|
|
كيف نجت بعض الملفات من المحاسبة عقب ثورة 25 يناير 2011
حسن مدبولى
الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 20:36
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
( بمناسبة قرب ذكرى 25 يناير)
منذ لحظة الانفجار الشعبي في 2011، بدا وكأن مصر على وشك فتح أكبر عملية تفكيك لنظام اقتصادي-سياسي امتد لعقود، وأن الملفات التي ظلت حبيسة الأدراج ستخرج للشمس لأول مرة. كانت هذه اللحظة، تعتبر في مخيلة الجماهير، هى لحظة “كشف الحساب” مع منظومة استفادت من نفوذها وعلاقاتها وتغلغلها داخل الدولة، عبر صفقات وعقود وإسنادات وامتيازات لا يملك للمواطن العادى معرفة تفاصيلها ولا قدرة له على فهمها أصلًا.
لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن ثورة قانون، بل كان ثورة مضادة بالقانون. فلم تُدفَن الملفات، بل جرى تحويلها تدريجيًا من قضايا فساد، إلى خلافات مالية، إلى منازعات إدارية، إلى “لا شيء يستحق المتابعة”.بل أن متهمين كثر عادوا كما ولدتهم أمهاتهم، وبعضهم يقودون الاقتصاد ويحتكرون مجال العقارات و غيره من المجالات،والبعض يشاركون فى ادارة اندية جماهيرية،وآخرون عادوا لتولى المناصب ومراكز النفوذ الخ، هذا الأمر لم يكن نتيجة مؤامرة بالمعنى السينمائي، بل كان نتيجة هندسة دقيقة لبيئة قانونية وسياسية محكمة، وظيفتها حماية البُنية نفسها، لا الأشخاص فحسب. فالقانون الذي بدا حادا صارمًا محايدا تجاه مخالفات صغيرة كمخالفات المبانى فى قرى وعشوائيات الفقراء وأرغم الناس على سداد مبالغ طائلة بحجة التصالح، كان بلا أنياب تجاه هؤلاء النافذين أصحاب السطوة والمليارات ، والمشكلةلم تكن في القضاة ولا في القوانين وحدها، بل في الطريقة التي صُمّم بها المجال القانوني كله. فالقضاء الجنائي لا يدين إلا بوجود: قصد جنائي واضح، وقرار مباشر بالإضرار،مستند محدد يُثبت التربح، مع علاقة سببية لا تحتمل الشك.
لكن هذا كله معيار مثالي، يصلح في قضايا السرقة والقتل، ومخالفات البناء، لا في قضايا النفوذ، والامتيازات، والقرارات الوزارية، والتعاقدات المؤسسية، والشبكات الاقتصادية. ففي تلك القضايا، لا أحد يوقّع على ورقة تقول: "أمنحك هذه الأرض لمنفعتنا سويا "، ولا أحد يكتب في مذكرة داخلية: “ أوافق على تخفيض مستحقات الدولة عمدًا لان ذلك لصالحى ”.أو " تمنح تلك الهدايا لتمرير مخالفات" ولا " أوقع عقد اعلانات مقابل عمولات توضع بحساباتى" الخ ومن هنا، تبدأ أول فجوة: فالفساد السياسي والاقتصادى لا يترك بصماته، بل يترك نتائجه فقط، كما أن القضاء — بحكم طبيعته — لا يحاكم النتائج.
إن الملفات التي أثارت غضب الشارع لم تُغلق لأنها غير موجودة، بل لأنها أُعيدت صياغتها قانونيًا بطريقة مختلفة تمامًا. فكل قرار مثير للريبة — تخصيص أرض، منح امتياز، عقود إعلانات بمؤسسات حكومية ، مكافأت صارخة، حوافز، هدايا ثمينة ورشاوى خارجية ، عمليات إسناد مباشر لأحد رجال الأعمال بواسطة أقرباء له بالوزارة — كل ذلك يمكن بسهولة إعادة تأويله بأنه مجرد “قرار إداري اتُّخِذ في زمن كان يسمح به القانون” أو أن لجنة ما قننت مابه من عوار، حتى لو كان ذلك القرار قد كلف الدولة ملايين، أو منح شركة خاصة امتيازًا غير منطقي، أو أتاح لشبكة مصالح أن تتوسع، او سمح بتغلغل خارجى فى الداخل ، وبمجرد وضع القرار تحت مظلة “السياسات العامة وقتها” أو قرارات لجان أو رقابة، يسقط نصف الاتهام. أما النصف الآخر، فيُطوى بقاعدة بسيطةوهو أن المحكمة تحاسب على نص القانون، والادلة والمستندات ، لا على نوايا صانعيه ،
وحتى حين بدأت الدولة فى مراجعة جدية لبعض الملفات، بدا واضحًا أن الدخول في محاكمات طويلة قد يهزّ الاقتصاد، وأن الإدانة — إن حدثت — ستكون صادمة لدوائر النفوذ، وأن الأدلة لن تصلح أساسًا لإدانة قاطعة. ولذلك ظهرت “التسوية” كطوق نجاة. فالتسوية تُعيد للدولة جزءًا من المال، وتعيد لمن يواجه الاتهام قدرته على الحركة، بل وتعيده لمراكز النفوذ والسلطة والتواجد الجماهيرى العارم خاصة فى مجال كرة القدم، ويتم غلق الملف دون إعلان براءة ولا إدانة. وهكذا جرى تجاوز عشرات القضايا: ليس لأن الجميع أبرياء، وليس لأنهم مجرمون ضالعون، بل لأن الدولة رأت أن المال العائد أهم من الحقيقة الضائعة، وتسوية وقائع الحصول على هدايا مشبوهة، أفضل من الفضح والتجريس ،، والاهم أنه فى ذلك كله يكون ظاهرا للعامة أن “القانون أخذ مجراه” فيتجاهل الكثيرون الأمر،وينسون شخوصه، بل أن الملايين من الناس باتوا يرحبون بشدة بتواجد بعض تلك الشخصيات كرعاة ماليين وكقادة نافذين بأندية ذات جماهيرية كاسحة،
أما الملفات الأخطر التى كانت ثورة 25 يناير قد فتحتها وبدأت فى محاكمة أبطالها داخل المؤسسات القومية الكبيرة،فقد انتهت هى الأخرى الى سراب مخيف، ففى تلك المؤسسات لا يمكنك أن تعرف: من أصدر القرار؟ و من وافق عليه؟ و من الذى استفاد منه؟ فكل شيء داخل تلك المؤسسات يتم عبر “مجلس”، و“لجنة”، و“قطاع”، و“تفويض”، و“توجيهات سابقة”. وكل ذلك قانونيًا يجعل المسؤولية مثل قطرة ماء على سطح زجاج: تنزلق بلا أثر، ولا يمكن تثبيتها على أحد، والمحكمة فى تلك الحالة لا تستطيع إدانة مؤسسة،فالمدير العام يقول: "نفذت التعليمات"،والمدير المالي يقول: "راجعنا الأرقام"، واللجنة تقول: "أقرت بالإجماع"، والمستفيد موجود… لكنه محمي بالطبقات المؤسسية التي تستعصي على الإدانة. وهكذا، يتحول الفساد إلى ظاهرة بلا مجرم. حتى وان كان المجرم معلوما ظاهرا كقرص الشمس ،،
لماذا شعر بعض الناس بأن “الثورة هُزمت”رغم أن المحاكم قالت كلمتها؟
لأن الناس لم تكن تبحث عن حكم قضائي، بل عن استعادة العدالة المفقودة. لكن العدالة التي يريدها الناس تختلف جذريًا عن العدالة التي يصنعها القانون. الناس كانت تريد:كشفًا صريحًا للثروات،ومعرفة كيف تشكلت شبكات النفوذ، مع إعادة توزيع للفرص، ووضع خطوطًا جديدة للعبة الاقتصادية،كذلك محاسبة سياسية قبل أن تكون جنائية.
لكن ما حدث هو العكس: فقد تم تقديم “البراءة القانونية وفق البيئة المعتلة ” كبديل لـ“المحاسبة السياسية”. وهكذا، بدا وكأن المنظومة كلها — لا الأشخاص فقط — قد خرجت من تحت ركام الثورة أنظف مما دخلت.
الخلاصة السياسية:
الملفات أُغلقت… ليس لأن الحقيقة ظهرت، بل لأن الدولة العميقة اختارت نوعًا مختلفًا من الحقيقة، فما جرى بعد 2011 لم يكن عملية تطهير، بل كان إعادة ترتيب تضمن استمرار البنية الاقتصادية والسياسية كما هي.فتم استخدام القانون — لا تعطيله — لصناعة واقع جديد: واقع تُدفَن فيه الشبهات تحت بند “عدم كفاية الأدلة”، وتُغسل فيه الصفقات القديمة بمياه “التسوية”، وتذوب فيه جرائم النفوذ داخل مفاهيم مبهمة مثل “تقديرات فنية”، و“لوائح مرنة”، و“قرارات وقتها كانت قانونية”. وبذلك، لم تُبرّأ الأسماء، بل بُرّئ النظام الذي أنتجها، وهو النظام نفسه الذي أحكم قبضته مجددًا، مستفيدًا من ثغرات قانونية صُممت بدقة لتصمد أمام أي عاصفة — حتى لو كانت ثورة. #حسن_مدبولى
#حسن_مدبولى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شر البلية !!
-
بوصلة الأهلى والزمالك !!
-
تصريحات إستهلاكية !!
-
الدعم المؤلم المرير،،
-
للقذارة لون واحد !
-
تصويت الجزائر !!
-
خطاب إدانة ،،،
-
الأهلى ومستقبل وطن، المسرحية واحدة
-
رمز تنويرى مصرى
-
ممدانى بين الفخر، والتقريع !!
-
الإنفصام العجيب !!
-
الزمالك من الوطنية والكرامة، الى الهوان والتطبيع !
-
الصفع فى الحرم !!
-
عالم الآثار المغضوب عليه !!
-
ذكرى الإحتفال الذى أغرق البلاد،،
-
ذكرى الإحتفال الذى أغرق مصر،،
-
من التاريخ المصرى ،،
-
التاريخ والاستثناء
-
روسيا والصين، قطبان بلا روح
-
التطرف بمحافظة المنيا ،،
المزيد.....
-
تل أبيب.. آلاف المحتجين يطالبون بلجنة تحقيق رسمية في أحداث 7
...
-
Afro-Descendant Communities Offer a Living Blueprint for Ama
...
-
Monday, November 24 — Palestinian Community Leaders and Huma
...
-
الشاب محمد يحيى يظهر بعد 5 سنوات من الاختفاء القسري
-
المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي ينظم أربعينية ا
...
-
بسبب فريق إسرائيلي.. اشتباكات بين الشرطة الإيطالية ومتظاهرين
...
-
السودان: تصاعد التضامن الدولي لوقف الحرب
-
«الديمقراطية»: تصاعد وحشية وجرائم الإحتلال وقطعان المستوطنين
...
-
كلمة الميدان: في وجه الغطرسة الأميركية
-
بيان صحفي للمنسقية العامة لمخيمات النازحين واللاجئين حول تده
...
المزيد.....
-
ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا
...
/ بن حلمي حاليم
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|