير السياسي في العراق: الممكن المستعصي
- ما بين ثورة العشرين العراقية ويوم الأنزاك الأسترالي- مقارنة ...
- الانغلاق السياسي في العراق، الى أين؟


المزيد.....




- رسالة من مؤلف مسلسل -كارثة طبيعية- بشأن -شروق- و-محمد-
- مئات المفقودين في كارثة حريق هونغ كونغ.. وجدل يتجدد حول سقال ...
- أحدث ظهور للفنّانة المصرية نجاة الصغيرة في العاصمة الجديدة
- هل تخسر طهران مكانتها كعاصمة لإيران بسبب الجفاف؟
- إسرائيل لا تتوقع أن ينزع حزب الله سلاحه طوعاً في المهلة الدب ...
- من داخل استعدادات ليغو لموسم الأعياد: كيف تلبي مكعبات ليغو ا ...
- بعد 18 شهرا بالسجن .. تونس تفرج عن سنية الدهماني المنتقدة لل ...
- البابا يدعو تركيا لتكون -عامل استقرار- في مستهل جولته الخارج ...
- فرنسا: أي رسائل من إعلان ماكرون عودة الخدمة العسكرية الطوعية ...
- من أبقى على الخدمة العسكرية الإلزامية في أوروبا ومن أعاد فرض ...


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فراس ناجي - النظام الاقتصادي الرأسمالي... الى أين؟