أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بسام العمري - «حين يُصغي القلب إلى حكمة الكون»














المزيد.....

«حين يُصغي القلب إلى حكمة الكون»


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8538 - 2025 / 11 / 26 - 02:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حين نقف أمام هذه الكلمات الربانية، ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ سورة الأنعام،( الآية 17) نجد أنفسنا أمام حقيقة كونية عميقة تتسلل إلى جوهر القلب وتضعنا في مواجهة أقدارٍ تتجاوز قدرتنا على الفهم والتحكم. إن هذه الآية ليست مجرد كلمات، بل هي بابٌ يُفتح على عالم من التسليم العميق، تُذكرنا أن كل ما يمر بنا، من خيرٍ أو ضر، هو جزء من إرادة عليا لا يُدركها إلا من آمن بعظمته.
إن الإنسان، بضعفه أمام تقلبات الحياة، يجد في هذه الآية ملاذاً آمناً وملجأً هادئاً، تُخاطبه قائلةً: "إن كنت في عسرٍ وضيق، فالله وحده كاشفُه، وإن حلّ الخير على حياتك، فالله وحده مانحه." إنها دعوة صريحة لأن نضع ثقتنا المطلقة في الله، أن نتخلص من ثقل القلق ونظرة الخوف من الغد، ونتعلم أن نعيش في سلامٍ ورضا، لأن كل شيء بيد من هو أعلم وأحكم.
حينما نمسّ جوهر الآية بروحنا، نجد فيها رسائل صامتة عن الحب الإلهي، وكيف أن الله يظلّ مع عبده في شدته كما في سرائه، يجلب له الشفاء إذا أُصيب، والفرج إذا ضاق عليه الأمر، فهو الحامي من الضيق، وهو الذي يفيض على عبده من فضله ونعمه.
الحياةُ كلوحةٍ مُتعددة الألوان، ما بين نورٍ وظلام، وفرحٍ وألم، وجميعها رُسِمَتْ بحِبْرِ القدرِ الذي لا تملكه يدٌ سِوى يد الله. في كل ضربةِ فرشاةٍ على هذه اللوحة الخفية، تتجلى حكمٌ إلهيةٌ قد تبدو للعين البشرية خافيةً أو متناقضة، لكنها في عمقها تبوح بسرٍ لا يُدركه سوى من تأمل وتدبر.
يا أيها الإنسان، أنت في هذه الحياة كالمسافر في صحراء الوجود، تتقاذفك أمواج الحيرة والألم، وتبحث عن بريقٍ يُضيء لك طريقك بين كثبان الظلام. أليس من طمأنينةٍ أسمى أن تعلم أن هناك قوةً أكبر منك، تُسيّر لك دروبك، وتعتني بخطاك، وتُدبر أحوالك؟ إن كل نسمةٍ من الهواء وكل قطرةٍ من الماء وكل لمسةٍ من النور هي جزءٌ من خطةٍ إلهية تُرسم خصيصاً لك، تُشعرك بأنك لم تُترك وحدك، بل إنك في عنايةٍ ورعايةٍ لا تنقطع.
ألا ترى الوردة كيف تزهر في ربيعها، وتذبل في خريفها، ثم تعود للوجود مرةً أخرى، وكأنها تلتحف بثوبٍ جديدٍ مع كل دورة؟ ألا ترى الجبال الصامتة، الحاملة لعذابات القرون وحكمة الأزمنة، كيف تظل ثابتةً شامخةً رغم عواصف الرياح؟ تلك الجبال هي شاهدٌ على حكم القدر، كما هي حياة الإنسان، مليئةٌ بالآلام والآمال، بالزوال والخلود.
إن التسليم لله لا يعني الضعف، بل هو قوةٌ كامنة، تولد من فهمٍ عميقٍ بأننا جزءٌ من نسيجٍ كونيٍ، كل خيطٍ فيه مشدودٌ بعناية، وكل عقدةٍ تُنسج بدقة. إن الاستسلام هنا ليس الاستسلام بمعناه التقليدي، بل هو قبولٌ عميقٌ وحكمةٌ متجذرة، تعكس نضج الروح وصفاء القلب. من يرضى، يجد في قلبه سكينةً لا تشبه سكينة الأرض، وكأنه قد شرب من كأس الحكمة الأبدية.
الفلاسفة، عبر العصور، حاولوا فهم هذا السر العجيب الذي يربط الإنسان بالكون. أرسطو تحدث عن "السبب الأول"، وفكر في أن وراء هذا النظام البديع قوةً حكيمةً توجهه. أما أفلاطون، فقد نظر إلى هذا العالم بوصفه ظلالاً لعالمٍ أسمى، مما يبعث في النفس فكرة أن ما نعيشه هنا هو مجرد انعكاسٍ لحقيقةٍ أكبر، وأن علينا أن نستسلم لهذه الحكمة العليا.
ولئن كان فلاسفة الشرق قد عبروا عن ذات المعاني، فإن حكمتهم اتخذت طابعاً روحانياً، فمن الهندوسية التي تُعلمنا ضرورة أداء الواجب دون التعلق بالنتائج، إلى البوذية التي تدعو للقبول والرضا، نرى أن الحكمة تتجلى في قلبٍ صافٍ يعرف كيف يتكيف مع مجريات الحياة كالنهر الذي يتدفق بين الصخور، يحتضنها ولا يعيق جريانه شيء.
وأما الرواقية، فتُعلمنا أن السلام الداخلي لا يُولد من تحقيق الرغبات، بل من الرضا بما يحدث وقبول ما لا يمكن تغييره. يقول إبيكتيتوس: "لا تُعْتَبر قوة الإنسان بقدرته على تغيير العالم، بل بقدرته على تغيير نظرته إلى العالم." هذا هو جوهر التسليم، أن نرى في كل شيءٍ معاني أعمق من الظاهر، أن نتقبل الحياة كما هي، ونفتح قلوبنا للسلام حتى في وجه العاصفة.
إن تسليم الإنسان للقدر ليس تخلياً عن السعي أو توقفاً عن العمل، بل هو القبول بأن هناك أموراً تتجاوز قدرتنا على التحكم، وأن ما يسير به الكون هو نتيجة لخطط أبدية ترسمها يد الحكمة، قد لا نفهمها، لكنها لا تخلو من الخير.
يا من تبحث عن السلام وسط زحام الأفكار، اعلم أن الرضا هو مفتاح النجاة، وأن التسليم هو سبيل السعادة. تخيّل قلبك كزهرةٍ تفتحت على ضفاف نهر الوجود، تستقي من ماء الحبّ الإلهي، وتعيش في انسجامٍ تامٍ مع إيقاع الحياة. تلك الزهرة، رغم تفتحها، لا تخشى الذبول، لأنها تعرف أن الذبول جزءٌ من جمالها، وطريقٌ لعودتها إلى حياةٍ جديدة.
دعنا نتأمل في كلمات الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، الذي يقول: "دع الأمر يسير كما هو، ولا تتدخل؛ لأنك أنت بنفسك جزءٌ من اللعبة." إن كلمات الرومي ليست مجرد أبياتٍ من الشعر، بل هي دعوةٌ للتخلي عن التشبث، والتسليم الكامل لما هو أكبر منا، فالله يُسيّر حياتنا كالنهر الذي ينساب من بين الجبال، ليصل إلى محيطٍ لا نهاية له.
وفي النهاية، تذكر أن كل ما يأتيك، سواء كان حلواً أم مراً، هو جزء من رحلة الروح في صعودها نحو الحقيقة. ليس الهدف أن تفهم كل شيء، بل أن تُؤمن بأن هناك معنى عميقاً لكل شيء. افهم أن السعادة لا تأتي مما نحققه، بل من قلوبٍ تعلمت أن تسكن في رضا الله، وتعيش في واحة الرضا كما يعيش العطشان حين يرتوي بماء الحُب الأبدي.
فكن أنت يا أخي الكريم، مثل الزهرة التي تُفتح كل صباحٍ للحياة، وتغلق أوراقها كل مساءٍ في وداعٍ هادئ، لا خوف فيها من ذبولٍ، ولا حرصٌ على دوامٍ، لأنها تعرف أن الله يرعاها، وأن قدرها مكتوب في سفر الوجود.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علمني حبك سيدتي أن أحزن وأنا محتاج منذ عصور لامرأة تجعلني أح ...
- رحلة النفس الإنسانية بين الصراع والسلام الداخلي: من النفس ال ...
- من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيق ...
- من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية
- رحلة الروح نحو النور
- حين يتصوّف الأدب الفرنسي: رحلة من الرمز إلى الكشف
- مراثي الكرسي رقم 7
- أنشودة الضوء – إفريقيا التي لا تموت
- غناء الضوء في الغابة العتيقة
- بحيرة مالاوي: مرآة السماء ومهد الأساطير
- حين يؤذّن النور على ضفاف الميكونغ — المسلمون في فيتنام
- نشيد الماء والذاكرة
- روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر
- من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...


المزيد.....




- الأردن: مقتل شقيقين من -حملة الفكر التكفيري- في -مداهمة- بال ...
- فخري كريم: أزمة الشرعية الطائفية.. مستقبل الإقليم.. و«ما يكس ...
- الداخلية السورية: جريمة زيدل جنائية وفشل محاولات إشعال الفتن ...
- مستشار الرئيس الإماراتي: تحرك ترامب لتصنيف الإخوان كمنظمة إر ...
- رأي.. بشار جرار يكتب عن قرار ترامب بحظر -أفرع- لجماعة -الإخو ...
- قرقاش يعلق لـCNN على قرار ترامب تصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إ ...
- ماذا بعد بدء واشنطن خطوات تصنيف الإخوان المسلمين منظمة -إرها ...
- -ضربة مالية-.. كيف يؤثر قرار ترامب على اقتصاد الإخوان؟
- خطة ترامب للسودان.. بولس يرفض “الشروط المسبقة” وقرقاش يهاجم ...
- تحويل سيارة استخدمها بابا الفاتيكان الراحل إلى عيادة متنقلة ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بسام العمري - «حين يُصغي القلب إلى حكمة الكون»