|
|
بمناسبة ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى الجزء 5 - ألكسندر سامسونوف ومعركة الوعي التاريخي: التاريخ كسلاح في الصراع الأيديولوجي
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 12:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة
في مقاله المعنون «معركة من أجل التاريخ»، والمنشور في 22 يناير 2024 على موقع History.eco، يقدم المؤرخ والمفكر الروسي ألكسندر سامسونوف واحدة من أكثر الرؤى تكثيفًا وعمقًا في النقاش الروسي المعاصر حول دور التاريخ في تشكيل الهوية الوطنية ومقاومة الهيمنة الغربية. فالتاريخ، في نظر سامسونوف، ليس مجرد سردٍ لأحداث الماضي، بل هو أداة إدارة المجتمعات و«سلاح إعلامي» يُستخدم لتشكيل الوعي الجماعي وإعادة هندسة الشعوب.
أولاً: التاريخ كأداة للهيمنة وإعادة التشكيل
يرى سامسونوف أن الغرب يدرك خطورة التاريخ بوصفه سلاحًا إستراتيجياً، ولذلك يسعى دائمًا إلى «إعادة كتابته لصالحه، وتشكيل الأساطير التاريخية التي تخدم مصالحه». ويشير إلى أن المثال الأكثر وضوحًا على ذلك هو إعادة صياغة تاريخ الحرب العالمية الثانية، بحيث أصبح «الجنود والقادة والسياسيون الأنجلو-أمريكيون هم الشخصيات الرئيسية»، فيما تم وضع ستالين وهتلر على مستوى واحد، ليُقدَّم الإتحاد السوفياتي والرايخ الثالث كمصدرين للحرب، بينما ظل «المحرّضون الحقيقيون، أي الرأسمالية العالمية والولايات المتحدة وإنجلترا، في الظل»، بل ظهروا في دور المنتصرين حَمَلة "الخير" والعدالة.
هذا التلاعب، كما يقول سامسونوف، لا يهدف فقط إلى تزييف التاريخ، بل إلى إعادة برمجة وعي الشعوب، بحيث تتحول قوى العدوان القديمة إلى رموز للفضيلة، وتُشطب من الذاكرة الجمعية مسؤولياتهم الحقيقية في إشعال المذابح العالمية.
ثانياً: الأساطير التاريخية وتقسيم المجتمع الروسي
ينتقل سامسونوف إلى الداخل الروسي، ليصف بمرارة كيف أدت الأساطير التاريخية إلى تفكيك المجتمع من الداخل، فيقول: «تم تقسيم المجتمع الروسي إلى مجموعات متناحرة، لكل منها أبطالها وأعداؤها».
فثمة من يرى أن «روسيا الجديدة» هي بداية الحرية الحقيقية بعد عام 1991، وآخرون يعدّون الإتحاد السوفياتي العصر الذهبي، وينقسمون بين «ستالينيين» ومحبّي «عصر الركود»، بينما يمجّد فريق ثالث «الإمبراطورية الروسية وسلالة رومانوف» ويرى فيهم رمز «روسيا التي فقدناها». وهناك أيضًا من يعود إلى ما قبل المسيحية ويحنّ إلى «العصر الذهبي الوثني». هذه الإنقسامات، برأي سامسونوف، نتيجة مباشرة لغياب سردية وطنية موحدة. فـ«لا توجد صورة كاملة توحد تاريخ روسيا من زمن إمبراطورية السكيثيين حتى أيامنا هذه»، ولذلك «لا يتشكل إنسان كامل لا يقسم تاريخ وطنه إلى فترات معادية لبعضها البعض».
ثالثاً: محاولات النخب لإعادة كتابة التاريخ الروسي
يُحمِّل سامسونوف المسؤولية عن هذا التشظي للنخب السياسية والفكرية التي كانت تتلاعب دوماً بالتاريخ بما يخدم مصالحها. فمنذ تعميد روسيا، تم تدمير طبقة كاملة من التاريخ الوثني، ثم جاءت سلالة رومانوف لتعيد كتابة الماضي بما يعزز شرعيتها. أما في عهد بطرس الأكبر، فقد جرى «تحييد» التاريخ الشعبي الروسي، وإضطر العالم العظيم ميخائيل لومونوسوف إلى الدفاع وحيدًا عن تاريخ الأمة ضد الرؤية الغربية التي إدّعت أن «السلاف المتوحشين تم تهذيبهم على يد الفارانجيين والألمان». ويقول سامسونوف في هذا الصدد: «إحتل الحقل الإعلامي الرسمي مفهوم غربي، يقول إن السلاف المتوحشين تم تهذيبهم بواسطة السويديين-الفارانجيين والألمان. بشكل عام، يسيطر هذا المفهوم حتى يومنا هذا».
رابعاً: التجربة السوفياتية وبناء الأسطورة الإيجابية
يرى سامسونوف أن الإستثناء الحقيقي في هذا المسار جاء مع ستالين، الذي نجح، رغم كل شيء، في بناء أسطورة تاريخية إيجابية قائمة على المجد الوطني والبطولة الجماعية. «في عهد ستالين، يجب أن نعترف له بالفضل، بدأ تشكيل أسطورة تاريخية إيجابية. للتأكد من ذلك، يكفي تذكر الروائع السينمائية التاريخية في تلك الفترة.»
لقد أعاد ستالين الإعتبار للتاريخ الروسي بوصفه سلسلة متصلة من الكفاح والخلق. الإتحاد السوفياتي في عهده، كما يقول سامسونوف، «لم يكن تابعًا للغرب بل كان يقود البشرية»، إذ أظهر للعالم إمكانية بناء نموذج إجتماعي جديد، «مجتمع الخلق والخدمة للوطن»، قادر على تحقيق نهضة إقتصادية وصناعية وعلمية في فترة وجيزة، ناهيك عن الإنتصار على أوروبا النازية بأسرها. ويصف سامسونوف تلك المرحلة بأنها قفزة غير مسبوقة في التاريخ البشري، حيث أُنشئ حتى بديل مالي لنظام الدولار، وأصبح الإتحاد السوفياتي «عالماً كاملاً» قائماً بذاته.
خامساً: "ورثة التروتسكيين" وإفساد الوعي التاريخي المعاصر
بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، عاد ما يسميهم سامسونوف بـ«ورثة التروتسكيين الفكريين» إلى الساحة، وبدأوا عملية منهجية لتقويض الصورة الوطنية عبر إصلاح تعليم التاريخ. هؤلاء، كما يقول، يرسخون في أذهان الطلاب فكرة أن «روسيا مجرد هامش للحضارة العالمية»، وأنها دائمًا متأخرة، تابعة، ناقصة. «من هذا المفهوم تنبع باقة كاملة من الأساطير الروسوفوبية... روسيا، وفقًا لهذه الآراء، ملحق معيب للحضارة العالمية.»
هكذا يُنزع عن التاريخ الروسي جوهره الإبداعي، ويُقدَّم وكأنه صدى باهت للتطور الغربي. وحتى الفترة الستالينية تُقدَّم على أنها زمن محافظةٍ سياسيةٍ عجز عن مواكبة “العمليات العالمية العامة”، وهو ما يسميه سامسونوف «حماقة واضحة وخداع».
سادساً: الحاجة إلى "قانون وطني موحد للتاريخ"
ينتهي سامسونوف إلى فكرة مركزية: لا يمكن بناء هوية وطنية أو مستقبل موحد دون أسطورة وطنية إيجابية، ودون "قانون" أو كانون تاريخي موحد. فالتاريخ، في رأيه، يجب أن يكون مرجعًا جامعًا للأمة، لا ميدانًا للخصومات السياسية أو التجاذبات الإيديولوجية. ويقول في خلاصة فكرته: «إنشاء أسطورة إيجابية موحدة، كانون وطني، سيسمح بتشكيل حقل إعلامي موحد ينقل صور الماضي إلى الناس.»
ويحذر من أن غياب هذه الصورة الموحدة يؤدي إلى الفوضى الروحية التي نراها اليوم بين أجيال «تربت على أمثلة الرجل العنكبوت وباتمان»، بدل أن تتشرب رموز البطولة الوطنية.
بل ويكشف سامسونوف عن المقاومة الليبرالية لهذا المشروع، مشيراً إلى أن معارضة توحيد الكتاب المدرسي للتاريخ جاءت من «لجنة المبادرات المدنية التي يرأسها كودرين»، والتي تضم أسماء مثل غوزمان وسفانيدزه ويورغينس، الذين أعلنوا أن "الكتاب الموحد لا يتناسب مع الحداثة"، وأنه "سيسبب إنقسامًا في المجتمع". لكن سامسونوف يردّ على ذلك بقوله إنهم لا يريدون الحقيقة بل إستمرار التبعية الثقافية للعقل الغربي.
خاتمة: التاريخ كساحة للصراع على الوعي
يخلص سامسونوف إلى أن معركة اليوم ليست معركة جيوسياسية فقط، بل هي قبل كل شيء معركة من أجل التاريخ — أي معركة على الذاكرة والهوية والوعي. فـ«التاريخ هو أحد أهم أدوات إدارة المجتمع، سلاح إعلامي يسمح بجعل الأبيض أسود والعكس صحيح». وبذلك، فإن من يتحكم في سردية الماضي، يتحكم في تصور الناس لمستقبلهم.
إنها ليست مجرد مسألة أكاديمية، بل قضية وجودية تحدد مصير روسيا كأمة ذات رسالة. فإما أن تستعيد تاريخها بوصفه سلسلة واحدة متصلة من الإبداع والمجد، وإما أن تبقى أسيرة الروايات الغربية التي تحاول تحويلها إلى «ملحق معيب للحضارة العالمية».
*****
المرجع
1. ألكسندر سامسونوف، معركة من أجل التاريخ، موقع History.eco، 22يناير 2024.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 763 - غزة وأوشفيتز: وجهان لعملة تاريخية واحدة
-
بمناسبة ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى الجزء 4 - عشرة أيام هز
...
-
طوفان الأقصى 762 - من الأسطورة إلى الإبادة: قراءة في كتاب «م
...
-
بمناسبة ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى الجزء 3 - مؤرخ روسي يق
...
-
طوفان الأقصى 761 - إغتيال القذافي: جريمة العصر
-
بمناسبة ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى - الجزء 2 - أكتوبر غيّ
...
-
طوفان الأقصى 760 - إسرائيل تحت «القبّعة» الأميركية
-
بمناسبة ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى 1 - أكتوبر العظيم
-
طوفان الأقصى 759 - هل يستطيع العراق أن يحلّ محلّ سوريا في من
...
-
ألكسندر دوغين - كيف تخطط روسيا لصدم الغرب؟
-
طوفان الأقصى 758 - غزة: هذه الأرض النازفة – مراجعة لرواية جو
...
-
ألكسندر دوغين: «توماهوك، المقامرة النووية، ووداع ترامب لأمري
...
-
طوفان الأقصى 757 - لماذا يخاف ترامب من نتنياهو؟
-
ألكسندر دوغين: الصراع الأوكراني أشعله دعاة العولمة؛ وروسيا،
...
-
طوفان الأقصى 756 - غزة اليوم هي غيتو وارسو بالأمس
-
طوفان الأقصى 755 - غزة كما تراها روسيا: عن المعايير المزدوجة
...
-
ألكسندر دوغين - السيادة والحرب
-
طوفان الأقصى 754 - الإنسانية الإنتقائية: مقارنة بين حرب كوسو
...
-
ألكسندر دوغين - السيادة الفلسفية أساس إستقلال الدولة
-
طوفان الأقصى 753 - قبرص في لعبة الأمم
المزيد.....
-
بركان كيلاويا يدخل مرحلة نشاط متسارع.. ثوران جديد وشيك في ه
...
-
أكثر من نصف طلاب بولندا يرغبون بالدراسة خارج البلاد بحثًا عن
...
-
-العدالة لـ لورينتس-.. مظاهرات بألمانيا ضد مقتل شاب أسود برص
...
-
عشية إحياء الذكرى العاشرة ل13 من نوفمبر، التهديد الإرهابي لم
...
-
ما تداعيات سقوط بوكروفسك على الحرب في أوكرانيا؟
-
إصابة مصورة في وكالة رويترز وعدد من الفلسطينيين في هجوم شنه
...
-
بنبض أوروبا: بعد شراء مقاتلات إف35، بلجيكا تكتشف أن سماءها ض
...
-
كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟
-
زوبعة تخلف 6 قتلى ومئات الجرحى ودمارا شبه كامل لبلدة برازيلي
...
-
إسرائيل تجدد توغلها في القنيطرة السورية
المزيد.....
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
المزيد.....
|