|
|
بيروقراطية المعاطف
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 13:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
296 - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 44 - الإدارة الروسية والبيروقراطية
لتكملة هذه الصورة المعتمة للمجتمع الروسي قبل الثورة، لا بد من إعطاء فكرة عن النظام الإداري الذي كان ينخر الدولة من الداخل ويحيل حياة المواطن الروسي إلى نوع من الجحيم. وهذا النظام الإداري، الذي يشبه شبكة عنكبوتية ضخمة، والذي يخدم السلطة القيصرية والإقطاعيين، أسسه القيصر الذي يسمى بيير الكبير أو بطرس العظيم أو الكبير. النظام السياسي القيصري كان مزيجًا من البيروقراطية المركزية الصارمة، وسيطرة النبلاء، والإرث الإقطاعي للريف، مع سلطات قيصرية بوليسية مطلقة. هذا النظام شهد تطورًا نحو "الحداثة"، مع بطرس الأكبر ونيكولاي الأول والإصلاحات الليبرالية التي قام بها آلكسندر الثاني، لكنه ظل في جوهره نظامًا سلطويًا مركزيًا تعسفيا مطلقا حتى انهياره عام 1917. أحد أهم مراحل تطور النظام الحكومي في روسيا كان حكم بطرس الأول في أوائل القرن الثامن عشر. حيث أجرى سلسلة من الإصلاحات الضخمة التي تهدف إلى تحديث الدولة وتحويل روسيا إلى قوة إمبراطورية. فقام بإصلاح الجيش والبحرية، وأنشأ مؤسسات حكومية جديدة، وأسس نظام إدارة جديد يتميز بالتراتب مثل النظام العسكري، والسيطرة الصارمة من قبل القيصر. بطرس العظيم، او بالأحري الطويل، فقد كان طوله يتجاوز المترين، كان يريد أن ينهض بروسيا ويجعلها تدخل عهدا جديدا، وقد تولى السلطة وألتصق بكرسيّه لأكثر من 40 عاما، من سنة 1682 إلى سنه 1725. وفي عهده بدأت تتكون تدريجيا الثقافة الروسية من أدب وفن ومسرح وموسيقى، وهو أول من قام بطباعة جريدة في روسيا، سماها "الأخبار" وكانت توزع مجانا، وقام أيضا بتعديل على الحروف السريانية القديمة لتسهيل القراءة والكتابة. بطرس الكبير يمكن مقارنته في العصر الحديث بمصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، رغم وجود قرنين من الزمن يفصل بين الإثنين. ذلك أن الفكرة الأساسية لبطرس الكبير هي أن تصبح روسيا بلدا أوروبيا، وتتخلص من طابعها الشرقي، فأنتهج سياسة ثقافية جديدة للدولة وقد أراد بها تغيير أذواق وعادات الروس وتعريفهم بالتراث الثقافي الأوروبي، فمنع الملابس التقليدية الروسية، تماما كما فعل أتاتورك من بعده حيث منع الملابس التقليدية التركية ومنع لبس الطربوش وغير حروف الكتابة من العربية إلى اللاتينية. كما قرر بطرس أن يفرض على رجال حاشيته ومستشاريه الذين كانوا ملتحين أن يحلقوا لحاهم، فامتعضوا كثيراً من هذا القرار لأن اللحية كانت عندهم شيئاً مقدساً، فطلب بطرس اثنين من الحلاقين وراح يقص اللحى بنفسه. وأقام ضريبة خاصة على الذين يريدون الإحتفاظ بلحيتهم. كان هدف بطرس الأكبر آنذاك جعل روسيا دولة أوروبية سياسيا وثقافيا وإجتماعيا، ولذلك تولى مهمة إرسال الطلبة الروس - من العائلات الغنية بطبيعة الحال ـ إلى الجامعات الأوروبية للدراسة وللاحتكاك والتشبع بالثقافة والعادات الأوروبية. وفي نفس الوقت كان ذا طموحات عسكرية وتوسعية على غرار الدول الأوروبية الكبرى، فأسس البحرية الروسية، وقام بتشييد عدة أكاديميات عسكرية وأعلن الحرب على تركيا. لقد كان مولعا بأوروبا، التي زار العديد من عواصمها، ويريد إخراج روسيا من "الهمجية الآسيوية" على حد قوله، ولذلك قرر أن يبني عاصمة جديدة، مدينة أوروبية، فقام بتشييد سان بطرسبرغ، شمالي موسكو على الحدود الفنلندية سنة 1703 والتي سقط أثناء بنائها أكثر من 150 ألف عامل موتا في المستنقعات التي شيدت عليها المدينة التي سيكون لها تاريخ حافل يرتبط بالحركات العدمية الثورية طوال القرن التاسع عشر.. ولكي يتحكم بطرس الكبير في إمبراطوريته الواسعة، أصدر قرارا سنة 1722 بإقامة نظام إداري تراتبي شبه عسكري، مما جعل المجتمع الروسي بكامله حبيسا داخل هذا القفص الكبير، تديره آلة جهنمية باردة في تناقض رهيب مع عقلية المواطن الروسي البسيط، مما جعل هذه الآلة الإدارية تفتقد للفعالية والعقلانية التي كانت مبرر هذا القانون كما يدعي المروجون له ذلك الوقت. فهذا الجهاز الإداري بأوراقه المتعددة ومكاتبه وأروقته وأختامه التي لا تنتهي كانت بكل بساطة تفتقد للفعالية العملية وأصبحت أداة أخرى في يد الدولة لقهر المواطن ومراقبته وقهره لأبسط الأمور. تعود فكرة اعتماد مثل هذا القانون إلى بطرس نفسه، الذي شارك شخصيا في إعداد مسودة التقرير. بعد إنشاء المسودة، قام بتحرير النسخة النهائية بنفسه وأمر بتقديمها إلى مجلس الشيوخ، ثم الكلية العسكرية والأميرالية. وعلى الرغم من أن هذه السلطات أبدت بعض التعليقات والتحفظات على نص مشروع القانون، إلا أن جدول الرتب ظل دون تغيير تقريبا، وسرعان ما تم اعتماده. كان جدول رتب بطرس لعام 1722 عبارة عن وثيقة تم فيها وصف جميع الرتب الموجودة في روسيا بالتسلسل حسب الرتبة، بالإضافة إلى معلومات حول الرواتب والواجبات والحقوق والغرامات وغير ذلك من التفاصيل. وكان يتميز بما يسمى "نظام الدرجات" أو الرتب، والذي كان مقسمًا إلى ثلاثة مسارات أساسية: الخدمة العسكرية، وهو الأقوى نفوذًا، حيث المسار العسكري هو الأرقى اجتماعيًا، وتميّز بمكانة عالية في النظام التراتبي العام. ثم الخدمة المدنية أي الموظفون في الوزارات، القضاء، المالية، الدبلوماسية… إلخ. وأخيرا الخدمة في البلاط الإمبراطوري وهي مراتب تشريفية خاصة بالقصر. بطرس الأكبر هو الذي قسم المناصب الحكومية والعسكرية إلى 14 درجة (Rank Classes). كل موظف أو ضابط يبدأ عادة من درجة منخفضة، أقلها هي الدرجة 14، ثم يرتفع حسب الأقدمية والكفاءة والخدمة للدولة. وقد فرض على الموظفين إرتداء ملابس أو بدل رسمية تتفق مع رتبهم الإدارية. ونذكر بهذا الخصوص قصة "المعطف" لنيقولاي غوغول، وهي حكاية موظّف صغير، أكاكي أكاكييفتش، الذي يكافح للحفاظ على مكانته في السلم الاجتماعي عن طريق شراء معطف جديد بدل معطفه القديم المهتريء. يدور موضوع هذه الرواية حول معطف هذا الموظف البسيط، وهو العنصر المركزي في زيّ الموظفين الروس الرسمي، فقد كان هذا اللباس دائمًا أكثر من مجرد زيّ تنظيمي؛ كان رمزًا للإخلاص للعمل وللوظيفة وللوطن والمشاركة في حياة الإمبراطورية الروسية. وكان لكل رتبة زيّها الخاص، أي لباس مميّز يرمز إلى مكانة من يرتديه داخل المجتمع، كان الزيّ الرسمي يُعدّ أحد أهم مزايا الخدمة بالنسبة للشباب، بما في ذلك الخدمة المدنية، حتى باعة الصحف كان لهم زيّ خاص: معطف طويل ذو صفّين من الأزرار، مع قبّعة عسكرية وحقيبة معلّقة على الكتف. وكان هناك لون خاص يميز كل درجة من رتب الإدارة، وقد ربط المواطن الروسي بين هذه الألوان وبين ألوان الأوراق النقدية، فإذا أراد المواطن أن يقضي أي مصلحة إدارية عليه أن يعرف لون ورقة النقود التي يجب إعدادها مسبقا لرشوة الموظف، والتي يجب أن تتوافق مع لون رتبة الموظف الذي سيقضي له هذه الخدمة، وذلك حتى لا يدفع له رشوة أقل أو أكثر مما تتطلب درجته الإدارية. احتوت الوثيقة الأصلية على وصف لـ 263 وظيفة، تم إلغاء بعضها لاحقًا. تم وضع الرتب العسكرية في رتبة أعلى من المدنيين ورجال الحاشية، مما سمح للجيش بالارتقاء في السلم الوظيفي بشكل أسرع والحصول على فرصة ليصبح نبيلًا أعلى في وقت مبكر. يحتوي جدول رتب روسيا القيصرية على معلومات مفصلة حول حق الميراث والترقية وحتى الاستئناف الضروري لمسؤول من رتبة أو أخرى. الدرجة الأولى هي أعلى الرتب مخصصة لكبار رجال الدولة، وبدءا من الدرجة الثانية يتمكن الموظف الحكومي أو العسكري من الحصول على "لقب" من الألقاب وينضم بذلك إلى نخبة النبلاء. والإنتماء لطبقة النبلاء كما سبق القول لايعتمد فقط على الجانب الوراثي للشخص، وإنما يعتمد إعتمادا كبيرا على الخدمة التي يقدمها المعني للدولة ودرجة خضوعه لسلطة القيصر وولاءه له. القيصر في هذه الفترة من الحكم الروسي المطلق كان يشبه "المدير" الأعلى لهذه الإدارة الضخمة، ومع تشعب الفروع وتعقد الإدارة وتوسع صلاحياتها نظرا لرغبة القيصر في التحكم في كل جوانب الحياة للمواطن، اضطر القيصر لتوكيل الجهاز الإداري لتنفيذ رغباته وأوامره. وأصبح الجهاز الإداري مع الجيش والبوليس يمثلون الثالوث الجهنمي الرهيب الذي يعصر المواطن الروسي ويمنعه من التنفس ورؤية المستقبل، وأودى بحياة الآلاف من الشباب الروس إلى السجن والتعذيب والنفي والموت. ويظل القيصر يشرف ويدير هذه الآلة كإله يحيي ويميت، يعين ويقيل من يشاء من أعضاء الإدارة من أدنى الرتب إلى أعلاها، من الموظف البسيط إلى الوزراء والسفراء وأعضاء الحكومة دون الرجوع إلى أي نوع من المؤسسات التنظيمية أو الإدارية أو الحكومية. وثقل هذه الإدارة وعدم فعاليتها يعود لدرجة كبيرة لجهل الموظفين ونقص التأهيل لممارسة الوظائف التي تتطلب خبرة ومعارف إجتماعية وقانونية وغيرها من الضرورات الأولية للإدارة. فأغلب الموظفين، وبالذات في المدن الصغيرة والقرى النائية يعانون من عدم التعليم، فأغلبهم لم يكمل حتى التعليم الإبتدائي، لعدم وجود المدارس أصلا، بالإضافة إلى ضعف رواتبهم وغلاء المعيشة، مما يجعل اللجوء إلى الرشوة هو الحل الوحيد للموظف لشراء رغيف الخبز لعائلته وأطفاله، وزجاجة الفودكا ليواصل إحتمال الحياة في هذا الجو الخانق.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أودرادِك
-
ثقوب المرايا
-
من عبودية الإقطاع إلى عبودية الرأسمالية
-
روسيا بلاد النبلاء والعبيد
-
مرايا الزمن
-
بلاد الثلج والقياصرة والفودكا
-
معرض -تكوين- التشكيلي
-
أفول العقل المطلق
-
فويرباخ والإستلاب
-
نهاية هيجل
-
الصيرورة في الكينونة والعدم
-
هيجل وعلم المنطق
-
السلب والإيجاب عند هيجل
-
هيجل
-
الجسد معبد اللغة
-
تفتت الأنا
-
ميلاد الموتى
-
دهاليز الروح
-
سبينوزا ونهاية المغامرة
-
سبينوزا وفكرة السلب
المزيد.....
-
فيضانات مدمرة تحاصر 30 رضيعًا في مستشفى بتايلاند.. شاهد ما ح
...
-
مسعد بولس: طرفا الحرب في السودان رفضا مقترح الهدنة.. ولا أعر
...
-
أعمال عنف في حمص وعلويون في اللاذقية يطالبون بـ-الحماية-، ما
...
-
كشف «خدعة» خط الفقر في إيران: ملايينٌ تحت عتبة البقاء
-
-مؤسسة غزة الإنسانية- تعلن إنهاء مهمتها.. وأوضاع كارثية في ا
...
-
ليبيا : -صحتي في غذائي-، انطلاق حملة توعوية صحية حول التغذية
...
-
خطة السلام في أوكرانيا… صخب دبلوماسي يصب في مصلحة روسيا؟
-
غضب فينيسيوس من الاستبدال وتهديده بالرحيل عن الريال يشعل الم
...
-
كيف تفاعلت المنصات اليمنية مع وصول غبار بركان إثيوبيا؟
-
-شبكات- يتناول وصول رماد بركان إثيوبيا لليمن وغضب فينيسيوس
المزيد.....
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|