بديعة النعيمي
كاتبة وروائية وباحثة
(Badea Al-noaimy)
الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 16:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مع بداية المنخفض الجوي الأول لشتاء ٢٠٢٥، دخلت غزة امتحانها القاسي للعام الثالث على التوالي. إنه المطر الذي لا ينتظر إذنا للدخول حين تحط رحاله على الخيم التي أنهكت نسيجها حرارة الصيف اللاهبة وألقت بها مزقا في فم الشتاء. على أرض أنهكتها الحرب والحصار، وكأن هذه النعمة التي ينتظر قدومها الآخرون في بقع أخرى، تختبر صبر المنكوبين في غزة.
ففي ساعات الليل الأولى اقتحم هذا الضيف بكل قوته تلك المزق المسماة بالخيام وكأنه يعرف طريقه إلى أكثر نقاطها ضعفا. فاختنق التراب تحتها، وتحول إلى طين لزج منتفخ، تلتصق قسوته بالذاكرة قبل الأقدام، وبرد يتسلل بلا رحمة إلى أجساد فشلت في دروس التكيف مع العراء.
فالخيمة بيت في غزة، لكنه لا يشبه البيت بشيء، ومأوى لا يصلح أن يكون مأوى. الخيمة مرآة لمنفى الذات، فهي ليست غيابا كاملا للمنزل ولا حضورا كاملا له هي لعبة في يد الريح، وأرضياتها ساحات مصارعة للموت. المطر لم يفعل شيئا، هو فقط، كشف الحقيقة، حقيقة العالم المتواطئ، كما حقيقة الخيمة الهشة والحياة التي تعاش حدود الاحتمال، احتمال الحياة أو الموت.
أما الطفولة فهي في غزة وتحديدا حين يصل هذا الضيف، حكاية أخرى. فالأطفال الذين كانوا في السابق ينتظرون المطر ليقفزوا في البرك ويراقصوا القطرات المشاكسة، وجدوا أنفسهم اليوم يهربون منه، بعد أن أصبح خصمهم في اللعبة، وخاصة حين انقلب الطين سجنا لأقدامهم لا ملعبا.
ما أقسى المشهد، وما أقسى أن تتحدى الانكسار أمام الغرق وأنت تغرق بالفعل، ما أقسى البلل وأنت تحاول مقاومته وأنت مبتل بالكامل، لكنك ترفض الفكرة أمام الصغار الذين نهشتهم فكرة السؤال، أين العالم؟ أريد نقطة جافة، نقطة لا بقعة، أنا لست طماعا ولا يسعني وسط هذا البلل حد الغرق أن أكون كذلك، فنقطة واحدة قد تكفيني وتضعني على حافة الغرق لا الغرق الكامل.
أنتظر أول خيط ضوء كي، ألملم بقايا الخيمة، أنفضها مما علق بها من طين وأقذار، وأعيد ترتيبها فالطين ليس النهاية.
امنحني أيها العالم تلك النقطة من الجفاف، فأنا كائن أشبه الأسطورة في قدرتي على الصمود وإعادة ترتيب نفسي مع كل اختبار جديد، فأنا أعمق من الانهيار، وأقوى من الغرق.
هذا حال الطفولة في غزة فكل اختبار من المطر، ينقلب أسئلة كبرى يطرحها الطفل نفسه عن معنى البقاء في عالم يتآمر عليه ثم يسقط على رأسه من كل جهة.
ولكن..وبينما تتعثر الخطى في الطين، تتقدمها الإرادة كأنها تقودها نحو التقدم وتحاشي السقوط، فيعيد ترتيب خيمته وأحلامه مادا يديه نحو الضوء، فهو يعرف طريقه بالفطرة، يعرف أن الشمس تجفف ما أصاب أيامه من بلل ورطوبة..وفي الوقت الذي ينتصر به طفل الشمس
سيسقط العالم الذي عجز عن منحه تلك النقطة الجافة التي يحلم بها كل شتاء.
#بديعة_النعيمي (هاشتاغ)
Badea_Al-noaimy#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟