أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - رشيد غويلب - في العام الستين للانقلاب الدموي / إندونيسيا تشهد انتفاضة شعبية استثنائية















المزيد.....

في العام الستين للانقلاب الدموي / إندونيسيا تشهد انتفاضة شعبية استثنائية


رشيد غويلب

الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 20:43
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت إندونيسيا أول دولة في جنوب شرق آسيا تعلن استقلالها في 17 آب 1945. وخضعت إندونيسيا للاستعمار الهولندي لأكثر من ثلاثة قرون. إ لم تعترف هولندا باستقلال مستعمرتها السابقة إلا في نهاية عام 1949، بعد محاولات فاشلة لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء بـ "إجراءات بوليسية". ومن المفارقات أن الولايات المتحدة هي التي أقنعت لاهاي باتخاذ هذه الخطوة، حرصًا منها على تجنب تطور مماثل لما حدث في الصين.

خطر الشيوعية
في بداية عام ١٩٦٥قيّمت حكومة الولايات المتحدة الوضع السياسي في إندونيسيا بأنه حرج للغاية، ليس بسبب تطورات الحرب في فيتنام فقط، في حزيران ١٩٦٤، أفادت صحيفة الحزب الشيوعي الإندونيسي، "هاريان راكيات" (صحيفة الشعب)، بأن عدد أعضاء الحزب تجاوز ثلاثة ملايين عضو، وهو نمو هائل مقارنةً بـ ٨٠٠٠ عضو وقت إعلان الاستقلال عام ١٩٤٥. ووفقًا للصحيفة، بلغ إجمالي عدد الأعضاء والمتعاطفين مع الحزب ١٨ مليونًا. وهكذا، شكّل الحزب الشيوعي الإندونيسي تهديدًا حقيقيًا من وجهة نظر القوى المحافظة المؤثرة في البلاد وفي واشنطن. ويتجلى هذا في أن الحزب كان أيضًا مشتركا في حكومة الاستقلال الأولى. وفي السياسة الخارجية، كان هناك اتفاق بين الحزب الشيوعي الإندونيسي والرئيس سوكارنو على نهج مناهض للإمبريالية. ومنذ استضافة مؤتمر تأسيس حركة عدم الانحياز في باندونغ، سعى سوكارنو إلى تحقيق توازن داخلي بين "القومية والدين والشيوعية".
أثارت المشاورات المتزايدة بين كبار الضباط الإندونيسيين والأمريكيين مخاوف بعض الضباط الشباب وقيادة الحزب الشيوعي الإندونيسي من أن "مجلس الجنرالات" الموالي لواشنطن يخطط للإطاحة بسوكارنو، والقضاء على الشيوعيين والنقابيين والقوميين اليساريين، واعتماد سياسة خارجية موالية للغرب، وإلغاء التأميمات المؤقتة إلى مالكيها الأجانب، وفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي. وان موعد تنفيذ الانقلاب ربما سيكون في 5 تشرين الأول 1965، تزامنا مع ذكرى تأسيس القوات المسلحة.
أُحبطت خطة الانقلاب المفترض بانقلابٍ مضاد نفّذه المقدم أونتونغ سيامسوري، قائد الحرس الشخصي للرئيس سوكارنو، ليلة 30 أيلول - 1 أتشرين الأول 1965. ونجحت قواته في أسر ستة جنرالات رفيعي المستوى، بمن فيهم القائد العام ياني. قُتل الضباط الأسرى وأحد مساعديهم، وهو ملازم. وفي صباح 1 تشرين الأول، أعلنت إذاعة جاكرتا الحكومية عن تشكيل "مجلس ثوري". ولم يُكشف عن أسباب العملية سوى إدانة كبار الضباط بالتواطؤ مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وبالتالي تهميشهم. ووفقًا للبيان الإذاعي، فإن الرئيس سوكارنو في مأمن، وسيواصل إدارة شؤون الدولة كالمعتاد.
على الرغم من غموض الخطة وغموض البرنامج السياسي لـ "حركة 30 سبتمبر"، إلا أنها انهارت بنفس السرعة. التزم سوكارنو الصمت ولم يُدلِ بأي تصريحات مؤيدة أو معارضة للأحداث، ولم تُوجّه قيادة الحزب الشيوعي الإندونيسي أي دعوات للشعب لدعم "حركة 30 سبتمبر". بل على العكس، كان الأمر كما هو: التزموا الهدوء. من المستفيد من كل هذا؟ سيطر اللواء سوهارتو، قائد الاحتياطي الاستراتيجي للجيش، وحدة كوستراد النخبوية، على كل شيء في غضون ساعات قليلة. ولا سيما أن بعض "الانقلابيين" كانوا من بين مُقرّبيه. وبحلول مساء الأول من أكتوبر، كان "الانقلاب" قد فشل فشلاً ذريعاً. وما تلا ذلك كان انتقاماً لا هوادة فيه من المنتصرين.
مارس الانقلابيون الجدد إبادة جماعية علنية ضد أعضاء الحزب الشيوعي والمتعاطفين معه، مدعومة صراحةً مع ترحيب لا لبس فيه من كبار ملاك الأراضي وحلفائهم في المؤسسة الدينية. لقد مارست ميليشياتهم إرهاب الدولة الذي أطلقه سوهارتو. لقد كان الانقلاب موجها بالأساس لتدمير الحزب الشيوعي ومحيطه الديمقراطي، على غرار انقلاب 8 شباط 1963 الأسود في العراق. تم قتل نصف مليون مواطن على الأقل وتُقدر بعض المصادر عدد القتلى بثلاثة ملايين. لقد نجحت خطة سوهارتو والغرب ومنذ ذلك الحين، برزت إندونيسيا كشريك موثوق للولايات المتحدة الأمريكية.


انتفاضة 2025 ضد الأوليغارشية
بلغت الاحتجاجات، التي اجتاحت إندونيسيا خلال عام 2025، ذروتها في نهاية آب وخرج الآلاف إلى شوارع مدن البلاد الرئيسة، للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وإصلاح مؤسسات الدولة.
بدأت الانتفاضة بتحرك شعبي في 25 آب، ردا على قرار الحكومة، منح أعضاء البرلمان بدل سكن يزيد عشرة أضعاف على الحد الأدنى للأجور، في حين أن الملايين يغطون بالكاد تكاليف معيشتهم.
وتصاعد الغضب عندما شارك أعضاء مجلس النواب في رقصات خلال الاجتماع السنوي، ووصف أحدهم المتظاهرين بـ "أكبر حمقى في العالم". وأدلى أعضاء آخرون في المجلس بتصريحات مهينة مماثلة. وسرعان ما أدى التناقض الصارخ بين الواقع الاقتصادي القاسي الذي يعيشه الإندونيسيون يوميًا وغطرسة الطبقة السياسية إلى تفجر الغضب على مؤسسات الدولة.
استمرت الانتفاضة حتى 28 آب. وطالبت بزيادة الأجور، ووضع حدٍّ للاستعانة بمصادر خارجية، وإصلاحٍ انتخابي، ودعت الدولة إلى حماية مصالح مواطنيها. إلا أن موجة الاحتجاجات سرعان ما تصاعدت، وتصاعد معها رد السلطة، مما أدى إلى وفاة أحد المحتجين، يعمل سائق دراجة أجرة نارية ويبلغ من العمر 21 عامًا، دهسته الشرطة في حادث تصادم. وتحول موته، إلى تجسيد لعنف السلطة ضد مواطنيها، مما دفع آلافا إضافية إلى النزول إلى الشوارع.
لم تعد المقاومة ضد الحكومة الحالية تقتصر على العمال، بل شملت أيضًا الطلاب وذوي الكفاءات العالية، وحتى سائقي خدمة التوصيل. ولا تنحصر الانتفاضة ضد مجلس النواب، بل شملت أيضًا الشرطة، التي غالبًا ما تستخدم العنف لقمع المواطنين. ومع ذلك، لم تشكل الاحتجاجات حتى الآن تهديدًا للطبقة الحاكمة.

إرث الانقلاب الدموي
منذ انقلاب عام 1965 الدموي، عاشت إندونيسيا عقوداً تحت الحكم العسكري المباشر أو غير المباشر. ومع وصول الرئيس الحالي برابوو، إلى دفة الحكم، تجددت مخاوف إحياء دكتاتورية الجنرالات، إلى الرئاسة، وجاءت التعديلات القانونية الأخيرة التي منحت الجيش صلاحيات تتعلق بحياة المواطنين اليومية، لتعمق هذه المخاوف، وتمثل للكثيرين تهديد ملموس للمكتسبات الديمقراطية الهشة أصلا. وأعاد إلى الأذهان يوميات ديكتاتورية سوهارتو.
الرئيس الحالي برابوو سوبيانتو، هو جنرال ووزير الدفاع أسبق، أصبح رئيسا للجمهورية، بعد فوزه في جولة الانتخابات الأولى عام 2024، بحصوله على 58,6 في المائة من أصوات الناخبين.
وهو ينتمي إلى النخبة العسكرية، وبعد تقاعده تحول إلى رجل أعمال، لكن هذا لم يغير الكثير في علاقته بالعسكر والنخبة الحاكمة فهو صهر الدكتاتور والرئيس الأسبق سوهارتو.
تزوج برابوو عام 1983 من ستي هدياتي هاريادي، الأبنة الثانية لسوهارتو، بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية عام 1974 وخدم في الجيش لمدة 28 عاما، وشارك في بمهمة قمع الحركة "الانفصالية" في تيمور الشرقية في عام 1976.
وأصبح برابوو قائدا لكتيبة المشاة المحمولة التابعة لقيادة الاحتياط الإستراتيجي للجيش في عام 1987 بعد إكمال دورة ضباط القوات الخاصة في قاعدة "فورت بينينغ" بالولايات المتحدة.
وبعد إجبار الانتفاضة الشعبية في عام 1998 سوهارتو على التخلي من رئاسة للبلاد.، وبداية سلطة النظام الجديد القائم على التعددية الحزبية والديمقراطية، تولى برابوو قيادة كلية الأركان في باندونغ، وبعدها بفترة وجيزة تم تسريحه من الجيش بعد اتهامه بالتورط في اختطاف طلاب منتفضين في عام 1998 وانتهاكات لحقوق الإنسان في بابوا وتيمور الشرقية.
وجاء تسريحه من الخدمة العسكرية أيضا بعد أن أمر قواته بمحاصرة القصر الرئاسي في عهد يوسف حبيبي، الذي خلف سوهارتو في حكم البلاد، بقرار من محكمة عسكرية في 14 تموز 1998 بعد إدانته بـ 7 تهم.
بعد إقالته تنقل بين الأردن وبلدان أوربية، ثم عاد إلى إندونيسيا عام 2001، وسار على خطى شقيقه الأصغر رجل الأعمال هاشم جوجوهاديكوسومو، الذي يعد أحد أغنى رجال الأعمال في إندونيسيا.
أنشأ برابوو عدة شركات تعمل في مجال الطاقة وزيت النخيل والفحم والغاز والتعدين والزراعة وصناعات صيد الأسماك.
وبالتالي فإن أداءه السياسي والاقتصادي كرئيس للبلاد، أعاد تاريخه العسكري إلى الذاكرة، بالإضافة إلى انتمائه إلى عائلة الدكتاتور سوهارتو.

أسباب اقتصادية
يعود غضب السكان أساسا إلى هيمنة الأوليغارشية الثرية على النظام السياسي في البلاد. وفقًا لمعطيات منظمة مراقبة الفساد في إندونيسيا، فإن 354 من أصل 580 عضوًا في مجلس النواب في الفترة التشريعية 2024-2029، أي ما يقارب 61 في المائة، ينتمون بأشكال متعددة إلى عالم رجال الأعمال. في الفترة التشريعية 1999-2004، كانت النسبة 33,6 في المائة.
تضمن هيمنة الأوليغارشية على السياسة، عمل مؤسسات الدولة لمصالحة الأثرياء، وليس للمصلحة العامة. في عهد الرئيس برابوو سوبيانتو، ارتفع عدد العاطلين عن العمل، في شباط 2025، إلى 7,28 مليون (مجموع سكان البلاد 283,5 مليون /2024)، بزيادة قدرها 80 ألفًا مقارنة بالعام السابق. وتعود أسباب ذلك إلى تسريح أعداد كبيرة من العمال وشحة فرص العمل نتيجةً للفشل في تنفيذ إصلاحات هيكلية وغياب عملية تصنيع الاقتصاد الإندونيسي. في الوقت نفسه، ارتفع عدد العمال غير النظاميين إلى 86,58 مليون، أي ما يمثل 59.4 في المائة من القوى العاملة.
ولا يعود تدهور الرعاية الاجتماعية في ظل الحكومة الحالية إلى الأزمة الاقتصادية فقط، بل أيضًا إلى سياسات الإنفاق. فبعد توليها السلطة في تشرين الأول 2024، طبّقت حكومة برابوو إجراءات تقشفية لكبح جماح الإنفاق المفرط للحكومة السابقة، وأدى نقل العاصمة إلى إيبو كوتا نوسانتارا إلى استنزاف موارد الدولة وتضخم الدين العام. وقُلّصت بنود الميزانية الأساسية، مثل التعليم والصحة، بينما ازداد الإنفاق على الجيش والشرطة.
يُبين هذا النمط أن حكومة برابوو لا تنوي حل المشكلات الهيكلية القائمة بضمان الأمن الاجتماعي للسكان، بل بتعزيز جهاز عنف الدولة. وهذا يؤكد بوضوح أولوياتها: فبدلاً من السعي لكسب الشرعية من خلال الضمان الاجتماعي، تعتمد الحكومة بشكل متزايد على الإكراه، وهو تطور غالبًا ما يُصاحب ترسيخ حكم الاستبدادي.

دورات التعبئة
لا يمكن فصل انتفاضة آب عن المقاومة الأوسع نطاقًا التي تختمر ضد الأوليغارشية منذ سنوات. بدأت حركات مختلفة من الاحتجاجات على إصلاحات الرئيس السابق جوكو ويدودو (المعروف أيضًا باسم جوكوي)، بما في ذلك الحركة الطلابية عام ٢٠١٩ والتعبئة الجماهيرية عام ٢٠٢٠ ضد التصديق على ما يُسمى بقانون خلق فرص العمل الشامل، الذي ألغى العديد من حقوق العمال باسم تشجيع الاستثمار.
سبقت احتجاجات آب عشر تظاهرات حاشدة، منذ تولي الرئيس الحالي مهام منصبه على الاقل، اثنتان منها جديرتان بالملاحظة بشكل خاص. كانت الأولى احتجاجًا شبابيًا في شباط بعنوان "إندونيسيا المظلمة"، عكست ازدياد تشاؤم المتظاهرين الشباب بشأن المستقبل بسبب فشل الحكومة في حماية المواطنين من الآثار السلبية لسياسات التقشف. ومن الأمثلة على ذلك برنامج "الوجبات الغذائية المجانية"، الذي عانى، على الرغم من تمويله بقرابة 22 مليار يورو، اي ما يساوي 11 في المائة من الموازنة العامة، من مشاكل مثل سوء جودة الطعام وحالات التسمم الجماعي في العديد من المدارس. ومن المعروف أن الشباب يشكل أكثر من 50 في المائة من سكان البلاد، ومعظمهم دون الثلاثين. وهو جيل طموح ومتمرد، يحاول إجبار الحكومة على تلبية حاجته إلى فرص العمل والتعليم والخدمات، لكنه يصطدم بواقع محدودية فرص العمل المضمونة وفرص العمل المؤقتة. ولذا، ليس غريبا ان تقود الشبيبة موجة الاحتجاجات الأخيرة. وعلى الرغم من أن الرئيس لم يمضِ في الحكم سوى عام واحد، إلا أن كثيراً من المحتجين لا يرونه وجهاً جديداً، بل امتداداً لطبقة سياسية عسكرية - مدنية قديمة، متهمة بالفساد والتواطؤ. لذلك لم ينتظر الناس سنوات للحكم عليه، بل رأوا في سياساته المبكرة دليلاً على سعيه لإعادة إنتاج النظام السابق، ولكن بحلة جديدة.
وأثر النجاح السريع في اقتلاع منظومة الفساد الحاكمة في سريلانكا، في انتشار عدوى التغيير، بالإضافة إلى تجربة طلبة إندونيسيا الناجحة في إسقاط نظام سوهارتو، ومع ذلك، لم تنجح أي من هذه الاحتجاجات في إقناع الحكومة بتغيير سياساتها.
انتشرت التعبئة أيضًا في أنحاء إندونيسيا الشاسعة. في 13 آب، واندلعت احتجاجات حاشدة في باتي، بجاوة الوسطى على خطط زيادة ضرائب العقارات بنسبة تصل إلى 250 في المائة، إذ شعر السكان بأن ذلك يهدد سبل عيشهم. كما اندلعت احتجاجات مماثلة في بونه، بجنوب سولاويزي، حيث خططت الحكومة المحلية لزيادات ضريبية تصل إلى 300 في المائة. وهكذا، كان ما شهده العالم في نهاية آب الاحتجاج الأبرز، ولكنه جزء من موجة احتجاجات تصاعدت منذ عام 2019 بسبب عدم اكتراث الحكومة برفاهية الأغلبية.

البديل
ما يجعل الانتفاضة الجماهيرية الأخيرة لافتة للنظر هو ممارسة الطبقة الحاكمة القمع المنهجي. أفادت لجنة حقوق الإنسان المعنية بالمفقودين وضحايا العنف بقيام الشرطة بممارسة العنف المباشر في 602 حالة ضد المعارضين السياسيين بين حزيران 2024 وتموز 2025، شملت عمليات قتل كيفية، وتعذيب، واعتقالات غير قانونية. كان العنف ضد الحركات الاحتجاجية دوما جزءًا من السياسة الإندونيسية، إلا أن شدته ونطاقه كانا أكبر بكثير خلال هذه الفترة مقارنةً بالعقود الأخيرة، مما يشير إلى أن الحكومة الحالية تزداد استبدادا.
ومع تصاعد الاحتجاجات في آب الفائت، كثّفت السلطة هجماتها وحاولت تشويه سمعة المحتجين بوصفهم بثيري شغب ودعاة العنف. لقد أدت جهود السلطة لإسكات صوت المحتجين عبر القمع والعمليات الاستخباراتية إلى عرقلة التعبئة الجماهيرية. لم يعد المواطنون الغاضبون راغبين في النزول إلى الشوارع، خوفًا من أن يُساء فهم مطالبهم المشروعة، لذلك كانت حصيلة محاولات التعبئة التالية في أوائل ايلول منخفضة، ويعود ذلك أساسًا إلى الخوف من عمليات القمع الدموية. في الجانب الآخر قدّم نشطاء الفئات الوسطى عدة مطالب إلى مجلس النواب لم يتحقق منها شيء ملموس.
تكشف هذه الديناميكية عن مفارقة جوهرية في السياسة الإندونيسية الراهنة: من جهة، احتجاجات واسعة النطاق ترفض سياسات التقشف وترسيخ حكم الأوليغارشية. ومن جهة أخرى، ونظرًا لغياب حركة منظمة، يفتقر الغضب الشعبي في التحول إلى قوة دفع واضحة تُزعزع أركان السلطة الأوليغارشية. وفي نهاية المطاف يؤدي القمع الواسع إلى تشديد قبضة الأجهزة الأمنية على المجتمع، ولو لحين.
وكذلك يعد التشتت أكبر نقاط ضعف الحركات الاحتجاجية الحالية في إندونيسيا: فالعمال يُناضلون من أجل مطالبهم الاقتصادية، والمزارعون معزولون في دفاعهم عن أراضيهم، والمجتمعات الحضرية الفقيرة تُقاوم عمليات الإخلاء على المستوى المحلي فقط، والطلاب يُتظاهرون في الحرم الجامعي، لكن هذه النضالات نادرًا ما تُشكل جبهة موحدة. وبالتالي نحن إزاء فعل احتجاجي متواصل، لكنه غير موحد وهش، لا يستطيع تحقيق أهدافه المرجوة، على الرغم من صور البطولة التي يرسمها المحتجون.
للتغلب على التشتت، يجب على الحركات الاحتجاجية في إندونيسيا إدراك أنه لا يمكن لأي قطاع، مهما بلغ تنظيمه، أن يواجه وحيدًا تحالف الأوليغارشية والنخب السياسية. وبالتالي فان غياب قيادة سياسية، متجذرًا في النضالات المستمرة للشباب المحرومين من حقوقهم، والفلاحين، والعمال غير النظاميين.
يعود هذا الغياب إلى النتائج الكارثية لانقلاب 1965، فمنذ إبادة الحزب الشيوعي الاندونيسي، لم يستطع اليسار العودة إلى القدرة على التأثير في تنظيم وتوجيه الأكثرية المتضررة. وهذه الظاهرة لا تنحصر في اندونيسيا، بل تكاد تكون مشتركة في جميع البلدان التي شهدت انقلابات مماثلة، كان للمخابرات المركزية الامريكية الدور الأساسي فيها، باستثناء الحزب الشيوعي التشيلي، الذي استطاع، ان يلملم جراحات القمع الفاشي، ويعود إلى صف القوى المتصدرة للمشهد السياسي، وقد تصبح مرشحة اليسار والقيادية الشيوعية جانيت جارا، الرئيسة القادمة في تشيلي.
إن أوساطا واسعة غير منظمة تنخرط في مقاومة عفوية ومحلية، ولكن أفرادها لم ينتموا بعد إلى نقابة أو حزب سياسي، ويتمتعون بطاقة وإبداع هائلين. إن الجمع بين هذه الطاقة واستقرار أطر منظمة ليس مرغوبًا فيه فقط، بل ضروري للغاية.
ومن الثابت: أن النضال السياسي المشترك يُقوّي الحركات، في حين يُضعفها التشرذم. ولمواجهة هذا التحدي، يجب على الشعب الإندونيسي أن يتوحد، ليس بمحو التباينات، بل بدمجها في نضال أوسع من أجل العدالة والمساواة والديمقراطية. كانت انتفاضة آب أوضح برهان حتى الآن على رغبة الشعب في تغيير حقيقي. ربما يكون السعي لهذا التغيير قد توقف هذه المرة، لكن يجب أن يبدأ البحث الآن عن أشكال مقاومة أكثر فعالية، أي البحث عن أطر عمل لا تعتمد على الانفعالات والعفوية بقدر ما تعتمد على العمل الدؤوب لبناء قوة جماعية مستدامة.



#رشيد_غويلب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على اليسار ألا يتهرب من ماضيه.. عشرة أسباب لذاكرة حيّة للتجر ...
- المنتدى الأوروبي: في سبيل السلام والسياسات الاجتماعية والديم ...
- الشيوعيون يعلنون ولاية كيرالا الهندية خالية من الفقر المدقع
- زهران ممداني يهزم اليمين في حزبَيْ مؤسسة السلطة الامريكية
- في عالم يغزوه اليمين.. يساريةٌ رئيسةً لجمهورية إيرلندا
- مؤتمر الشيوعي النمساوي الـ 39: مواجهة التضخم والنضال من أجل ...
- أفريقيا في القرن الحادي والعشرين: سلاسل جديدة، جراح قديمة
- الملايين يحتجون ضد ترامب في جميع الولايات الأمريكية
- تزايد انتشار القواعد العسكرية الامريكية في العالم
- منح ماريا كورينا ماتشادو جائزة نوبل للسلام أفقد مفردة {السلا ...
- بيرو.. إقالة رئيسة الانقلاب والرئيس الجديد يحاول احتواء الحر ...
- تأملات: هل يستطيع الماركسيون إنجاز مهمة تغيير العالم؟
- في الزمن الفلسطيني.. أحرار العالم ينهضون من أجل غزة
- الرئيس الفرنسي يقترب من نهايته.. أنصاره يطالبون بانتخابات مب ...
- في الجمعية العامة.. أمريكا اللاتينية تدعو إلى السلام وتدين ا ...
- اكثر من مئة ألف في شوارع برلين يطالبون بإيقاف حرب إبادة الشع ...
- استمرار تساقط رموز اليمين.. الحكم على الرئيس الفرنسي الأسبق ...
- ترامب وحكومات الفاشيين الجدد الأوربية يوصمون مناهضة الفاشية ...
- بتُهم دعم الإبادة الجماعية.. محامون يقاضون الحكومتين الألمان ...
- اسطورة التقشف اختراع أيديولوجي ضد الطبقة العاملة


المزيد.....




- تل أبيب.. آلاف المحتجين يطالبون بلجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 ...
- Afro-Descendant Communities Offer a Living Blueprint for Ama ...
- Monday, November 24 — Palestinian Community Leaders and Huma ...
- الشاب محمد يحيى يظهر بعد 5 سنوات من الاختفاء القسري
- المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي ينظم أربعينية ا ...
- بسبب فريق إسرائيلي.. اشتباكات بين الشرطة الإيطالية ومتظاهرين ...
- السودان: تصاعد التضامن الدولي لوقف الحرب
- «الديمقراطية»: تصاعد وحشية وجرائم الإحتلال وقطعان المستوطنين ...
- كلمة الميدان: في وجه الغطرسة الأميركية
- بيان صحفي للمنسقية العامة لمخيمات النازحين واللاجئين حول تده ...


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - رشيد غويلب - في العام الستين للانقلاب الدموي / إندونيسيا تشهد انتفاضة شعبية استثنائية