|
|
العراق: هشاشة الدولة وأزمة الهوية الوطنية
عادل الدول
كاتب
(Adil Al Dool)
الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 01:04
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
دراسة سوسيولوجية تاريخية في جذور الانقسام المجتمعي ________________________________________ مقدمة تُعدّ الدولة العراقية الحديثة واحدة من أكثر التجارب السياسية تعقيدًا في المنطقة العربية، إذ لم تنجح منذ تأسيسها عام 1921 في بناء هوية وطنية جامعة قادرة على تجاوز الانتماءات الأولية الطائفية والعشائرية والإثنية. وعلى مدى قرن كامل من الزمن، ظلت الدولة العراقية تتأرجح بين محاولات فرض المركزية بالقوة، وبين انفجارات دورية للهويات الفرعية التي تُعيد إنتاج الانقسام المجتمعي. تسعى هذه الدراسة إلى تحليل الجذور التاريخية والسوسيولوجية لهشاشة الدولة العراقية، من خلال استقراء المسار التاريخي منذ القرن السابع عشر وصولًا إلى الوضع الراهن، مع التركيز على العوامل البنيوية التي حالت دون نشوء وعي وطني متماسك.
القسم الأول: التاريخ العنيف والانقطاع الحضاري الأرض التي قامت عليها الدولة الحديثة لم تنشأ الدولة العراقية الحديثة على أرض مستقرة أو مجتمع متماسك، بل على طبقات من التاريخ العنيف المليء بالمجاعات والأوبئة والفيضانات والغزوات المتعاقبة. فطوال القرون الثلاثة التي سبقت تأسيس الدولة، لم يشهد العراق دورة حضرية طويلة أو تراكمًا مؤسسيًا متصلًا، بل كان كل جيل يبدأ من الصفر تقريبًا قبل أن تجرفه كارثة جديدة. يقدّم المؤرخ حنا بطاطو، استنادًا إلى مصادر تاريخية متنوعة، سجلًا موثقًا لحجم الانقطاع الذي عاشه المجتمع العراقي. فبين عامي 1621 و1899، تعرّض العراق لسلسلة متواصلة من الكوارث: مجاعة 1621، الاحتلال الفارسي الدموي عام 1632، أوبئة 1633 و1802 و1822 و1831، فيضانات متكررة، حصار عام 1733 الذي أودى بحياة أكثر من مئة ألف شخص جوعًا، حرب أهلية 1777-1778، وكارثة 1831 التي انخفض فيها عدد سكان بغداد من 80 ألفًا إلى 27 ألفًا فقط. الدلالة السوسيولوجية للكوارث المتعاقبة لم تكن هذه الأحداث مجرد إحصاءات في كتب التاريخ، بل شكّلت البنية العميقة للوعي الجماعي العراقي. فقد أنتجت قرون الكوارث مجتمعًا تتحكم به آليات البقاء والنجاة أكثر من آليات التنظيم المدني، وتُبنى داخله الثقة على أساس العصبية والقرابة لا على المؤسسات الحديثة، وتتقدم فيه رابطة الدم على رابطة القانون. دمّر هذا الإرث التاريخي فرص نشوء طبقة وسطى مستقرة، وأعاق تراكم الحرف والصناعات والأسواق، وأبقى المجتمع في حالة تأرجح دائم بين الريف والبادية والمدينة. وحين جاءت الظروف الدولية لتفرض تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مطلع القرن العشرين، كانت الأرض الاجتماعية منهكة ومنزوعة الجذور المدنية.
القسم الثاني: مراحل الدولة العراقية وأزمة الشرعية أولًا: الدولة الوليدة وبذور الأزمة (1932-1941) مع انتهاء الانتداب البريطاني واستقلال العراق رسميًا عام 1932، دخلت البلاد مرحلة سياسية مضطربة تميّزت بعدة خصائص: • صراع النخب: تنافس حاد بين النخب الحضرية والريفية، مع احتقان طائفي كامن لم يُعلن رسميًا. • التنازع على السلطة: صراع بين الدولة المركزية الناشئة والعشائر على الهيبة والنفوذ. • محدودية السيادة: استمرار التدخل البريطاني الذي شكّل سقفًا للسيادة الوطنية. • عدم الاستقرار السياسي: تعاقب حكومات قصيرة العمر وانقلابات عسكرية، أبرزها انقلاب بكر صدقي عام 1936. تمثلت الحادثة الفارقة في هذه المرحلة في مجزرة سميل ضد الآشوريين عام 1933، التي كانت التعبير الأول عن هشاشة الدولة وعجزها عن إدارة التنوع الإثني والديني. فقد واجهت الحكومات العراقية المتعاقبة مطالب الأقليات القومية بالعنف لا بالحوار، ولم تُطرح الإصلاحات إلا بوصفها تنازلات قسرية أو تكتيكات مرحلية، دون أي رغبة حقيقية في بناء دولة تعاقدية تمثل جميع مكوناتها. ثانيًا: صراع الشرعيات المتعددة (1941-1958) خلال الحرب العالمية الثانية، دخل العراق في صدام مباشر بين مراكز شرعية متنافسة: 1. الشرعية الملكية المدعومة بريطانيًا (الوصي والملك). 2. الشرعية الوطنية-القومية التي تمثلت بحركة رشيد عالي الكيلاني. 3. الشرعية العسكرية حيث بدأ الجيش يظهر كفاعل سياسي مركزي. أنتج هذا الانقسام انقلاب مايس 1941، ثم إعادة الاحتلال البريطاني، وأحداث الفرهود ضد يهود بغداد، التي مثّلت أول تشظٍّ مجتمعي واسع يظهر إلى العلن. جاءت بعد ذلك انتفاضة الوثبة عام 1948، وحركة الإصلاح عام 1952، وكلاهما عبّر عن فشل النظام الملكي في إنتاج عقد اجتماعي شامل. فقد كان المجتمع ينفجر دوريًا لأن الدولة بقيت "أداة سلطة" لا "أداة وطن". ثالثًا: الجمهورية الأولى - من الثورة إلى الفوضى (1958-1968) أطاح انقلاب 14 تموز 1958 بالملكية، لكنه لم ينجح في تأسيس دولة جمهورية مستقرة، بل أعاد إنتاج أزمة الشرعية في شكل جديد: • الصراع الأيديولوجي الدامي: تنافس حاد بين القوميين والشيوعيين، وصل إلى حد العنف المسلح عام 1959. • تسييس المؤسسة العسكرية: تحوّل الجيش إلى أداة للصراع السياسي بدلًا من حماية الدولة. • التدخل الإقليمي: معارضة عربية لعبد الكريم قاسم، خاصة من مصر الناصرية. • الانقلابات المتعاقبة: سلسلة من الانقلابات بين 1963 و1968 زادت من هشاشة المؤسسات. في هذه المرحلة، تخلى المجتمع عن الدولة، وتخلت الدولة عن المجتمع. وبدأت الهوية الوطنية العراقية تتحول من مشروع جامع إلى "هوية متصدعة" تُستخدم كأداة تعبئة مؤقتة. رابعًا: الجمهورية الثانية - الدولة الشمولية (1968-2003) استطاع حزب البعث بناء دولة قوية، لكنها لم تكن وطنية بالمعنى المجتمعي، بل "دولة أمنية مركزية" قائمة على: • عسكرة المجتمع وتسييسه بالكامل. • تأليه الزعيم وتمركز السلطة في شخص واحد. • القضاء على جميع أشكال المعارضة السياسية. • إعادة هندسة المجتمع من فوق وفق رؤية أيديولوجية واحدة. في عهد صدام حسين (1979-2003)، تضخمت الدولة حتى أصبحت مركز كل شيء: الاقتصاد، الإعلام، الجيش، الهوية. لكنها في الوقت نفسه أنتجت واحدة من أكثر البيئات احتقانًا في المنطقة، بسبب: • الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988). • مجازر الأنفال ضد الأكراد. • قمع الانتفاضة الشعبانية عام 1991. • الحصار الاقتصادي وانهيار الطبقة الوسطى. في هذه المرحلة، ترسّخ "الولاء القسري"، وذابت الوطنية الحقيقية في دولة الفرد الواحد. خامسًا: ما بعد 2003 - تفكك الدولة وصعود الهويات الفرعية دخل العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 مرحلة جديدة تمامًا: انهيار الدولة الشمولية دون وجود مؤسسات بديلة. برزت عدة ظواهر: • الطائفية السياسية كآلية لتوزيع السلطة والموارد. • الميليشيات المسلحة كبديل عن مؤسسات الدولة الأمنية. • إحياء الولاءات العشائرية كشبكات حماية اجتماعية. • التدخل الإقليمي الواسع من إيران وتركيا والخليج والولايات المتحدة. • اقتصاد الفساد بدل اقتصاد الدولة المنظم. أصبح المواطن العراقي يعيش في فضاء "ما بعد الدولة"، حيث برزت ثلاث هويات فرعية: 1. هوية طائفية مسلّحة تستمد قوتها من الميليشيات والأحزاب الدينية. 2. هوية قومية كردية شبه منفصلة في إقليم كردستان. 3. هوية وطنية متقطعة ظهرت في تظاهرات تشرين 2019 لكنها لم تتحول إلى مشروع سياسي ناجز.
القسم الثالث: التفسيرات السوسيولوجية لفشل الوطنية العراقية أولًا: الدولة لم تسبق المجتمع الدولة العراقية الحديثة لم تنشأ كنتيجة لتطور داخلي طبيعي، بل فُرضت من الخارج عبر اتفاقية سايكس-بيكو (1916) والانتداب البريطاني. أُعيد رسم الحدود وفُرضت سلطات مركزية على مجتمع متعدد الأعراق والطوائف والمذاهب، لم يكن موحدًا تاريخيًا أو سياسيًا. خلق هذا الشكل الخارجي لبناء الدولة فجوة بنيوية بين مؤسسات الدولة وسلوكيات المجتمع. فالدولة بقيت "سلطات" تركز على السيطرة والأوامر، لا "مؤسسات" تبني التوافق الاجتماعي وتوزع الخدمات بعدالة. النتيجة الطبيعية كانت: • تفكك الوظائف المدنية للدولة. • انتشار الولاءات القبلية والطائفية. • اعتماد الفرد على شبكاته المحلية بدلًا من الدولة. • ضعف شرعية الدولة وتحولها إلى أداة سيطرة. ثانيًا: الهويات الأولية أقوى من الهوية الوطنية في العراق، أثبتت الهويات الأولية—العشائرية والطائفية والمناطقية—قدرتها على الهيمنة على الهوية الوطنية. هذه الهويات لم تبقَ فقط كرموز ثقافية، بل تحولت إلى أدوات عملية للبقاء في بيئة سياسية واقتصادية مضطربة. العشيرة والطائفة والمنطقة أصبحت: 1. وسيلة حماية: توفر للفرد شبكة أمان أمام فشل الدولة في تقديم الخدمات الأساسية أو فرض القانون. 2. قناة توزيع الفرص: تُحدد الفرص الاقتصادية والسياسية عبر المناصب الحكومية وعقود الأعمال والنفوذ. 3. إطار معنى اجتماعي: تمنح الفرد إحساسًا بالانتماء والهوية في غياب مشروع وطني جامع. النتيجة: الولاء للهويات الأولية يتفوق على الانتماء الوطني، ليس بدافع ضيق الأفق، بل كنتيجة طبيعية لواقع تفرض فيه الدولة نفسها ضعيفة، والانتماء إليها لا يحقق الحماية أو المنفعة المباشرة. ثالثًا: السلطة تنتج الولاء لا الانتماء من الملكية إلى البعث إلى النظام الجديد، ظل المواطن العراقي "موضوع حكم" وليس "شريكًا سياسيًا". لم تُنتج التجربة السياسية العراقية انتماءً حقيقيًا، بل ولاءً مشروطًا بالسلطة والمصلحة. هذه الديناميكية أنتجت: • مواطنًا ضعيفًا: لا يملك حقوقًا حقيقية أو مشاركة فعلية في صنع القرار. • دولة ضعيفة: عاجزة عن أداء وظائفها الأساسية رغم امتلاكها أدوات القمع. • مجتمعًا قويًا: متماسك داخليًا عبر شبكات الولاء الصغيرة، لكنه مفكك وطنيًا.
القسم الرابع: هيمنة قيم الريف والبداوة على المدن العراقية من الحداثة الشكلية إلى انقطاع الجذور المدنية اقتصر مشروع التحديث في العراق منذ نشوء الدولة الحديثة على البنية الفوقية: التعليم، البيروقراطية، والمظاهر المدنية، دون أن يمس البنية القيمية والاجتماعية المتجذرة في الذهنية الريفية والقبلية. الدولة الملكية، رغم نخبويتها، حاولت تأسيس نموذج مديني، لكن الانقسام الطبقي الحاد بين الإقطاعيين والفلاحين، ثم بين المثقفين والعوام، أعاد إنتاج الفجوة بين "المدينة" و"الريف" بوصفها فجوة في الوعي لا في المكان. الطبقية الثقافية: عزلة النخبة وترييف الوعي ساهم المثقفون العراقيون، بوعي أو بدونه، في خلق طبقة ثقافية متعالية عن الجمهور. بدلًا من أن تكون الثقافة أداة تحرر، أصبحت وسيلة تمايز طبقي، فتشكلت "الطبقية الثقافية" التي جعلت الثقافة تُدرك كترف أو استعلاء، لا كحاجة إنسانية. قدّم الشيوعيون العراقيون نموذجًا نادرًا في دمج الثقافة بالحياة اليومية عبر نموذج "المثقف العضوي"، لكن انقطاعه العنيف مع صعود العسكر من أبناء الريف إلى السلطة حال دون اكتمال التجربة. من العسكرة إلى الترييف: سقوط المدينة مع انقلاب 1958، بدأ "ترييف" الدولة لا بمعناه الديموغرافي فقط، بل كعملية سوسيولوجية شاملة. القيم التي كانت تحكم الريف—الولاء، القوة، القرابة، الثأر، والفحولة—انتقلت إلى المدينة واحتلت مؤسساتها. بحلول عام 1979، اكتملت دورة الترييف: • تراجع العقل المدني وأدواته. • اندثرت التقاليد الثقافية والفنية. • أُبيدت النخب الفكرية أو هُجّرت. • خلا المشهد لطبقة جديدة من "المتريفين" احتكروا السياسة والإدارة والإعلام. التصحر الثقافي: من انقطاع المدينة إلى غياب المعنى "التصحر الثقافي" هو الوجه الاجتماعي لفقدان التوازن بين المدينة والريف، العقل والعضلة، الحوار والعنف. تحولت الثقافة العراقية من منبر للشعر والفكر والفن إلى صدى لخطاب سلطوي وبدوي. تراجعت اللغة الرصينة لصالح الخطاب الشعبوي، وانحسر الذوق العام، وتحول المثقف إلى كائن هامشي صامت أو مهاجر. انتهت المدينة بالمعنى السوسيولوجي، حين تحولت قيم القرية إلى معيار للهوية.
القسم الخامس: دور النقابات والجمعيات - من التأسيس إلى التهميش الجذور التاريخية للنقابات مع بدايات الدولة العراقية الحديثة، بدأت تتشكل البذور الأولى للتنظيمات المهنية والنقابية، مستندة إلى دستور 1925 الذي نصّ في مادته (12) على حرية الاجتماع وتأسيس الجمعيات. ظهرت: • نقابة المحامين (1918). • الجمعية الطبية (1921). • جمعية العمال (1928). • جمعية أصحاب الصنائع (1929). مرحلة النهوض العمالي (1946-1959) مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت مرحلة جديدة في الوعي العمالي العراقي. يُعد إضراب عمال النفط في كركوك عام 1946 علامة فارقة في تاريخ الطبقة العاملة والوعي الوطني. كان العمال يعانون ظروفًا قاسية: أجور متدنية (30-50 فلسًا يوميًا)، بينما يتمتع العمال الأجانب بامتيازات واسعة. فجّر هذا التفاوت إضرابًا شلّ عمل الشركة النفطية لمدة 12 يومًا. انتهى الإضراب بانتصار تاريخي: • رفع الأجور إلى 315 فلسًا. • توفير وسائط نقل للعمال. • وجبة غذائية يومية وصفيحة نفط شهريًا. • تخفيض ساعات العمل من 12 إلى 7 ساعات. • بناء المساكن العمالية. وحّد هذا الإضراب سكان كركوك—عربًا وكردًا وتركمانًا—وأفشل محاولات المستعمر البريطاني في تقسيمهم. في الخمسينيات، توسع النشاط النقابي بشكل غير مسبوق، وبعد ثورة 1958، اعترفت الدولة رسميًا بحقوق العمال النقابية، وانعقد أول مؤتمر تأسيسي للاتحاد العام لنقابات العمال عام 1959. الانحسار التدريجي وتفكيك البنية النقابية (1963-2003) مع تعاقب الانقلابات السياسية، بدأت الحركة العمالية بالتراجع. وفي عام 1978، صدر القرار 150 الذي حوّل العمال إلى موظفين حكوميين، في خطوة هدفت إلى تمييع دور النقابات وإسكات الأصوات المستقلة. في عهد صدام حسين، جرى تفريغ النقابات من مضمونها وتحويلها إلى أدوات للتعبئة الحزبية. ومع الحروب المتعاقبة والحصار، أضمحل وجود النقابات كقوة اجتماعية. النقابات بعد 2003: حضور شكلي وغياب وظيفي بعد 2003، لم تستطع النقابات استعادة دورها التاريخي، رغم وجود نحو 28 نقابة مركزية و30 اتحادًا حاليًا. ورغم امتلاكها استثمارات واسعة وأملاكًا في مواقع حيوية، فإن حضورها الميداني يكاد يكون معدومًا، وتطغى عليها الأدوار الشكلية والبيروقراطية.
القسم السادس: نحو إعادة تأسيس المدينة والوطن الخروج من زمن البداوة لن ينهض العراق إلا باستعادة مشروع "التمدين الثقافي"، عبر إعادة بناء الوعي الجمعي على أساس قيم المواطنة، احترام الاختلاف، سيادة القانون، والجمال. المدينة ليست جدرانًا ومبانٍ، بل "نظام علاقات عقلانية". وإذا استمرت العلاقات أسيرة العصبية والقرابة والزعامة الأبوية، فسيظل العراق يدور في حلقة الريف مهما تعاظمت الأبراج الخرسانية. آليات عملية لإعادة بناء الوعي الجمعي 1. تعزيز قيم المواطنة والاختلاف تعليم الأجيال الجديدة أن الانتماء للوطن فوق الانتماءات الضيقة، وأن التنوع مصدر قوة لا تهديد. 2. إعادة الاعتبار للقانون والمؤسسات تحويل العلاقة مع الدولة من الولاء الإجباري إلى الحقوق والواجبات المشتركة، بما يرسخ عقلية مدنية قائمة على النظام والعدالة. 3. إحياء الثقافة والفنون العامة توفير منصات للتفاعل الثقافي والفكري، بحيث تصبح الثقافة أداة حقيقية للتنشئة الاجتماعية، لا للتمايز الطبقي أو السيطرة السياسية. 4. إشراك المواطن في صناعة القرار تحريك النقابات والجمعيات والهيئات المدنية كمؤسسات حقيقية تعكس مصالح المواطنين، بعيدًا عن التحكم السلطوي أو المحاصصة الحزبية والطائفية. 5. كسر دوامة العصبية والقرابة نشر نماذج قيادية تحترم العقلانية والمنطق في إدارة شؤون المجتمع، بدل الزعامات الأبوية أو الولاءات العشائرية الضيقة. 6. بناء مؤسسات دولة قوية وعادلة تطوير مؤسسات دولة قادرة على تقديم الخدمات الأساسية (الأمن، التعليم، الصحة، العدالة) بشكل عادل ومتساوٍ لجميع المواطنين، بحيث تصبح الدولة هي المظلة الحقيقية للحماية، لا العشيرة أو الطائفة.
الخاتمة: من الوطن المؤجّل إلى المشروع الممكن لم يعد ضعف الانتماء الوطني في العراق مسألة أخلاقية أو نقصًا في الوعي الفردي، بل هو نتيجة طبيعية لمسار اجتماعي وسياسي أعاد تشكيل أولويات الفرد العراقي على مدى قرن من الزمن. حين تُدار السياسة بمنطق الطائفة، وتُحل النزاعات بمنطق العشيرة، ويُقاس الأمان بمدى قرب الفرد من جماعته لا من دولته، يصبح الوطن فكرة مؤجلة، وصوتًا خافتًا وسط ضجيج الانقسامات. المواطن المستقطَب والوطن الغائب إن المواطن المستقطب طائفيًا والمنحاز عشائريًا لا يملك ترف التفكير بالوطن؛ فمظلته الحقيقية لم تعد الدولة، بل شبكة الولاءات الصغيرة التي توفر له الحماية اليومية والبقاء الاقتصادي والأمان الاجتماعي. ومع دولةٍ تقف متفرجة أو عاجزة عن أداء وظائفها الأساسية—الأمن، العدالة، تكافؤ الفرص—يُدفع الفرد، قسرًا لا اختيارًا، إلى الاحتماء بأطر ما قبل الدولة. الوطن كمشروع وليس كشعار هكذا يتراجع الوطن إلى المرتبة الأخيرة في سلّم الانتماءات، ويتحول إلى شعار يُرفع عند الحاجة، لا إلى مشروع يُبنى بالإرادة المشتركة والعمل الجماعي. إن استعادة العراق تبدأ من هنا: من إعادة تعريف الوطن بوصفه رابطة مدنية لا تُصنع بالخطابات الحماسية أو الأناشيد الوطنية، بل تُشيَّد عبر: • مؤسسات عادلة تحمي الجميع دون تمييز. • ثقافة جامعة تحتفي بالتنوع وتبني جسور التفاهم. • مدينة قادرة على حماية قيمها من التصحر والترييف. • اقتصاد منتج يوفر الفرص المتكافئة بعيدًا عن المحسوبية. • قانون فوق الجميع يحل محل منطق الثأر والعصبية.
الدرس التاريخي والمسؤولية الراهنة لقد عاش العراق على هامش الحداثة الحقيقية منذ قيام الدولة الحديثة، فكانت المدينة مجرد واجهة، والحداثة زينة خارجية، بينما القيم الاجتماعية ظلت أسيرة الانقسام الطبقي والوعي الريفي والقبلي. لم تتحول الحداثة إلى مشروع متجذر قادر على إعادة تشكيل المجتمع، فاندثرت قيم المواطنة، وتحول العقل المدني إلى سلعة نخبوية، وصار الانتماء إلى الدولة فكرة مؤجلة أمام ولاءات ضيقة. الأمل الممكن رغم كل ذلك، لا يزال الأمل ممكنًا. فتظاهرات تشرين 2019 أظهرت أن جيلًا جديدًا من العراقيين يرفض منطق المحاصصة والطائفية، ويطالب بدولة حقيقية ووطن للجميع. هذا الجيل يحتاج إلى: • مشروع وطني واضح المعالم يتجاوز الشعارات إلى البرامج العملية. • نخبة ملتزمة ومتجذرة في المجتمع، لا معزولة عنه. • مؤسسات دولة قوية قادرة على حماية المواطن وتقديم الخدمات. • ثقافة مدنية جديدة تحترم التنوع وتؤمن بالحوار بدل العنف. ________________________________________
المراجع الأساسية • بطاطو، حنا (1999). الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق: من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ترجمة: عفيف الرزاز. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية. • الوردي، علي (1965-1976). لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. 6 أجزاء. بغداد: مطبعة الإرشاد. • فياض، عبد الله (1990). الثورة العراقية الكبرى. بغداد: وزارة الثقافة والإعلام. • الحسني، عبد الرزاق (1953-1958). تاريخ العراق السياسي الحديث. صيدا: مطبعة العرفان. • قانون الجمعيات العراقي رقم (1) لسنة 1960. • دستور المملكة العراقية لعام 1925. • دستور الجمهورية العراقية لعام 1970. • Weber, Max (1978). Economy and Society. Berkeley: University of California Press. • Bourdieu, Pierre (1984). Distinction: A Social Critique of the Judgement of Taste. Cambridge: Harvard University Press. • Gramsci, Antonio (1971). Selections from the Prison Notebooks. New York: International Publishers. • Elias, Norbert (1994). The Civilizing Process. Oxford: Blackwell. ________________________________________
ملاحظات منهجية اعتمدت هذه الدراسة على منهج سوسيولوجي تاريخي يجمع بين التحليل البنيوي للمؤسسات والتحليل الثقافي للقيم والسلوكيات. كما استندت إلى: 1. المصادر التاريخية الأولية: الوثائق الحكومية، الدساتير، القوانين، والأرشيفات البريطانية. 2. الأدبيات السوسيولوجية: أعمال حنا بطاطو وعلي الوردي كمرجعين أساسيين لفهم البنية الاجتماعية العراقية. 3. النظريات الاجتماعية المعاصرة: استخدام مفاهيم من ماكس فيبر (العقلنة والبيروقراطية)، بيير بورديو (رأس المال الثقافي)، أنطونيو غرامشي (المثقف العضوي)، ونوربرت إلياس (عملية التمدن). 4. الشهادات المعاصرة: تحليل الخطاب السياسي والإعلامي والمواقف الشعبية من خلال الأحداث الراهنة. ________________________________________ كلمات مفتاحية: العراق، هشاشة الدولة، الهوية الوطنية، الطائفية السياسية، العشائرية، التمدن، الترييف، الحركة النقابية، المجتمع المدني، بناء الدولة الحديثة. ________________________________________ هذه الدراسة تمثل محاولة لفهم الجذور العميقة لأزمة الدولة والمجتمع في العراق، ليس بهدف التشخيص فقط، بل بهدف فتح آفاق للتفكير في إمكانيات البناء والتجاوز. فالعراق الذي عانى طويلًا من الانقسام والعنف، يستحق فرصة حقيقية لبناء وطن يتسع للجميع، دولة تحمي مواطنيها، ومجتمع يحتفي بتنوعه ويبني مستقبله على أساس العدالة والكرامة الإنسانية.
#عادل_الدول (هاشتاغ)
Adil_Al_Dool#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سجون عقولنا غير المرئية: كيف تُديرنا معتقدات الطفولة القديمة
...
-
التغيير الإيجابي والمستدام: في معنى التكيّف الهوياتي
-
البشتون وإسرائيل: بين الأسطورة التوراتية وأدوات المشروع السي
...
-
عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأث
...
-
هل يحتاج العالم العربي إلى ديمقراطية... أم إلى رؤية جديدة لد
...
-
قانون جانتي: يُقلّل من الحسد الطبقي، ويُعزّز التماسك الاجتما
...
-
هوليوود تُعيد كتابة سرديّتها: حين يكسر النجوم صمتهم عن فلسطي
...
-
التسامح مع عدم اليقين
-
الإنسان في عصر البيانات الرقمية: بين الوعي والسيطرة
-
يطير الملفوظ... ويبقى المكتوب
-
الجذور في الجحيم: في معنى المعاناة كطريقٍ للتحول
-
الوساطة منهج فكري وثقافة مؤسسية
-
مؤشر مايرز بريجز للأنماط (MBTI) و 16 نوعاً من الشخصية
-
تعلم مهارات التعاطف والشفقة على الذات في المدرسة
-
بين الطابور والطيران: مأزق الذات بين الأمان المُقنَّن والحري
...
-
النجوم لا تُقارن
-
أمة بلا سؤال: جسد بلا روح
-
رقصة بين ضفتي الإنسان
-
ولادة خارج الصندوق
المزيد.....
-
شركة تايوانية تستعرض سيارة كهربائية جديدة وروبوت بشري لتحضير
...
-
تقرير: الإسرائيليون أصبحوا أكثر تديّنا.. ما علاقة الحرب في غ
...
-
فولتير: الفيلسوف الساخر الذي فضح الاستبداد
-
تونس: مطالب بإغلاق المجمع الكيماوي بقابس
-
مفاوضات شائكة في قمة المناخ بالبرازيل حول خطة التخلص من الوق
...
-
الخطة الأمريكية للسلام في أوكرانيا.. انحياز كامل للشروط والم
...
-
الكشف عن موقع إلكتروني يدعو لاغتيال علماء إسرائيليين
-
سنغافورة تفرض عقوبات على 4 من قادة المستوطنين بالضفة
-
واشنطن تنفي التراجع عن مقاطعة قمة العشرين بجنوب أفريقيا
-
ما أفضل أنواع الجبن؟
المزيد.....
-
كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي للسودان القديم
/ تاج السر عثمان
-
كتّب العقائد فى العصر الأموى
/ رحيم فرحان صدام
-
السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية)
/ رحيم فرحان صدام
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
المزيد.....
|