سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1835 - 2007 / 2 / 23 - 12:00
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من نقاط الخلاف الأخرى التي وقف عليها بعض الباحثين من العرب والأوربيين في حياة شاعرنا ، يحيى بن حكم الغزال ، هو العدد الفعلي للرحلات التي قام بها الشاعر الى خارج بلاد الأندلس بتكليف من البلاط الأميري في مدينة قرطبة على زمن الأمير الأموي عبد الرحمن الثاني ( الأوسط ) ، أو بغير تكليف من ذاك البلاط ، فقد جاء في أخبار الشاعر أن أول رحلة له كانت الى المشرق العربي ، والى العاصمة بغداد على وجه التحديد ، وقد ذكر أن أسباب هذا الرحيل هو هجوه لأبي الحسن ، علي بن نافع ، الملقب بـ ( زرياب ) ، وذلك بعد وصول زرياب الى قرطبة من بغداد في الأيام الأولى من حكم الأمير عبد الرحمن الثاني الذي حكم الأندلس بعد وفاة أبيه ، الحكم ، سنة 206 للهجرة ، حيث احتفى به الأمير احتفاءً كبيرا ، وأسكنه في دار أحد رجال دولته ، وهو نصر الخصي الذي قتله من قبل بعد أن تآمر عليه . ورغم أن هجاء الغزال في زرياب لم يصلنا ، إلا أنه وصلت لنا قطعة شعرية كان الغزال يشمت فيها من ميتة نصر الخصي هذا ، ويصف انقلاب الدهر عليه فيها ، بعد أن صار قصره بحدائقه الغناء من نصيب زرياب ، فيقول :
ذكر الناس دار نصر لزريا ( م ) ب ، وأهلٌ لنيلها زريابُ
هكذا قدر الإله وقد تجـ (م ) ري بما لا تظنه الأسبابُ
وعلى إثر هذا الهجاء أمر الأمير بنفي الشاعر عن الأندلس ، ولكنه تراجع عن قراره هذا بعد أن توسط للشاعر عنده أكابر دولته ، فعفا عنه ، ومع ذلك لم يطب للغزال المقام في قرطبة ، فرحل الى العراق ، وقد حُدد تاريخ الرحيل هذا بعد موت الشاعر أبي نواس ، الحسن بن هاني ، بمدة يسيرة ، مثلما هو عند ابن دحية .(1) وإذا ما علمنا أن سنة وفاة أبي نواس كانت هي 195هـ على رواية ، أو سنة 198هـ على رواية أخرى عرفنا أن ( المدة اليسيرة ) تلك تقع ما بين أحدى عشرة سنة على الرواية الأولى ، أو ثماني سنوات على الرواية الثانية ، وذلك لأن رحيل الشاعر ، الغزال ، حدث سنة 206هـ ، وهي السنة التي تولى فيها الأمير عبد الرحمن الثاني الحكم ، وهي ذاتها التي حل فيها المغني الشهير ، زرياب ، مدينة قرطبة ، وصار واحدا من حاشية الأمير المذكور ، وبعبارة أخرى هو أن عمر الشاعر كان خمسا وثلاثين سنة وقت رحليه هذا ، وذلك بحساب أن سنة ولادته كانت في سنة 171هـ ، مثلما ذكرت أنا ذلك في الحلقة الأولى من هذه المادة . والذي يعزز هذه النتيجة هو أن الشاعر يحيى بن حكم الغزال كان قد سمع ، وهو في الأندلس ، قصيدة المدح التي قالها الشاعر أبو نواس في الخصيب ، أمير مصر ، والتي استهلها بوصف رحلته من بغداد الى القاهرة ( الفسطاط ) بعد أن كان قد وجه حديثه في الأبيات الأولى منها الى امرأة نجهل هويتها نحن ، فيقول :
أجارة بيتينا أبوك غيورُ ........ وميسور ما يُرجى لديك عسيرُ
ومنها :
تقول التي عن بيتها خف مركبي .... عزيز علينا أن نراك تسيرُ
أما دون مصر للغنى متطلب ....... بلى إن أسباب الغنى لكثيرُ ( 2)
ورغم أننا لا نملك تاريخا محددا لرحلة أبي نواس تلك ، إلا أنها وقعت بتاريخ قريب الى وقوع نكبة البرامكة في الأول من شهر صفر سنة 187هـ = 29 يناير 803 م ، ولهذا نجد أن الغزال قد عارض قصيدة أبي نواس الشهيرة تلك بقصيدة على نفس الوزن والقافية والروي ، موجها خطابه في أبياتها الى امرأة هي زوجته التي كانت تلومه على ترحاله ، فيقول :
جعلتُ أراجيها إيابي ومن غدا .......... على مثل حالي لا يكاد يحورُ
وإن مقامي شطر يوم بمنزل ٍ ............. أخاف على نفسي به لكثيرُ
وقد يهرب الإنسان من خيفة الردى ...... فيدركه ما خاف حيث يسيرُ
وإن كنت تبغين الوداع فبالغي .......فدونك أحوال - أرى - وشهورُ (3)
ويقول عنه ابن دحيه في مطربه : ( وأقام الغزال في رحلته تلك مدة يجول في ديار المشرق ، وما انفك في كل قطر منه من غريبة يطلعها ، وطريقة يبتدعها ، ثم أنه حن الى مسقط رأسه ، وانصرف الى الأندلس ، وهو قد ترك شرب الخمر ، وتزهد في الشعر ، وشارف الستين ، وركب النهج المبين ... )(4)
ويروي ابن دحية كذلك عن لهج العراقيين بذكر أبي نواس بعد موته في الوقت الذي نزل عندهم يحيى بن حكم الغزال ، فيكتب ( فوجدهم يلهجون بذكره ، ولا يساوون شعر أحد بشعره ، فجلس يوما مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس ، واستهجنوا أشعارهم ، فتركهم حتى وقعوا في ذكر الحسن* ، فقال لهم من يحفظ منكم قوله :
ولما رأيت الشرب أكدت سماؤهم ...... تأبطت زقي واحتسبت عنائي
فلما أتيتُ الحان ناديتُ ربه ............ فهب خفيف الروح نحو ندائي
فقلت أذقنيها فلما أذاقني ............... طرحتُ له ريطتي** وردائي
بعد ذلك يكتب ابن دحية أغلب أبيات القصيدة تلك ، ويضيف : ( فأعجبوا بالشعر ، وذهبوا في مدحه كل مذهب ، فلما أفرطوا قال لهم : خفضوا عليكم فإنه لي . فأنكروا ذلك . فأنشدهم قصيده الذي أوله :
تداركت في شرب النبيذ خطائي ...... وفارقت فيه شيمتي وحيائي )(5)
والحقيقة أن قصيدة الغزال هذه التي امتحن بها العراقيين قد نهجت نهج قصيدة مدح أبو نواس بها الخليفة هارون الرشيد ، ولكنه بدأها بمقدمة خمرية ، مسفها في بدايتها على عادته الوقوف على الأطلال فيقول :
لقد طال في رسم الديار بكائي .........وقد طال تردادي بها وعنائي
فلما بدا لي اليأس عديت ناقتي ......عن الدار واستولى علي عزائي
الى بيت حان لا تهر كلابه ............ علي ولا ينكرن طول ثوائي
فإن تكن الصهباء أودت بتالدي ......... فلم توقني أكرومتي وحيائي
فما رمته حتى أتى دون ما حوت ...... يميني حتى ريطتي وحذائي (6)
وعلى هذا يبدو أن شاعرنا الغزال كان قد قرأ جل شعر أبي نواس ، وهو في ريعان الشباب ، وقبل أن يمتنع عن معاقرة الخمرة التي باع في شربها عباءته ( ريطتي ) ورداءه ، تماما مثلما باع قبله الحسن بن هاني في شرب الخمرة عباءته وحذاءه ، ولو كان ابن دحية قد اطلع على ديوان أبي نواس كله لما جعل الشاعر الغزال يفاخر بقصيدته هذه في بغداد ، ولا حتى في مصر ، مثلما نصت روايات أخرى على ذلك ، ولوجد أن الغزال كان يحاول من خلالها مجارة أبي نواس فيما يكتبه ، وهذا ما تفصح عنه قصيدتا الغزال التي نقلت أنا بعضا من أبياتهما هنا . وسواءً كان الغزال نفسه قد فاخر بقصيدته تلك في العراق ، أو فاخر بها شخص آخر غيره مثل سعيد بن أحمد بن خالد في مصر (7) فإن هذا يدل على أن يحيى بن حكم الغزال كان قد رحل الى المشرق في سياحية ، ومن دون أن يكلفه أحد القيام برحلته هذه التي زار فيها أكثر من قطر عربي مشرقي ، والتي هي واحدة من ثلاث رحلات قام بها هو ، وكانت محل خلاف بين الباحثين العرب والأوربيين ، مثلما أسلفت ، خاصة رحلته الى القسطنطينية ، ورحلته الى شمال الأرض حيث ديار القراصنة في الدول الإسكندنافية ، والتي سيأتي عنهما الحديث لاحقا .
= = = = = = = = = = =
1- المطرب من أشعار أهل المغرب ص148.
2- ديون أبي نواس ، الحسن بن هاني ص 480.
3- ديوان الغزال ، يحيى بن حكم ص54 ، والقصيدة غير كاملة الأبيات ، وقد نقلها جامع الديوان من أكثر من مصدر ، وهي والحالة هذه مبعثرة ، تحتاج الى تنظيم ما وجد من أبياتها من جديد .
4- المطرب من أشعار أهل المغرب ص 149.
* الحسن : هو أبو نواس ، الحسن بن هاني .
** عباءتي . ويلاحظ أن الشاعر الغزال يستعير ، بالإضافة الى معنى الأبيات ، بعض الكلمات التي صاغ بها أبو نؤاس أبيات قصائده .
5- ديوان الغزال ، يحيى بن الحكم ص 148.
6- ديون أبي نواس ، الحسن بن هاني ص 402. ولأبي نواس في هذه القصيدة أبيات في وصف الخمرة رائعة لم يستطع الغزال الدنو منه في قصيدته الخمرية المذكورة هنا ، والأبيات هي :
وكأس ٍكمصباح السماء شربتها ............. على قُبلة أو موعد بلقاء.
أتت دونها الأيام حتى كأنها ............. تساقط نور ٍ من فتوق سماء.
ترى ضوءها من ظاهر الكأس ساطعا ..... عليك وإن غطيتها بغطاء.
7- ديوان الغزال ، يحيى بن حكم ص28.
#سهر_العامري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟