محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 00:41
المحور:
قضايا ثقافية
في تاريخ الفكر الصوفي، ثمّة لحظات لا تبدو قابلة للاحتواء ضمن أنماط الإدراك المعهودة: لحظات تقف فيها التجربة على حافة ما نسميه “العقل”، وتتجاوزها إلى شيء آخر لا هو وحيٌ بالمعنى النبوي، ولا هو خيالٌ بالمعنى النفسي، ولا هو رؤية منامية بالمعنى المتداول. لحظات يتداخل فيها الواقعي بالرمزي، ويتعانق فيها اللاهوت مع الفيزياء، ويصبح الحدّ الأخير للوجود مُتحرِّكاً، قابلاً للعبور.
تجربة ابن عربي في لقائه بالـ “فتى غامض” يطوف حول الكعبة -كائناً وُصف بأنّه ليس حيّاً ولا ميتاً، ليس إنسياً ولا ملائكيّاً، بسيطاً ومركَّباً، صامتاً ناطقاً، مادياً ولا مادياً - واحدة من هذه اللحظات الحدّية التي تجعل العقل البشري واقفاً بين جلال التصديق ورهبة الإنكار.
غير أن ما يفاقم الغموض هو أن هذا الكائن، كما يصفه ابن عربي، لم يكن من صنف البشر ولا من نظام الطبيعة الأرضية، ولم يكن من الملائكة أيضاً. بل يذهب الشيخ الأكبر إلى أبعد من ذلك: إنّه مظهرٌ إلهيّ، تجلٍّ، حضور لا يمكن وضعه في خانة المخلوق ولا الخالق، كائن بينيّ، أشبه بما قد يصفه العقل المعاصر بـ “وجود خارج الأرض” أو مكوّن من مستويات وعي لا تتوافق مع معادلات الواقع الأرضي.
إننا هنا أمام حدث لا يمكن اختزاله، ولا يمكن تجاوزه، ولا يمكن تفسيره دون الخوض في ظلال ما وراء الفلسفة، وما وراء علم الكلام، وما وراء الفيزياء.
ومع هذا، لا يمكن كذلك التسليم به دون مقاومة عقلية.
وهنا، في هذا التوتر تحديداً، ينشأ المقال الذي بين يديك.
1. الطواف: لحظة الانكسار الكوني
الطواف حول الكعبة، كما يفهمه الصوفي، ليس حركةً جسديةً بل مداراً كونياً.
فالكعبة ليست حجراً، بل نقطة تماس بين العوالم.
في تلك اللحظة، يشعر السالك بأنه يدور حول مركز الوجود، وأنّ ذاته تنفكّ عن ذاته، وأن عينه لا تعود ملكه، وأن ما يراه ليس “ما يراه”.
في هذه البنية النفسية الكاسرة، يظهر الفتى.
ليس ظهوراً حسياً، وليس رؤيا.
ليس وهماً، ولا صوتاً، ولا خيالاً عابراً.
إنه كيانٌ يتجاوز التوصيف:
كأن هندسة وجوده مصنوعة من قوانين لا تعرفها العيون، ولا يحكمها الزمن، ولا تحدّها مسافة.
يقول ابن عربي إن هذا الكائن كان:
بين الحياة والموت
بين الجسم والروح
بين الزمن واللازمن
بين الوجود والعدم
وهذه ازدواجية أو “superposition” لو أراد العقل الفيزيائي الحديث أن يتناولها.
ازدواجية تجعلنا نتساءل:
هل كان الفتى كائناً من عالم آخر؟
هل كان تجلياً إلهياً؟
هل كان كائناً خارج الأرض يتقاطع مع الوعي الإنساني لأسباب لا يمكننا فهمها؟
الصوفي سيقبل هذه الازدواجية بوصفها علامة.
الفيلسوف سيقبلها بوصفها استعارة.
العقل المادي سيرفضها بوصفها خرقاً للمعاينة.
أما الباحث الماورائي فسيرى فيها بوّابةً إلى سؤال أكبر:
هل نحن وحدنا؟
2. الكائن الغامض: بين البرزخ والكوسمولوجيا
حين يصف ابن عربي الفتى بأنّه “ليس إنسياً ولا ملكاً”، فهو ينفي عنه كل ما نعرفه من أصناف الكائنات.
وعندما يصفه بأنه “مركّب بسيط”، فهو يستخدم لغة لا يفهمها إلا من أدرك طبيعة “الكيان البرزخي” الذي يقف بين العالمين.
ولكن، إذا أزيح الغطاء الصوفي، وبُدّل السياق اللغوي، فإن الأوصاف ذاتها يمكن أن تشير إلى كائن:
لا يخضع لقوانين المادة
لا يعيش ضمن زمن خطّي
يتحوّل بين حالتين دون انتقال
يظهر ويختفي دون حركة
يُدرَك ولا يُرى بالعين المتعارفة
هذه نفس الأوصاف التي يستخدمها علم الكونيات الحديث عندما يتحدّث عن الكائنات من خارج الأرض متعددة الأبعاد، أو الكائنات القادرة على العبور بين مستويات الطاقة والوجود.
لكن ابن عربي لا يستخدم لغة العلم بل لغة الوجود.
فهو لا يقول “فضائي” ولا “كائن متعدّد الأبعاد”، بل يقول:
تجلٍّ.
ومع ذلك لا يمكن تجاهل التشابه المريب بين المفهومين:
فنحن أمام كائن ليس مصنوعاً من مادّة بيولوجية، ولا تابعاً للنظام العقلي الإنساني، ولا مستقلاً عن المجال الروحي.
وهنا تتأسّس الفكرة الماورائية:
هل التجلي الإلهي، كما يفهمه الصوفي، هو ذاته ما يسميه العقل الحديث “المظهر الطاقي لكائن خارج الأرض”؟
هل العوالم البرزخية هي ذاتها “الأبعاد الأخرى”؟
هل الفتى ليس من خارج الأرض، بل من خارج “التصنيف الأرضي”؟
وهل كان ابن عربي أول من سجّل لقاءً من هذا النوع؟
3. الفتى: مصدر العلم ولغز العلم
المثير أنّ الفتى لم يكن مجرد حضورٍ بصري أو طيفي.
لقد أمر ابن عربي أن يكتب الفتوحات.
لقد كان المصدر الذي استمد منه الشيخ الأكبر علم “الحقيقة”.
فما طبيعة هذا الكائن الذي يتحدّث بلا صوت، ويعلّم بلا لغة، ويكتب دون أن يكتب، ويصنع علماً لا يشبه العلوم؟
إذا نظرنا إلى الظاهرة من زاوية صوفية، سنقول:
إنه “الروح السلفية”، “مرآة الحق”، “المتكلم بلامتكلم”.
ولكن إذا نظرنا إليها من زاوية ميتافيزيقا الوعي المعاصرة، فإنها تشبه:
كائناً واعياً غير جسدي، يمتلك قدرة على نقل المعرفة مباشرة إلى العقل البشري، ما يُعرف اليوم بـ Intelligence Transmission أو “نقل الوعي”.
وإذا توسّعنا أكثر، سنرى أن رواية ابن عربي تشبه ما يصفه رواد دراسات الاتصال الفضائي المتقدّم بـ ( لقاء من النوع الثالث - Encounter of the Third Type)
لكن بصيغة روحية، لا تقنية.
هل كان الفتى “كائناً طاقياً”؟
هل كان “ذاتاً إلهية متجسدة”؟
هل كان “كائناً من خارج الأرض” يستخدم وسيطاً روحياً؟
أم كان “الحق” نفسه متجلّياً في صورة بشرية؟
هنا يقف المقال عند منتصف المسافة:
لا إلى التصديق الخالص، ولا إلى الإنكار المطلق.
بل إلى القول بأن اللغة التي نصف بها التجربة قد تختلف، لكن الظاهرة نفسها تظل قائمة.
4. المؤيدون: الذين رأوا في التجربة باباً إلى معرفة أخرى
لم يكن ابن عربي وحده في هذا العالم المزدوج.
فقد ظهر حوله مؤيدون من الشرق والغرب، من فلاسفة وصوفية ومستشرقين، رأوا أن هذه التجربة ليست خيالاً بل “معرفة”.
القونوي:
وضع أسساً معرفية تقول إن الكائن الذي لقيه ابن عربي وجودٌ برزخيّ لا يخضع لقوانين الحس.
السيوطي والشعراني:
أكدا أنّ ما رآه الشيخ الأكبر يندرج ضمن التجليات الإلهية الممكنة.
النابلسي:
ميّز بدقّة بين “التجلي” و”التجسيم”، ليبرهن أنّ الفتى ليس جسماً، بل طورٌ من أطوار الظهور الإلهي.
ملا صدرا:
قدّم تفسيراً فلسفياً: الوجود ذو مراتب، والمرتبة التي تجلّى فيها الفتى أعلى من المادة وأدنى من الذات.
هنري كوربان:
ربط التجربة بما يسميه الغرب “عالم المتخيل الفاعل” (mundus imaginalis)، وهو عالمٌ يقوم بين المادّة والمجرّد، يشبه إلى حدّ مذهل “الأبعاد الأخرى” في الفيزياء النظرية.
ميشيل شودكيفتش وشيتّيك وحسين نصر:
رأوا أنّ الفتى ليس شخصاً بل كيان معرفي، “مبدأ للعلم”، وظهر لابن عربي كي يدفعه إلى كتابة أعظم موسوعة عرفانية في التاريخ.
والمفارقة أن هؤلاء المفكرين، على اختلاف مواقعهم الثقافية، اتفقوا على نقطة واحدة:
لا يمكن تفسير الظاهرة بلغة الواقع الأرضي.
5. المعارضون: الذين رأوا في التجربة خطراً على صورة الله
لم يكن المشهد موحَّداً. فقد وقف تجاه ابن عربي أعلام كبار:
ابن تيمية والذهبي وابن هشام:
اعترضوا على أن يظهر الحق في “صورة”، ولو كانت برزخية، ورأوا في ذلك اختلاطاً بين الخالق والمخلوق.
ابن خلدون:
اتهم التجربة بأنها “منام” لا يُبنى عليه علم، وأن “العقل” لا يقبل قصة الفتى.
عز الدين بن عبد السلام:
ورغم أن له رواية إيجابية أخرى عنه، فإن الخط العام عند الفقهاء كان الرفض.
إذن، ليس الجدل بسيطاً.
فالمعارضون لم يعترضوا على ابن عربي، بل على فكرة التجلي ذاتها، سواء أكانت تجلياً إلهياً أم ظهوراً لكائن غير أرضي أو كوني.
لقد رأوا في ذلك اختراقاً لصورة الله كما يفهمها المتكلمون، وخطراً على التصور التقليدي.
لكن، هل كان رفضهم رفضاً معرفياً أم رفضاً لخوفٍ من انهيار اليقين؟
من الصعب الجزم.
6. الفتى: تجلٍّ إلهي أم كائن متعدّد الأبعاد؟
هنا يكمن لبّ المقال، وجوهر غموضه:
ما طبيعة الكائن؟
لنطرح الاحتمالات الأربع بلا خوف:
أولاً: التفسير الديني الصوفي
الفتى هو تجلٍّ من تجليات الاسم الإلهي “المتكلم”، ظهر في هيئة بشرية برزخية.
ثانياً: التفسير الفلسفي الأفلاطوني
الفتى هو “الروح الكونية”، أو “العقل الفعّال” كما قال الفلاسفة الإشراقيون.
ثالثاً: التفسير الماورائي الحديث
الفتى كائن واعٍ من خارج الأرض، يمتلك قدرة على الظهور في مستوى معرفي غير مادي، ويستخدم وسيط الطواف لتغيير الوعي البشري.
رابعاً: التفسير الوجودي المحلي
الفتى ليس كائناً، بل صورة للوعي الأعلى داخل ابن عربي نفسه، ظهرت في هيئة خارجية.
هذه الاحتمالات، رغم تناقضها، تتقاطع في نقطة جوهرية:
ما ظهر لابن عربي ليس حدثاً عادياً.
فأياً يكن منشؤه، نحن أمام كيان يتجاوز النموذج البشري، ويعيد تشكيل إدراك العالم.
والسؤال الحقيقي لم يعد:
“هل كان التجلي حقيقياً؟”
بل:
“ما معنى الحقيقة إذا كانت قادرة على الظهور خارج حدود العقل؟”
7. المنزلة المعلّقة بين التصديق والإنكار
يأتي قارئ النص الصوفي وقد علّق معرفته بين قطبين:
قطب يرى أن التجلي ممكن، وأن الفتى بابٌ إلى الله.
وقطب يرى أنّ التجربة لا تتوافق مع معايير الفحص العقلي.
لكن المقال هنا، كما طلبت يا محيي الدين، لا يميل إلى أيٍّ من الطرفين.
إنه يقف في المنتصف، حيث تتقلّب الحقيقة واللا-حقيقة مثل جسد واحد بوجهين.
ما يهمّنا ليس “الصدق التاريخي”، بل طبيعة الظاهرة.
ظاهرة لا يمكن للعقل أن ينفيها ولا يمكن للقلب أن ينكرها.
وهنا يكمن سرّها.
ومن ثم، يمكننا هنا طرح سؤال:
بين الله والكائن الكوني … أيّهما كان يطوف مع ابن عربي؟
إن الخاتمة، في هذا النوع من المقالات، ليست إغلاقاً للنقاش بل فتحاً لأعمق طبقة فيه.
فنحن لسنا بصدد قصة دينية يمكن تصديقها، ولا رواية خيالية يمكن ردّها.
نحن بصدد تجربة معرفية تتجاوز حدود الإنسان.
وتقف هذه التجربة - كما أراد لها صاحبها - عند الحافة الدقيقة بين الحقيقة والرمز.
إذا أخذنا التجربة بوصفها تجلياً إلهياً، فإن الله، وفق لغة المتصوفة،
لا يحدّه شكل، ولا يمنعه مظهر، ولا يحجبه تنزيه عن ظهورٍ يناقل السالك إلى رتب لا تراها عين ولا تشهدها حاسّة.
فتجلي الله في صورة فتى ليس “تجسيداً” ولا "حلولاً" - بل هو شكل للظهور في عالم المثال، العالم الذي تتجسّد فيه المعاني في صور محسوسة دون أن تكون مادية.
وتصبح رؤية ابن عربي هنا نوعاً من التعرّف، لا على هيئة، بل على معنى.
أما إذا أخذنا التجربة بوصفها لقاءً بكائن غير أرضي، فنحن لا نبتعد كثيراً عن لغة التجلي.
فالكائن الذي وصفه ابن عربي لا ينتمي إلى الطبيعة الحيوية، ولا يدخل في منظومة الحياة والموت، ولا يخضع لجاذبية، ولا يتكلم بلسان، ولا يتحرك بقدم.
هو كائن “خارج التصنيف”، “خارج البيولوجيا”، "خارج الزمن" .. وهي الصفات نفسها التي يعطيها الباحثون المعاصرون للكائنات الذكية المتعدّدة الأبعاد.
وفي هذا التقاطع بين “التجلي” و“الكائن الكوني” يكمن سرّ الفتى.
ليس لأن أحدهما ينفي الآخر، بل لأنهما، في المستوى الأعلى، قد يكونان شيئاً واحداً.
فالكون أوسع من أن ينحصر في الإدراك البشري، والوجود أعمق من أن يختزل في المادة، والعقل نفسه - كما اكتشف المتصوفة والفيزيائيون - لا يستطيع أن يكون معياراً مطلقاً للحقيقة.
ربما كان الفتى تجلياً إلهياً، وربما كان كائناً كونيّاً، وربما كان شكلاً من أشكال الوعي الأعلى.
لكن المهم أن التجربة وقعت بحسب ابن عربي.
وأنها غيّرت وجه التصوف.
وأنها كشفت أن الإنسان ليس مركز الوجود، بل نقطة صغيرة في بحر من الكائنات والأبعاد والصور والظهورات.
ولعلّ السؤال الأكثر إثارة ليس:
“من كان الفتى؟”
بل:
“ماذا لو كانت كل الحضارات الكبرى في الأرض قد بُنيت على لقاءات مثل لقاء ابن عربي هذا؟”
ماذا لو كانت التجليات التي نراها في النصوص المقدسة، والأحلام الكبرى، والرؤى المؤسسة، كلها علامات على وجود عقول أخرى—إلهية أو كونية—تتواصل معنا بصور تفوق قدرتنا على الفهم؟
إنّ الوقوف في منتصف المسافة، كما تريد يا محيي الدين، ليس حياداً، بل موقف فلسفي يرى أن الوجود أعقد من أن يُختزل، وأن الحقيقة ليست ما نعرفه بل ما لم نعرفه بعد.
ولذلك يبقى الفتى—تجلّياً كان أم كائناً—مرآةً لما يمكن أن يصبح عليه الوعي الإنساني حين يتجاوز ذاته.
إنّ هذا الغموض ليس نقصاً في التجربة، بل هو جوهرها.
فما لا يُفهم، وما لا يُرى، وما لا يُسمّى، هو الذي يكشف لنا أن الحقيقة ليست نهايةً، بل بداية.
وهنا، في نقطة التقاء الله والكائن الكوني، يقف ابن عربي.
ويقف القارئ معه.
ويقف المقال في المسافة التي تفصل بين المعرفة والغموض …
بين الوعي والدهشة…
بين الأرض والسماء…
بين الإنسان وما ليس إنساناً…
وربما، في تلك المسافة، ينفتح الطريق.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟