هناك خطأ شائع حتى بين النخب المثقفة يربط ما بين اللاسلطوية و بين الإرهاب والعنف ، حتى أن البعض من كتاب الصحف فى الجرائد العربية لدينا قد ربط بين أحداث 11 سبتمبر فى نيويورك و إمكانية أن يكون وراءها جماعات فوضوية أو لاسلطوية دفعا لاتهام الجماعات الإسلامية المتطرفة بارتكاب تلك العملية البشعة , وفى الحقيقة أن الموقف اللاسلطوى من الإرهاب هو الإدانة عموما باعتباره عملا مناف لحقوق الإنسان بوجه عام ، و رفض العنف المنفصل عن الجماهير باعتباره عملا سلطويا يستبدل الجماهير بالنخب ، وباستثناء فترة قصيرة فى أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين فى إيطاليا وفرنسا فلم يمارس اللاسلطويون الإرهاب عبر تاريخهم كله برغم الصاق التهمة بهم دائما فى عقول البعض ومن قبل أعدائهم ، وبالرغم من الرفض المطلق للإرهاب والعنف المميز للفكر والممارسة اللاسلطويتين حاليا ، فأننا يجب أن نفرق توخيا للدقة فحسب بين الإرهاب اليسارى والإرهاب اليمينى ، الأول مارسته قلة هامشية معزولة من اليساريين و اللاسلطويين مشوشة التفكير عبر تاريخهم ، وسنجد أنه فى الحقيقة لم يتجاوز مطلقا أعمال الاغتيال الفردية للشخصيات السياسية والعسكرية والحاكمة ، و خطف الطائرات والأشخاص طلبا للفدية ، والتفجيرات البسيطة للمؤسسات الرسمية والعربات و اقتحام البنوك وتخريب الممتلكات العامة و وسائل النقل ، و هى عمليات لم تطول غالبا الأبرياء والمدنيون و لم تستهدفهم كضحايا على نحو متعمد ، و الثانى المتمثل فى العمليات البشعة التى يمارسها الإرهابيون اليمينيون والتى طالت المدنيون والأبرياء والتى استهدفت دائما أكبر عدد ممكن منهم كضحايا بلا تمييز و عن عمد ، مثل تلك العملية الأخيرة وعملية محطة قطار بولونيا فى إيطاليا ، وعملية المبنى الفيدرالى بأكلاهوما وعملية تفجير فندق داود من قبل الصهاينة بالقدس .
يستند رفض اللاسلطويون للعنف عموما على حزمتين من الأسباب ، الأولى تنطلق من التفسير المادى للتاريخ والواقع البشرى ، والثانية تنطلق من دوافع أخلاقية وإنسانية ، والتى أرى أنه ليس عيبا أن تتضمن مبررات مواقفنا المختلفة ، فتفسير بنية الذرة وتفاعلاتها الداخلية يخضع بلاشك للتفسير المادى والعلمى ، ولكن الدوافع الأخلاقية والإنسانية تتدخل عند تقرير استخدام تلك النظرية فى توليد التفاعلات الانشطارية أو الإندماجية لمكونات الذرة ، هل نستخدمها لأغراض السلم أم لأغراض الحرب ، ومن هنا ومع استمرار الاعتراف بضرورة التفسير المادى للظواهر الاجتماعية والإنسانية عموما فأننا يجب حين نريد أن نحدد مواقفنا من هذه الظواهر أن نضع فى اعتبارنا الدوافع الأخلاقية والإنسانية عموما . ولا يوجد هنا ثمة أى تناقض بين التفسير المادى والدافع الأخلاقى .فربما نقر بالعنف كتفسير مادى للعديد من الظواهر و الأحداث الاجتماعية، إلا أن هذا لا يمنع من رفضه و إدانته لأسباب أخلاقية و إنسانية .
بداهة وحيث أن العنف هو أحد مصادر السلطة المادية ، فإن اللاسلطويون و فى إطار هدفهم المبدأى يسعون للقضاء على احتكار البعض لذلك المصدر دون الآخرين ، ومن ثم فهم يقفون ضد العنف المنظم والمنفصل عن الجماهير والذى تحتكره مؤسسات ما ، مهما كانت دوافعها ومسمياتها .
ومن ثم يجب أن نفرق بين نوعين من العنف ، الأول تمارسه نخب مسلحة منفصلة عن الجماهير ، تتصارع مع السلطة الحاكمة لتحل محلها مستخدمة أو مستهدفة تأييد الكتل الواسعة للجماهير لبرامجها السياسية ، وسواء أكان هذا النوع من العنف إرهابا موجها ضد أهداف مدنية كنوع من الدعاية بالسلاح ، كنموذج الألوية الحمراء و جماعة بادر ماينهوف ، أو حربا للفدائيين موجهة ضد أهداف عسكرية بهدف هزيمة جيش السلطة على النمط الجيفارى أو الماوى ، فهما فى كلتا الحالتين مرفوضان على نحو مطلق لنخبويتهما و سلطويتهما واستبداليتهما وعسكريتهما ، والثانى عنف الغالبية الساحقة من الجماهير الواسعة العزلاء والذى ينفجر تلقائيا غالبا فى لحظات انتفاضها واحتجاجها على السلطة الحاكمة أى فى تلك اللحظات الثورية النادرة فى التاريخ . وهذا النوع يحتاج لتحديد موقف دقيق منه
ولكى نحدد موقفنا يجب أن نتساءل ، ماذا تفعل الجماهير الثائرة فى مواجهة القمع العنيف لتحركها الاحتجاجى و التمردى من قبل السلطة التى تواجهها ؟ ، أى عندما تصبح الجماهير فى موقف الدفاع عن النفس ضد عدو شرس لا يتردد حتى فى قمع تحركها اللاعنيف، والموقف هنا يتحدد إما بقبول هذا النوع من العنف الجماهيرى ومساعدة الجماهير فى تحويله من العفوية والتلقائية إلى التنظيم ، وفق مجموعة من الشروط هى : أن تمارسه الجماهير بنفسها و أن يكون بمبادرة منها و حين لا يكون مفر منه فى مواجهة المقاومة الشرسة للسلطة ، أما حين تكون هناك بدائل من المقاومة اللاعنيفة لذلك القمع السلطوى ، كالإضراب العام وعدم التعاون مع أجهزة السلطة وخلق المؤسسات البديلة لتلك الأجهزة ، فحينها يتم اختيار بديل اللاعنف وتوجيه الجماهير نحوه باعتباره البديل الأفضل .
واللاسلطوية بطبيعتها الفكرية عموما تقف موقفا معاديا للعسكرية باعتبارها قرينة التسلط و التراتبية فى أعلى درجاتهم ، فالجيوش لا يمكن أن تنتظم وفق القواعد اللاسلطوية ، و من ثم تناضل اللاسلطوية من أجل إلغاء كل المؤسسات العسكرية و شبه العسكرية المنفصلة والمتعالية عن الجماهير وتسعى لتسريح كل الجيوش وتصفية كل صناعات السلاح ، وتناضل من أجل النزع الكامل للسلاح من العالم كله ، و تناضل ضد الحرب كوسيلة لتصفية النزاعات ، و هذا يعنى عدم سعيها لخلق مؤسسات عسكرية بديلة ، و لكنها تتبني الممارسات الجماهيرية الواسعة النطاق التى تجعل مهمة هذه المؤسسات مستحيلة و وظائفها مشلولة. فماذا ستفعل أعتى الجيوش مثلا أمام إضراب شامل عن العمل و ماذا ستفعل أجهزة الدولة بكل جبروتها فى موجهة عدم التعاون الجماهيرى الواسع مع الأجهزة الحكومية ، والتى تشارك فيه الغالبية الساحقة من المقهورين شرط عدم وجود كاسرى الإضراب أو المتعاونيين معها .
بعد توضيح الموقف اللاسلطوى من الإرهاب والعنف والحرب عموما، يبقى لنا معرفة ما يستند إليه هذا الموقف من أسباب.
العنف على سبيل المثال الذى يقرنه البعض عن صيبيانية بالثورية والبطولة و التحرر هو غالبا مجرد قناع براق كبير، يخفى نوازع التسلط والإجرام والخداع و الاستعباد ، و هو و إن كان قابلة التاريخ حقيقة ، فأنه ليس الوسيلة الملائمة للتحرر النهائى التى تنشده اللاسلطوية ، حتى و إن كان من أهم وسائل التغيير الاجتماعى على وجه العموم ، ذلك لأن العنف لا يمارسه إلا من يستطيعونه من القادرين على حمل السلاح والمهيئين لذلك جسديا ونفسيا و هم قلة من البشر دائما ، وهؤلاء لابد و أن يخضعوا لتراتبية عسكرية ، تصبح الطاعة العمياء لمن هم أعلى والاستبداد بمن هم أسفل هو قانونها الأساسى ، ففى ظل الصراع المسلح لا يملك أحد ترف الاختلاف و المناقشة ، ويكون الاحترام لمن يملك القوة و السلطة لا لمن يملك الحق ، هو القاعدة المسلم بها من الجميع بعكس النضالات اللاعنيفة التى تعتمد على المبادرات الفردية والجماعية ، و التى تسمح بالتنوع فى الممارسات والأفكار ، وتسمح بالاختلاف و المناقشة وتعتمد على الاقتناع والتمرد على القوة واحتقارها ، و ليس الطاعة العمياء والخضوع للقوة وعباداتها ، وممارسات اللاعنف لا يمكن أن تمارس أو أن تصيب أى قدر من النجاح إلا بتوافق إردات وأفعال كل المشاركين فى هذا النوع من النضال بعكس ممارسات العنف .
و والأهم فأن من يمارسون العنف المنظم وهم القلة المسلحة ، سيصبح لهم بحكم تملكهم وسائل الإكراه المادى ، السيادة على من لا يملكون تلك الوسائل من الغالبية غير المسلحة ، و من ثم سيحوزون على الامتيازات بحكم هذه السيادة وبحكم تاريخهم فى التضحيات فضلا عن آليات عبادة البطولة و القوة التى تنخدع بها الجماهير عموما .. هذا هو قانون البلطجة الذى صبغ كل التاريخ البشرى المكتوب ( من يملك القوة المسلحة يملك الحق فى الحكم على من لا يملكوه ، وانتزاع الفائض الاجتماعى من منتجيه ) ، وإذا كان التحرر الحقيقى هو نفى للبلطجة من المجتمع البشرى ، فلابد وأن يكون الطريق إليه ليس باستبدال من يحتكرون العنف من مؤسسات كالجيش والشرطة بآخرين يرفعون شعارات التحرر ويدعون تمثيل الجماهير والدفاع عنهم بصرف النظر عن النوايا الطيبة التى قد تكون لديهم . وإنما لن يتأتى التحرر سوى بفعل جماعى منظم من المقهورين قادر على إصابة كل آلة العنف بالشلل . فعل ينهى العنف والقهر والإرهاب من العلاقات البشرية ، كما لا يمكن أن يأتى التحرر عن طريق الإرهاب والعنف ، لأن من يمارسهما يحتكر مصدر مادى هام للسلطة يفرض به مشيئته على من لا يملكه ، وهى إمكانية يحتكرها البعض بطبيعتها ، فليس كل إنسان قادر على ممارسة العنف ، سواء نفسيا أو بدنيا ، ومن ثم فهى ليست وسيلة للتحرر بقدر ما هى وسيلة لإحلال نخبة حاكمة محل أخرى ، فاللاسلطوية هى القضاء على قانون الغابة الحاكم لتاريخ البشرية رغم تحضرها ، و الذى ينص على أن من يملك وسائل العنف قادر على فرض إرادته على من لا يملكوه .
المستنقع الذى يتورط فية الثوريون الذين يمارسون العنف النخبوى و السلطوى المنظم، أنهم يكتشفون مدى اتساع تكلفته المالية بمرور الوقت ، فهم يحتاجون للسلاح والطعام وغيرها من المؤن للاستمرار فى ممارسة أنشطتهم ، فنجدهم يتورطون تدريجيا فى أعمال إجرامية من أجل تمويل نشاطهم بحجة أنها أعمال ثورية ، بدأ من سرقة البنوك ، لخطف الأشخاص و وسائل النقل من أجل الفدية المالية ، ومن جمع الأتاوات والضرائب من الجماهير الخاضعين لسيطرتهم ، و انتهاءا بأعمال تهريب و إنتاج المخدرات وغيرها ، فعلى سبيل المثال فقد تحولت حركة فاراك اليسارية فى كولومبيا لمجرد عصابة من عصابات تجارة المخدرات تجبر الفلاحين على زراعة الكوكا فى المناطق التى تسيطر عليها وتتعامل مع كارتل "مادلين" لتجارة الكوكايين كأحد شركاء الكارتل الإجرامى ، وفى الوقت نفسه فإن كل من تنظيم القاعدة و طالبان والتحالف الشمالى الافغانى تبادلوا السيطرة على زراعة وتجارة الأفيون فى أفغانستان و الذى تشكل 70 من الإنتاج العالمى للأفيون طوال فترة الحرب الأهلية. و ذلك برغم أيديولوجيتهم الإسلامية التى تحرم إنتاجها واستهلاكها والتجارة فيها و لكن للضرورة أحكام . كما أن توفير السلاح يحتاج للتعامل ومن ثم التحالف مع عالم الجريمة المنظمة و المخابرات المختلفة للدول التى تجد فى مصلحتها دعم العنف والإرهاب ، مما يفتح الباب واسعا للفساد و الانزلاق لعالم الجريمة والعمل لصالح الحكومات المختلفة و أخيرا الاسترزاق بالعنف من أجل توفير التمويل والسلاح كما فعل كارلوس .
وجدير بالذكر أن النماذج الناجحة الأولى فى الصين وكوبا وفيتنام التى قد تجذب الكثير من الرومانسيين ، و التى لم تتورط فى مثل هذه العمليات على هذا النحو الفاضح ، كانت تعتمد فى دعمها المادى والتسليحى على دولة الاتحاد السوفيتى ثم الاتحاد السوفيتى والصين فيما بعد ، والأهم من توافر التمويل ، هو انخفاض تكلفة العنف نسبيا فى الوقت الذى مورست فيه تلك التجارب الناجحة الأولى فى مواجهة مستوى معين من تسليح و خبرات العدو الذى حاربته ، والتى لم تكن قد تطورت بعد فى مواجهة هذا النوع من التمرد ، فمع ازدياد خبرات الجيوش النظامية فى مواجهة حرب الفدائيين و الإرهاب ، أصبحت هذه الممارسات أكثر تكلفة وصعوبة ، مما يستدعى المزيد من الدعم و التمويل ، و فى ظل ندرة مثل هذا الدعم وتزايد خبرات ومستويات تسليح الجيوش النظامية ، فإن لجوء الفدائيين والإرهابيين لعالم الجريمة يصبح هو الأسهل وخصوصا بعد تباعد الوصول للنصر مثلما حدث لفاراك ، وما بين التحول من الثورية للجريمة أو العكس مجرد شعرة من المبادىْ يمكن قطعها أو وصلها وفق الأغراض الانتهازية . وخصوصا أن أصحاب النفسيات والعقليات الإجرامية والانتهازية يجدون فى مثل تلك التشكيلات المسلحة المتمردة التى ترفع الشعارات البراقة والشريفة فرصة لكى يغسلوا ماضيهم الإجرامى ، أو أن يخفوا نوازعهم الإجرامية و دوافعهم الانتهازية بأكاليل البطولة والثورية الزائفة والتى قد تجلب لهم الاحترام والنفوذ والسلطة بأفضل السبل ، وكثيرا ما تذوب الفواصل ما بين المجرم والثائر حين يصبح الاحتكام للقوة هو القانون فى علاقات زملاء الكفاح ومع أعدائهم . وفى علاقات المسلحين مع الجماهير العزلاء التى يدعون تمثيلها والدفاع عنها .
العنف المنظم لا يحتاج لتكوين نفسى محدد فحسب لا يتوافر لدى كل البشر ، وإنما مع ممارسته الفعلية والتمادى فيه مع الوقت ، فأنه يدمر ويشوه ويخرب من يمارسونه نفسيا وعقليا وجسديا ، مثلما يدمر ويخرب ويشوه من يمارس عليهم أو يتعرضون له اضطرارا سواء بسواء ، فالاعتياد على مشاهدة القتلى والجرحى و مظاهر الدمار المختلفة ليس بالأمر المساعد على التطورالأفضل للبشر و لا بالمستحب لصحتهم النفسية و العقلية ، حيث يصاب مرتكبى و ضحايا العنف على السواء بتبلد المشاعر الراقية والمرهفة المميزة للبشر عن عالم الحيوان ، فضلا عن الكثير من الاضطرابات النفسية و العقلية .
و إذا كان السفاح الصهيونى مناحيم بيجين والحائز على جائزة نوبل للسلام قد قـال يوما : " إنى أحارب إذا فأنا موجود " فأننا نقول أن هذا الوجود الوحشى البائس جدير بحيوانات الغابة وليس البشر كما ينبغى أن يحيوا ، فالعنف يقربنا كثيرا من هذا الوجود الوحشى والبدائى الذى لا يعبأ بقدسية الحياة و لا بحقوق الإنسان ، و الذى يبرز أسوء ما فيهم من سلوكيات ومشاعر ، فى حين أن اللاعنف يعطيهم نوعية أفضل و أرقى من الوجود الإنسانى ويطور أفضل ما فيهم من سلوكيات ومشاعر ، فممارسات اللاعنف تبعدهم عن الغابة وقوانينها التى يدفعهم إليها العنف. وعلى مستوى آخر فأنه فى حين يصاب معظم الممارسين لتجارب العنف و الحرب و الإرهاب ، بأمراض نفسية وعقلية مختلفة الدرجة نتيجة العنف والخراب والتدمير الذى يمارسونه على الآخرين أو يمارس عليهم أو يشاهدونه ، فإن من يمارسون اللاعنف تتحسن صحتهم النفسية والعقلية نتيجة التغلب على الخوف من آلة العنف والقهر بالتضامن والتحدى الجماعى لمن يملكونها و نجاحهم فى إفقادها لفاعليتها حين لا تجدى فى مواجهة فعلهم الجماعى المنظم.
فالحركة الوطنية الهندية لم تطرد الإنجليز من درة تاجهم و إمبراطوريتهم بالعنف المسلح ، و من ثم نلاحظ أن الهند هى الوحيدة من بين كل دول العالم الثالث تقريبا التى لم تجرب استبداد الزعماء الوطنيين بشعوبهم فى حدود علمى ، وما زالت تمارس الديمقراطية البورجوازية رغم كل ما يحمله المجتمع الهندى من مشاكل وتناقضات ، برر ما هو أقل منها بما لا يقاس أشد أنواع القهر والاستبداد . ، ولعل التفسير المقبول أن الحركة الوطنية الهندية هى الوحيدة التى أبدعت المقاومة السلمية للمستعمر ، و ربما كان هذا بسبب ثقافة تقدر وتقدس قيمة الحياة فلا تؤذى أى كائن يملكها حتى ولو كان حشرة فما بالك بإنسان ، إلا أن هذا لا يعنى أن المجتمع الهندى لا يعرف العنف على الإطلاق ، فقد قتل المهاتما غاندى على يد متعصب هندوسى تربى أصلا على عدم إيذاء أى كائن حى و تعصب لما تلقاه من تلك الثقافة ، فإذ به يقتل شخص فى مقام غاندى الذى كرس حياته لترسيخ اللاعنف فى العلاقات الإنسانية وهو جوهر تلك الثقافة نفسها . و فى هذا إشارة عامة على محدودية الأثر الثقافى عموما . و لا يجب أن ننسى أن الستالينية فى الاتحاد السوفيتى وشرق أوروبا لم تسقط بالعنف ، وقد واجهت القوى الديمقراطية أعتى أشكال الدولة استبدادا وجبروتا ، وسقطت تلك الدول عبر العصيان المدنى كما تتساقط قصور الرمل بفعل الأمواج. وتحطم سور برلين وتوحدت الألمانيتين فورا رغم اختلاف النظامين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، وتفاوت مستوى المعيشة ونوعية الحياة فى كل منهما ، بفضل اقتحام الجماهير العزلاء للسور وتحطيمه رغم كل آلة العنف التى كانت تحرسه .
فى فترة مراهقتى المبكرة ، قرأت عن شخصيتين مختلفتين فى ممارستهما النضالية ، وقد تأثرت بهما للغاية ، و تمنيت أن أحذو حذوهما فى فترات قصيرة من حياتى المبكرة .
أحدهما وهى غاندى وقد أنزوت سريعا من عقلى كمجرد فكرة عابرة لم تساعدها الأفكار والثقافة السائدة المحيطة بى فى أن تثبت لوقت كاف لفهمها على النحو الصحيح ، وقد تم ذلك لصالح بروز الثانية وهى جيفارا متوهما وفق الأفكار والثقافة السائدة بأفضلية النهج الجيفارى عن نهج غاندى ، و ثورية جيفارا بالنسبة لغاندى اللاثوري ، فالثورية و الدموية قرينان فى أذهان الرومانسيين السذج الذين يتوهمون أن كل فعل احتجاجى و كل تمرد ضد سلطة قائمة بالفعل هو فعل ثورى و تقدمى وتحررى غافلين على أنه يمكن أن يكون تمهيدا لما هو أسوء تسلطا ورجعية ، ومن ثم قيل لى أن طريقة غاندى كانت بردا وسلاما على الأمبراطورية البريطانية فى الهند ، و كأن الدموية فى حد ذاتها هدفا ، ومع النضج العقلى أخذت تنزوى صورة جيفارا تدريجيا و تحول التقديس الرومانسى لشخصيته الساحرة ، لشك وريبة فى منهجه العنيف ، وقد تم ذلك لصالح تعاظم صورة غاندى بعد أن اتضحت لى عيوب الجيفارية الخطيرة وتناقضها الجذرى مع أيديولوجيا التحرر اللاسلطوى ، و اتضحت لى صورة الغاندية كنمط من الممارسة لا تتناقض مع اللاسلطوية كأفضل السبل للتحرر.
ولم يكن هذا هو الاكتشاف هو الوحيد ، فقد اكتشفت أيضا أن ثقافة وأيديولوجيات العنف السائدة قد ساعدت على انزواء أفكار الإضراب العام اذى نظرت له كل من روزا لوكسمبورج وتلاميذها من شيوعيو المجالس ، فضلا عن مفكرى اللاسلطوية النقابية ، وذلك باعتبار هذا الإضراب وسيلة أساسية للتغيير الاجتماعى ، وباعتباره السلاح الأنسب للاسلطويين فى مواجهة كل من الدولة و الرأسمالية على السواء ، وكان هذا الإنزواء لمثل هذه الأفكار عبر التاريخ أيضا بسبب النفوذ الكاسح لللينينية ومدارسها الفرعية المختلفة فى الحركات اليسارية المختلفة ، التى تبنت على اختلافاتها الإرادية والاستبدالية و النخبوية والعنف و الانقلابية العسكرية أحيانا ، متخلية عن مبدأ التحرر الذاتى للمقهورين والمستغلين والذى يعنى إن جماهير المحرومين من السلطة بسبب حرمانهم من مصادرها هم وحدهم القادرين على تحرير أنفسهم ذاتيا دونما حاجة لمن ينوب عنهم أو يتحدث باسمهم أو يمثلهم و يمارس وصايته عليهم لينتهى الأمر باستغلالهم وقهرهم باسم هذا التمثيل المزعوم و الإنابة الزائفة.
وقد آن الأوان أن يستعاد هذا التراث الإنسانى العظيم فى مواجهة أيديولوجيات وثقافات العنف السائدة . فالحرية الحقيقية لا يمكن أن تنبع من فوهة البندقية كما يبشر بذلك الدمويون من الثوريون السلطويون ، وإنما ربما تنبع من مغزل وعنزة غاندى كرمز للتحرر الذاتى فى كثير من الأحيان كما يبشر بذلك الإنسانيون من الثوريون اللاسلطويون .
للاتصال
[email protected]
[email protected]