|
الانثى التي اصبحت ذكرا رواية-1
صلاح عيال
الحوار المتمدن-العدد: 1829 - 2007 / 2 / 17 - 06:56
المحور:
الادب والفن
إلى الروائي الكبير الطيّـب صالــح كعادتها جلست فجراً. بدأت بروث البقرتين والجاموسة الوحيدة التي لا يقربها غير والدها الذي لازمه المرض منذ شهرين، اقتربتْ منها لتحك جلدها كما ترغب الحيوانات في الصباح فأن لم يجدن ما يقوم لهن بذلك يتمددن على الأرض أو بجانب أخصاص القصب والبردي طاردات الذباب أو ليُمسدن أجسادهن بعد ليل طويل، بيد أن الجاموسة همّت عليها برأسها مما جعلها تبتعد خارج بيت الحيوانات أو كما تسمى (سترة الحلال) لتعود وقد لبست دشداشة أبيها وتكممت بكوفيته كي لا تعرفها. شرعت تحك جلد الجاموسة التي تشممت رائحة صاحبها وقد حسبته هبط تحتها وسطلة الحليب بين ركبتيه.. غسلت أضرع الجاموسة بالماء ومرغتهن حتى اصبحن منتصبات كنهدي فتاة ناضجة. صار كل ضرع بين أصابعها ليناً وجاهزاً لأن تسحبه إلى الأسفل وقد تدفق الحليب منه شاخباً وسط السطل. كررت ذلك مع البقية تاركة إحدى البقرات إلى عجلها الصغير الذي ولدته قبل أسبوع ليرضع حليبها البكر، وقد وهبه ابوها إلى بيت اخيه. في الشتاء لا يأتي النهار بسرعة، رغم أن نجمة الصباح تلألأت من سمائها الصافية دون أن تكوّن مع القمر بأيامه الأخيرة ظلاً للأشجار والنخيل أو البيوت الهابطة بيد أنهما يتراقصان، في الساعة التي أفلت فيها معظم نجوم السماء، على صفحات الماء المندفع فجراً إلى الجرف الذي أغرق المشاحيف الصغيرة وملأ بعض الأبلام المربوطة بنخيل مجاور إلى الشاطيء. خلطت الشافية الخبز اليابس بالنخالة وأوردت الحلال الماء. فتحت باب قن الدجاج وأدخلت الكلب الذي لم يفارقها إلا ساعات الليل لئلا يعض أحد المارة على جادة المنزل الضيقة. قلعت حُزمة صغيرة من حشائش البردي النابتة جانب النهر وأبرمتها لتتحزم بها. ومن فتحة البيت غير المسيجة من الخلف، هبطت إلى النهر الملتف باتجاه البيوت الأخرى لتُفرِغ البلم من الماء، حاولت أن تنشف ما تبقى منه بقطعة اسفنج، لكنها أدارته إلى الجهة الثانية. أمام البيت لفّت حبله حول نخلة قريبة واندفعت إلى الداخل، دفأت لها ماء في الحمام المحكوم بالقصب والطين والمُسقف بالخشب والبواري. طردت الكلب بعيداً واحكمت الباب. قبل أن تخلع ثيابها انتبهت إلى أن موعدها المعتاد مع ابن عمها ساهي آل مرهون، قرب الشريعة لم يحن بعد. وأن أباها الذي يتكسب من توَشير المناجل وحدِّها وزمِّ المساحي والمجارف أو تبديل أخشابها، مريض لا يسأل عنها إذا تأخرت. وأُمها تعرفُ سرّ ابنتها جيداً وتعمل بمقولة (كل واحد يطلع على ذيل بازره)كما ان ابنتها ليست سهلة، وان ابن عمها ساهي اشد المحافظين عليها، فهي وقفيَّته للزواج منذ ولادتها. في الحمام دعكت الصابونة بليفة أحاكتها بنفسها بعد أن تركت قدميها وسط طست صغير ليسهل عليها إزالة الشعر عن ساقيّها بواسطة حجر اسود اشترتها مع كل ما تتعطر به المرأة إلى زوجها من عطار جوال. قال لها، انه حجر هندي يستخرجه البحارة وتستخدمه الهنديات. كانت تُنعّم راحتي رجليها غير مهتمة بآلام الحَجر الذي يدميّهـا احيانا، المهم ان ساهي يراها بيضاء تؤكلُ من حيث يشاء. فهو لا يعرف غيرها ولا من فتاة تملأ عينيه سوى الشـافية. صبنت وجنتيها الحمراوين وهبطت إلى رقبتها الطويلة ثم نهديّهـا الضامرّين، كانت تعاني من صغرهن، لم يرتفعن بقدر عمرها الذي تجاوز الخمس عشـرة سنـة. تركت الليفة جانبا لتمرغهن بكفيّـها الخشنتين بسبب الحشيش ودفع البلم لأكثر من ثلاثة كيلومترات يوميا، من ارض جدها آل مرهون إلى أهلها ثم إلى الشريعة لتشتري ما تحتاجه. نظرت إليهن ولم تتحسر. رفعت شعر رأسها الذي غطى معظم وسطها. مسكت ظهرها وتحسست عمودها الفقري الغائر بين عضلتيه المنحوتتين مع نهرهمـا من الرقبة إلى الردفين، لم تنزل يدها إلى تحتهما، شطفت بالماء الذي نشفته بقطعة كبيرة من قماش الجات. لبست ملابسها واندفعت دون أن تمشط شعرها. اكتفت بإخبار أُمها التي لم تفارق والدها وهو يعالج المرض بعد أن امتنع عن الذهاب إلى الطبيب غير أنه رضي بالكي وطب العارفين وتعاويذهم.. دون جدوى. (سأوصل الحليب إلى بيت عمي) (تركت طاسة الحليب على الصندوق) (خلي بالكِ لا البزون تشربه) (لا تنسي الكلب اثردي له بالطاسة) (آنا أعلفت الحلال وأوردتهن الماء) كل يوم قبل أن تخرج، كانت توصي والدتها عن كل شيء وهي من الداخل توصيها على نفسها؛ عليها أن لا تتاخر. لا تذهب إلى غير أعمامها(لا يأمن الدنيا إلا جاهل) كما يقول والدها. الآن، غابت النجمة وبقي القمر غير مؤثر بعد أن ارتفعت الشمس لتكشف ما سترته الظُلمةُ ولم تتمكن العيون من رؤيته. وضعت قطعة قماش بيضاء على ( الكين ) الألمونيوم الذي يشبه (تُنكَة) الماء. فرغته في ماعون وقد نظفته من العوالق او البراغيث الطنانة في الاهوار ليلا و نهارا في الصيف والشتاء. قبل ان تصل إلى الجرف رجعت، لم تأخذ الغرافة، اكتفت بالمردي الذي يستخدمه الرجال. كانت تعشق ساهي وتتمايز بطوله أمام البنات وهو يدفع البلم بسرعة تحدّت الكثير.. جفلت لانها لم تجد البلم الذي دلقت ماءه قبل ساعة. انزلت الكين عن رأسها. وضعت كفها على حاجبيها وقصت النظر إلى الماء وقد اخذ يجزر إلى الدرجة التي ظهرت به بقية المشاحيف والابلام الغارقة منذ البارحة، الا ان بلمها ... دار في خاطرها أن ساهي اندفع به جانباً غير انها رأته وسط الشط، دون أن يركبه أحد. انتبهت إلى الجرف لعلها تجد بلماً آخر لتتبعه. لم تفكر الشافية كثيراً، تركت وراءها ماء الورد والمسك والخضيرة والعنبر التي استعدت بهن للقاء ساهي ودون ان تخبر اهلها هبطت إلى الشاطيء العميق لعلها تلحقه وقد اصبح بعيدا.
2
تأكدت من إحكام حزامها. تركت المردي ألقت العباءة على الأرض وربطت رأسها بفوطة سوداء نزعت عن طرفها دبوس ذهب طمأنها به ساهي مع محبس وعباءة كـ(نيشان) لزواجهما، بعد يومين من فعلتهما في نهر ركيوه. حملت ماعون الحليب ووضعته على حرثة الدار من الداخل، قرب حائط دفعت بين قصباته الدبوس بينما تركت المحبس في بنصرها الأيمن. غرزت أصابع قدميها في الطين. غمرت ساقيها المياه، لفحتها برودته التي لم تفكر بها. مشت في العمق حتى وصل الماء إلى إبطيها. ارتفعت ناشرة يديها وضاربة بإحدى قدميها صفحة الماء لتندفع بخفةِ سباح ماهر، وراء البلم الذي مضى على هدى أمواج تزيد من جريان الماء كلما تباطأت. أدركتْ بُعد المسافة وصعوبة السباحة المعتادة عليها، كلما اشتد الصيف بحرارته أو عزمت لإخراج الجاموسة الوحيدة. زورق أبيض عبر صوت محركه قبل ارتفاع امواج النهر التي اقامها بسرعته وقد امال البلم إلى الجهة الثانية. بينما هي انقلبت لتسبح على ظهرها لئلا تغرقها أو تعيدها إلى الوراء، اندفعت إلى الجهة المقابلة، استقرت قليلا ودون ان تنقلب على بطنها عامت إلى الامام. لم تسـرع من اجل البلم الذي ابتعد باتجاه الشريعة، سيرونه البلامة، يلحقونه قبل انفلاته من النهر إلى الشاطيء. رأته يستدير استدارة كاملة ثم يستقيم مع الجاري. أخذت انفاسها ترتفع وتنخفض مع استدارة وجهها إلى الخلف كي لا يدخل الماءُ فمها. أغمضت عينيها وقررت ان تلحقه. ( لم ينتظر.. أيّ حـظ هذا الذي أضاع موعدي معه) كانت تزعل إذا تأخر أو فعل أمرا يهضمها، تعاتبه يوم يترك ذقنه كثيف الشعر لكنها تقاطعه ان فكر بحلق شاربه. تحب رؤيته والكوفية على كتفه، كما يحبها وهي تتمايل برقة مثل غصن الحناء. تتوهج امامه وتنسرح بين يديه. يدفعه جمالها وخفة دمها ونعومة صوتها. يحتضنها، لم تمانعه. تنقلب على ظهرها. تسحبه اليها، يبتعدان من آثار الاقدام، الطين المتيبس أثر جفاف حشائش المران والعنقر التي سحقتها الاقدام حتى اصبح نهرها الصغير، كما يسمونه اهل الاهوار عند جفافه (ركيوه) بينما يُسمى (شافيّ) اذا لحق النهر الكبير الجفاف. كانت اصوات الفاخت والعصافير مسموعة بينما طائر السمك امام العين ما زال عاليا. لا احد بمقدوره ان يراه وهو يهبط إلى العمق. يقبلها ثم يدفع يده إلى صدرها يرفع وسطها حتى يتمكن من خلع ثيابها، لم تمانعه، بل اطاعته في كل شيء. اصبحت تحته وقد مسك فمها من الصرخة الاولى التي لم يسمعها او يراها (الآن) وهي تلوح، لعله يرى بلمها البعيد لكنه نزل من جادة النهر إلى بيتهم وسط الاشجار فيئست. كان قد حملها على كتفه والقاها في الماء لتغتسل من الدم او تعيد قوتها التي نفدت. جفّلتها برودة الماء فتنهدت باكية لجنونها غريب الأطوار. وضعها على صدر البلم. دفع حزمة من الحشائش التي قصها قبل فعلته. غطت وجهها بالحزمة ودون ان يحركها او يرى وجهها المصفر. (انتِ ابنة عمي وقريبا ستكونين زوجتي ..) من حسن حظها، رسا البلم على الجهة الثانية بأتجاه نهر ركيوه، حيث خدمها انحراف النهر وإلا سيتعقبها اتساع الشط الكبير الذي يمتد إلى البصرة، شط العرب ثم إلى البحر... حملت جسدها وكأنها نزلت توا إلى الماء، لم يخذلها التعب. دفعت بيديها مطمئنة لانحساره ووصولها الاكيد. لا احد ينتبه من الشريعة قبالتها. صعدت إلى الجرف، كان قريبا. غسلت قدميها من الطين وصعدت تاركة اصوات الضفادع والفواخت والعصافير وراءها بينما اطربها صوت بعيد يتلاشى كلما غرفت الماء بعصا السدر التي كسرتها من شجرة لعلها تعود وقد القاها بالماء ثانية، دون دم. كان وجهها ناشفا وموحلا رغم بياضه وبريق وجنتيها. لحَظتها امها وقد اندفعت بجنون نحوها، مرّغت جسدها بالتراب. لوت ذراعها وركلتها دون ان يصرخن او تتكلم أيّ منهن. سحلتها من شعرها إلى سترة الحلال، تقرفصت امامها. لم تحدق في وجه امها التي عرفت كل شيء. (قال انه ..) (اسكتي .. وان جرى له شيئا) قالت بعد ان تركتها للدموع والخوف الذي زرعته امها لتداري البقرة التي ترغو منذ ليلتين طالبة الفحل والتي أجرته من الشريعة بعد ان تعذر فحل بيت ساهي ان يتم ركبته. عند حرثة اعمامها نزلت، هذه المرة ربطت البلم جيدا وانحدرت وسط الاشجار، يأخذها التراب الذي تعلق باذيال ملابسها المبللة والشاخات التي تطفرها بين لحظة واخرى حتى انتبهت إلى نفسها، محبسها الذي لم يفارق اصبعها. حاولت ان تعدل من وضعها، تنشف ملابسها من الماء. تعيد ترتيب فوطتها وقد تركت دبوسها عند الخص. حجبت نفسها وسط اشجار جانبية كي لا يراها احد. عصرت اذيال ثوبها. وقبل ان تنزع فوطتها سمعت اصواتا محبوسة وتوسلات غريبة.. تقدمت محتمية بين الاشجار. إتكأت على شجرة كبيرة لتنظر ما يجري امامها.. لم تصدق نفسها.. لم تصدق ان ساهي يندفع إلى المنجل الذي لم يفارقه الا هذه الساعة وقد ألقوه ثلاثة صبية وراء النخلة. يقبض عليه بقوة لم ترها من قبل ليقطع ذكره ويلقيه بعيدا، ناحية الإيشان وقبل ان يسقط يطعن بطنه من جهة القلب. يسحبه بشدة مع الدم المتدفق إلى الارض. لا تعرف كيف تنظر إلى جسده العاري والدم الذي ملأ فمه. اراد ان يتكلم..او تتكلم هي، تقول له شيئا ان تمسكه او تمنعه. تطلب منه كتم السر. ليس من أجله، بل من اجلها هي. لكنها أبت ان تكون السبب بمنعه للرد على قيمتهما التي رأتها قد أُنتـُزعت قبل قليل.
3
بلا شعور وصل صراخها القرية المترامية من الشريعة حتى العمق، كانت الاصوات تعبر بسهولة إلى نهر ركيوه والقرى الممتدة في الجانب الآخر. اصوات اعتاد الناس عليها، لتنذرهم بحريق او بميت.. البعض بدأ يلّوح بيديّه لمعرفة الامر، والآخر عبر ببلمه، بينما يتراكض الذين في الجهة الاقرب، مرة يجمعهم الصراخ واخرى الاتجاه الذي يولي بهم صوب الساهي.. لم يره الجميع اضاع تجمهرهم جسده العاري والملطخ بالدم كما اختفى المنجل تحت جسده المطروح ارضا وقد أضهرت قدماه الملمومتان مؤخرته المدماة أثر.. بينما النساء تنسحب من المنظر يندفع الاطفال بين اقدام الكبار، بعضهم رأى الميت او القتيل لأول مرة وآخرون لم يروه، فقد نزعت احدى النسوة عباءتها لتستر عورته ورجل غطى وجهه وبقية جسده بكوفيته المرقط بعد ان عجز عن انتزاع الدشداشة من يديّ الشافية التي تركتهم ومضت على الجادة المتروكة. عبرت الايشان غير مهتمة ساعة هبوطها لمرتفع حشائش الحلفاء والعاقول التي أدمت قدميها. وقفت قبالة (الشاخة) الرافدة من ماء النهر ساعات المد والطينية عند انحسار الماء في الجزر. ثمة برك تنقنق الضفادع فيها وجنبها وتنساب العضايا الصغيرة حولها وابو الجنيب، ولا غرابة اذا خطف امامها ثعبان لم تتمكن منه. امام الشاطىء، خلعت محبسها من اصبعها وألقته في العمق. مسكت دشداشته التي ضمتها على صدرها، ووضعتها على وجهها، اجهشت بالبكاء. حاولت ان تدفع البلم لكنها عدلت عن الصعود. مسكت حبله ومشت به، هي على الجرف وهو في الماء والدشداشة النظيفة من بقع الدم على صدر البلم الذي تحكمه الموجات المُيّتة كخطواتها التي توقفت عند مروق الزورق الابيض العائد بسرعة هائلة كما شهدتها ساعة انفلاته. لم تنظر اليه لكنها مسكت الحبل بقوة. ما جدوى ان تتركه يغيب وراء الزورق؟ دخلت البيت فوجدت اباها الذي وصله الخبر في حينه زاحفا وسط الدار. لم تتمكن ان تمسك نفسها امامه، بل صرخا سوية وقد احتضنها واحتضنته مثل ام ثكلى. لم تجد امها في الدار ولم تلتقيها في الطريق. دخلت غرفتها الصغيرة ووضعت رأسها على المخدة الريشن هبطت عليها المخاوف التي لم تحسبها طوال عشرتها معه. في الليل، دون ان تشعل فانوسا سمعت مواء قطها واحست احتكاك جسده. ركلته بقدمها. ابعدته ثانية عن الفراش الذي لا تشارك فيه احدا سوى ذكرياتها مع ساهي، احيانا كانت تلاعبه. يندس معها. يضع رأسه بين نهديها فتدفعه بقوة لتروي له الركض بين البساتين وعلى الحشائش الصاعدة في الربيع وصعود النخل والاختباء في قلب السدرة، لكنها لا تهمس بأذنه عن الاستحمام في النهر. عليها ان تكتم سرها ـ ومن الآن ـ عن اللحاف القطني والفأر الذي يمد بوزه من ثقب الخص او من بين قشة تقفيف البيض. ان تكتم سرها عن القط الذي لم يركب يوما بلمها او يعرف مصيرها المجهول، دموعها وقد بللت المخدةَ المطرزة بوردة حمراء وطائر دُفن جناحه البعيد بيدها اليسار. كان صوتها مخنوقا بينما بكاء والدها يصل واضحا اليها. لم تذهب اليه لكنها نزعت فوطتها وامسكت شعرها الطويل ومشعته حاولت ان تقطع ضفيرتيها، سحبته بقوة دون جدوى. (من اين جاءت لك هذه المصيبة؟) (يا مصيبة.. المصيبة!) كان ابوها يسمع صوتها الباكي ولومها على نفسها، فهو يدرك حزنها على ابن اخيه وخطيبها. سيد البيت، فقد عزم، ان يسكن معهم واهبا البيت له ولابنته بعد اغماضة عينيه، لكنه لا يدرك ذلك السر الذي بينهما. كان رغاء احدى البقرات مسموعا فاذا جاعت أسمعت من حولها بينما الجاموسة تمتنع عن النداء آخذة بالدوار حول وتد الحبل المخطم بها. انتبهت للبقرة وصغيرتها والكلب الذي بسط قدميه بباب الغرفة المخلوع، فقد عودته اذا لم تناديه او تثرد له كسار الخبز مع الحليب يأتي اليها. لم تستجب اليه او تحرك ساكنا. غير انها احست بخطوات والدتها في الفجر وما ذكرته من مصيبة إلى الأب المريض الذي يحتاج إلى من يصبره وقد اخبرته الام بكل شيء. (لا تفضح سرها لاحد) (مَنْ قال للناس ان ساهي فُعِل به هكذا..؟) (عسى ان لا تكون حاملا..) كانت الشافيّة قد سمعت كلمات ابيها فانتفضت كأنها لم ترتكب خطأ كما إنها لم تساوم على نفسها مع ابن عمها المغلوب. فتحت صندوقها الخشب المُنّجم. اخرجت المرآة والمشط واقلام الكحل واعواد الديرم والبخور وعلك البستج والمسك والعنبر وطين الخاوة. نشرتها امام امها التي حدقت بوجهها الاصفر دون ان تكلمها عن الامر حتى بعد مضي ثلاث سنوات على (كرستها) غير المحسوبة لكنها أربكت عينيّ ابنتها الساهرتين اللتين شاءتا ان تقولا لها انها تحبه وله ما يشاء من جسدها وانها راضية على فعلته بنفسه. فما رأته كان كفيلا لأن يرد من اجلها قيمته التي سلبت عنوة. ثمة ولادة غير شرعية طلق بها هذا الساهي، بل أكثر مما رأته، فخذين يهتزان، في احدهما ندبة سوداء كبيرة كمؤخرته الطافحة وشاباً تحتهما وشابّين آخرين يمسكان يديه المربوطتين، غطوا رأسه بدشداشته البيضاء. لم تصدق انهم، كانوا يتعاقبون عليه... ارادت ان تصرخ فأخرسها المنظر. فكرت بعصاها وسط البلم. سحبت غصنا من الشجرة احدث صوتا غيّب اولئك الثلاثة عنها، هربوا وقد تركوه ينزع عن وجهه الدشداشة فيراها أمامه وتراه أمامها، دون ان تصدق .. (سـسـا.. انت ؟)
4
لم تصدق ما تنقله الام من كلام البنات و تطحنه مجالسهن من أكاذيب او صدق مبالغ فيه، فالكل يؤكدْنَ، انها صاحبة حيلة، مَنْ قال انها لم تضع المنجل في يده بعد ان..؟ كانت تصرخ لتوهم الناس.. مااظن الامر ببعيد، فالبنات اذا كرهن رجلا هدّن بيته واذا احبنه قتلنّه. كانت تصم اذنيّها تاركة امها تتولى نتف المخدة البالية، تفريق ريشها واحدة اثر أُخرى. وفيما تكون قد انهت تنظيفها عادت حيث بدأت بخياطة فمها بعد ان اضافت لريشها الكثير. كانت عينا الشافية محدقتين بالمخدة التي أُجهزت لاستقبال سكاكين عمياء، لم تسنها البنات القادمات باواني الماء الفارغة. كان المد يدفعهن لملأ الماء الصافي الذي يستخدمنه للطبخ او شطف الملابس بعد ان يغسلنها بجرف الشاطىء. اما قصات البقر والجاموس فيملأنها من ماء المد او الجزر الذي يطبع آثار اقدام لم تُميّز لأيّ منهن. كانت الآثار واضحة، فهنا في الجرف، امام البيت، قدم الشافية وهذا قدم.. اما عند هبوط اربع بنات او خمس اختلطت الآثار المحسورة بالماء الخابط ليمتصها كما أُمتصت الكلمات. (قالت الشافية.. ساهي قال لها عونك قالت له اغمض عينيك.. اغمض عينيه.. قالت، انا رايحة. اتحداك اذا عرفت وين أختل.. وبعدين.. الغشيم ما عرف حيلتها..) (اقتربت منه قالت.. انا اغمض عينيّ وانت قرب الشجرة. وجهك ناحية الايشان. ما ان اقطع الغصن بالمنجل ايكون نزعت دشداشتك وبعدها..) (لا.. انا اقول، أغمض عينيه وما اغمضتْ عينيها ونزع.. وما أمسكتْ المنجل..) ما قالت الرابعة شيئا غير ان الخامسة القت قدرها في الشاطىء محدثا صوتا مخنوقا لم تبتلعه دوائر الماء، يتبعه جسدها في العمق، كانت تلبط في الماء مثل سمكة الحمري التي تمتاز بسرعة برقها. تندفع امام القدر الفارغ الا من بعض طرطشات ماء القدور التي أُلقيّن وراءه، احداهن انسحب سروالها فتركته يعلو امام الأعين، احمر اللون. اول من لحظته الرابعة التي لم تتكلم عن الشافية فضحكت عندما ابتلعه الماء. حدقت ام الشافية من بين فضات الخص إلى البنات وإلى الملابس التي ارتفعت في الماء والقدور التي أُمتلات وإلى آثار الاقدام وقد نز الطين بين اصابع مَنْ اغمضت عينيّ الساهي وخرجت يقطر الماء من ملابسها اما الثانية التي أغمضت عينيّ الشافية ولم تعصر ملابسها والثالثة التي خمّنتها صاحبة السروال اما الرابعة والخامسة فتشاجرتا.. الأُخريات دخلن البيوت. بينما، كانت ابنتها صامتة لملمت ام الشافية بقية الريش المتناثر في الحوش، لم تسأل امها عن الدموع الخرساء التي تهملها كلما مرت بناتُ الشاطىء القريب بجوار بيتهم، غير ان الشافية سألت في سرها. (هذا ريش دجاجة أم ريش ديك؟) (الدجاجة حمراء أم بيضاء؟) (أاذا كان الريش الخشن لجناح الديك الريش الناعم للمؤخرة؟) في الفجر تركت الام ابنتها التي لم تصدق شخيرها الذي يشبه ماءًا يغلي، ابنتها النادرة في جمع فضلات الحيوانات وقد طبعت اصابعها على اقراص رشقتها بجانب الخص عسى ان توقدها في التنور او في مواقد الشتاء. كانت الام تصفق الخبز بحرارة النار التي كوت قلبها يوم سمعت البنات وخمنت احاديث أُخريات عشنّ معها في ايام الشباب، يوم تصعد مرتفعا وتنزل حفرة وعلوان وراءها. عرف طرقها وعرفت خطواته. كانت القفة التي تضم مجموعة (طاسات الخاثر) على صينية تعلوها صينية مثلها، أحكمت القفة بقطعة قماش وعقدتها من الاعلى. كانت خطواتها ثابتة غير مهتمة بحملها المستقر على رأسها دون ان تمسكه بيديها. كانت الطريق طويلة ونياسم الارض مملؤة بالاشجار التي ضيّعتها وضيّعته.. اياما، كان صوته يصلها قبل خطواته، لكنها لا تتوقف. وعندما انفلتت على الطريق الترابية، امام البيوت العالية توقفت ملتفتة اليه، تريده ان يرجع.. تبعها من بيت هابط لاذ في ركنه. خرجت من قصر ظهر وراء سياجه رجل حاول ان يسحبها من يدها فاسقطته ارضا بعد ان قلبت القفة على رأسه، سبحته باللبن الابيض. كان علوان يضحك عليّهما.على الرقية التي فتحتها على صلعة رجل آخر مَسك بدرفة الباب ليدخلها، كان هذا بفانيلته المرفوعة البطن وسرواله القصير. لم تصدق يوم تركه علوانُ نازف الوجه ومكسور اليد. قبلها، كان قد دخل البساتين المكتضة بالاشجار. وجدها امامه. دخلت اول منخفض جمعهما، هي تعرف مرامه لذلك اختبأت خلف الشجرة ليعبر وقد وجد نفسه ساقطا بقفتها الفارغة من اللبن. انتظرته ليغتسل في بركة ماء. مشى دون ان يكلمها لكنه وعدها بخيزرانته التي لم تفارقه. عض على شفته السفلى في الساعة التي دفعتها اربع او خمس نسوة إلى غرفة الطين يوم زواجهما. (ما غلبني ابن امرأة) في هدأة الليل كانت تكلم ابنتها عن خيزرانه التي لم تنسها كما لم تنس ساعة زفافهما وقد ازرق جلدها..انطرحت ارضا. ركلت بقدميّها ودافعت بيديّها وقبل ان تصرخ مسك بفمها الذي شرب الحليب في الصباح واللبن في المساء ولم يقل اويُقال عنهما.. قتلته.. البنت صاحبة الحيلة.
5
في ليلة، قبل ان تنام كلّفتها امها لمراقبة البقرة التي حفّلتها قبل اشهر من فحل الشريعة الذي عـدّه صاحبه، مران للركب وبالايجار. كالعادة تركت الحبل على الغارب وقد رأت ما يراه النائم، ان ولادة البقرة صعب وان الحولي في بطنها لم يتحرك وهذا ما اكده الحكيم الذي احضره والدها للولاده وان البقرة ستموت حتما اذا ما دفعت حملها بنفسها فهو لا يستطيع عمل ايّ شيء لها. ثمة فرصة يمكن الاستفادة منها قبل فوات الاوان، ذبّحها افضل من ان تُحرّم ويكون مصيرها للكلاب. اجهشت الام بالبكاء ورضي الاب بما سمعه من الحكيم الذي منعته الشافية من المغادرة. ركضت إلى غرفتها واحضرت سكينا حادة واسندتها على ساعدها وطوت قطعة قماش مع السكين حول يدها وجثت بمؤخرة البقرة (الضاوية) بعد ان انهكها الطلق. لم تقل ماذا ستفعل وهم لا يستطيعون منعها. يعرفون ان رأسها لا يلين بسهولة. دفعت يدها في حياء البقرة بعد ان رشقته بالماء لتغسل السائل الذي يتصبب منه. نطت البقرة عيونها التي كادت ان تخرج من حدقاتها. دفعت الشافية بخشبة صغيرة قبضة السكين من تحت القماش وبدأت تحرك يدها في بطن البقرة، دون ان يرى الحركة احد. بينما، كانت البقرة تخور بصوت مخنوق نطت عيناها اللتان كادتا ان تخرجا من حدقتيهما. كانت الام تتوسل بها والاب يأس من منعها فركض إلى ابن عمه القصاب لعل الذبح انفع طريقة. اما الحكيم فهرب من الحال حتى اكتفت لوحدها. اخرجت يدها بعد ان احكمت السكين تحت القماش تاركة الدم يتدفق مع الافخاذ وقطع اللحم والرأس وبقايا الحولي الممزق. في الصباح صرخت الام على ابنتها لعدم احضار الكانون لتدفئة البقرة ساعة ولادتها حولية ميتة، كانت قد سحبتها بنفسها دون سكين. لم تصدق حلمها الذي اقترب من الحقيقة لكنها صدقت موت البقرة بعد ثلاثة ايام لم يلحقن ساعة احتضارها حتى لمنادات قريبهن القصاب. وصدقت لغط البنات عليها وضحكهن ساعة ورودهن الماء او عند مرورهن قرب البيت، بل سمعت بعضهن من وراء سياج القصب، بمحاذاة دبوس فوطتها الذي تركته ولم تفكر فيه. (ما أصدق ان ساهي قتل نفسه اذا ما..) (يقولون كانت.. قبل ان يتزوجها) (ما تفارق بيتهم) (اظنها حاملا..) (استغفري ربك.. ابن عمها وتحبه) بأذنيها سمعت الكلام بعد ان كانت تكذب امها عن الذي تلوكه البنات بافواههن، سمعتهن امام الفطيسة وقد تجمعت الكلاب على جرف الشاطىء وتناهشت الانياب اللحم النيىء وبينما، الرائحة الكريهة تهاجم المارة والبيوت القريبة من هذه الفطيسة خرجت الشافية ليلا ولاول مرة فمنذ عملة الساهي قبل تسعة اشهر وعشرة ايام، لم يرها احد. قلبت الفطيسة في الماء ودفعتها بالمردي ليأخذها الجاري بعيدا. كانت الشمس مرتفعة بمرمى الرمح ورغم الشتاء وهواء الشمال البارد اخرجت الشافية ملابس نيشانها من الصندوق، دون ان تدفأ ماءا القتهن بالطست وقبل ان تغسلهن انتبهت إلى دشداشة ساهي بينهن. رفعتها لتقيسها على طولها فتبسمت لقصر قامتها وطول الدشداشة البيضاء. تحسرت واعادتها إلى مكانها. جلست في مشراقة الشمس سمعت صوت العصافير وهديل الفاخت بين النخيل. كورت نفسها متكأة على جذع نخلة مقطوع قريبا من الباب وسرحت بخيالها نحو الحكيم الذي رأته في الحلم والذي لم يلحق البقرة الميتة صباحا وكيف انه دخل عليها إلى البيت دون ان ينبهها فوجدها وقد رفعت ثوبها اعلى ركبتيها. انتفضت بلا شعور لتغطي جسدها، بل ارادت طرده في حينها لولا صوت ابيها الذي رحب به، آخذا المنجل منه وحديد المسحاة ليسنهما والحق دفعهما إلى ابنته لتساعده بعد ان اصبح عينا مفتوحة وجسدا مسجى. كان الحكيم، منذ دخوله منتبها إلى الشافية، بل قاصدها لنفسه. اما هذه الحجة وتوشير المنجل والمسحاة كانت فاتحة كلامه إلى والدها، لاسيما استعراض بطولاته يوم فتح لسان بقرة وكرد مسامير اللحم من فمها والحنجرة مستخدما موسه الخاص وكيف ازال المسامير ودعك مكانها بالملح وتراب التنور ليسمط جروحها النازفة. قال ذلك وقد قعدت في باب غرفتها ليُسمّعها لعلها ترضى ان يطلب يدها من الاب الكسير وقد اسر الخبر امها الداخلة توا حاملة على رأسها باقة الحشيش. اشارت إلى ابنتها ان تترك الباب وتدخل غرفتها لكي لا تسمع ما تسره للحكيم. فهو أعرف الناس واحكمهم لكتم السر الذي قرأه الاب على وجه امها، والتي تلعثمت في ان تقوله عسى ان يبارك الله للحكيم زيجته الثالثة، بعد ان تجاوز السبعين. كان الساهي امام الشافية واقفا، ليس بدشداشته التي نشرتها على جسدها في الغرفة. بل بشخصه العاري يوم شهدته.. اندفعت بجنون بعد ان سمعت كلام امها النازل مثل وابل الرصاص في احشائها إلى الملابس المنقوعة بماء الطست. القتهن في التنور المنطفيء. ثمة غبرة من ترابه ارتفعت بوجهها. لم تحسب لغضبها الذي اوقدها بدل التنور. صرخت بأمها ان تصمت او تقتل نفسها. صرخت من غرفتها بالحكيم ان يخرج حالا. قالت الام. (شافيــة؟) قالت الشافية. (انك حكيم حيوانات لاحكيم الشافية وانا لست..) لم يقل الحكيم شيئا كما انه اعتبر ان الفتاة خُلقت للزواج، (حرثة) تسري عليها الناس اذا ما يبس ماؤها، بينما هو جاء لسترها بعد ان عرف الامر من امها منذ ايام وعرفت ان امها لم تكتم سرها. لكن الذي اوقفه عند الباب صوت الشافية عليه. (لترى ايها الحكيم ومن الآن.. انني ما تراه ويراه الناس)
6
بعد شهر من خطوبتها يأس الاب والام والعمام والخوال وبنات القرية من اقناعها. فشلوا بالضغط عليها او تعبوا من تعذيبها او كيّها بالنار وشدها لعدة ايّام على جذع النخل وحرمانها من الاكل والشرب لعلها تعود إلى حالها وتعدِل عن جنونها الذي هبّط رأس والدها بالوحل، دون جدوى. كانت تقول لهم انا رجل مثل الجميع أدفع البلم وأحش الحشيش. اتحدى مَنْ يلوي ذراعي او يطرحني ارضا، افعل ما يفعله الرجال. فمنذ ذلك اليوم، لا تحب مَنْ يناديها بأسم الشافية. تريد من الجميع ان تسميّها الشافي، غير انها تتمنى ان تُنادى بساهي.. حتى امها التي تجالسها طوال الليالي والايام رغبت ان تناديها بالشافي بعد ان خذلتها السادة والعلاّم والمنجمين واهل البخت، احدهم طمأنها والآخر أسرها، ستموت يوما اوتُقتل اذا ما بقيت على هكذا حال. قال احدهم انها متزوجة بجنية وقد أمرها ان تتلبس بلباس الرجال لتحتمي من الخطّاب او تبقى رهينته. في غبش ما، كانت الناس نائمة بينما اهل الحلال دافعة بأبلامهم نحو اراضيهم. لا احد يعرف الآخر إلا عن قرب او يركب معه في البلم. فالجميع، تطوق اليشاميغُ وجوههم من البرد. حتى النساء كانت تتكور بعباءاتهن دون ان يظهر منهن شيء. كانت الشافية قد أعدت العدة وأحكمت ألامر. سرقت بندقية جدها (الموزر) التي نظفها من البارود ودهنها قبل عشرين سنة، في يوم ولادة ساهي. كان الجد قد اودعها إلى ابي الشافية الذي لفها بعد وفاة ابيه. محتفظا بوصيته عن البندقية، ان لا يبيعها او يسلمها إلى احد، إلا بيد الساهي عندما يكبر. قال الجد لولده: رافقه في الصيد. علّمه مهنتنا. ايّاك ان تنسى. غير ان المرض.. كان ابو الشافية يحسب لهذا اليوم الف حساب، فهو لا يفكر ان يُريها لاحـد او يرمي فيها إلا بزواج ابنته من الساهي الذي لم تناله القسمة. اما الشافية التي تعرف بالحجة اندفعت بالبلم دون ان تبالي إلى صوت امها وراءها وقد تفقدت المنجل والمسحاة وخنجر ابيها فعرفت الام ان المجنونة اخذتهن وراحت دون ان تعرف وجهتها. قال والدها تفقدي بندقية الصيد والقوان، يعني بها الاطلاقات المحفوظة في حزام الصيد، وقبل ان تصل إلى الغرفة سمعت اطلاقة البندقية التي اخرستها لكنها حركت قدميّها إلى الجرف لتجد كلبهم ميتا وقد رمته من بعيد . (عسى الله ان يحرقها بناره قبل ان تأتي لي بخزي آخر)قال والدها وصمت متحسرا للمرض الذي لا يبرحه والقوة التي لا تساعده في ان يقتلها ويرميها للكلاب او الخنازير التي واجهتها منذ اول خطوة خطت بها على ارض جدها مرهون. كانت ثلاثة خنازير واجهتها حال نزولها من البلم. خبرت الارض الهابطة من جهتها، الشاطيء القريب. يُمكنها ان تهرب او ترمي بنفسها في البلم، لكنها تسمرت بمكانها اخذتها الرجفة وبلا شعور مسكت المنجل في خصرها، لم تسحبه غير انها شدت بيدها على البندقية. انتبهت إلى الخنزيرين الآخرين، ان رمت احدهم سيتمكن الاثنان منها لذا عليها ان تتحدى الاكبر. ثمة حيوانات تقبل هكذا تحدي، لاسيما خنازير الاهوار. تقدمت الشافية إلى الاعلى حيث ترتفع الارض كلما خطت إلى الامام وقد اخذت اوداج الخنازير تنتفخ وجعيرها يعلو ويمتد مع امتداد ارض جدها وشاطئه الضيق. رأت ذلك بعينيها وتأكدت، ان لا خلاص سوى المواجهة التي دفعتها لتكون امام الخنزير الذي هاجمها. عادة تقف بقية الخنازير اذا كان الخصم واحدا. بسرعة التفت من جانب الخنزير المحنط الرقبة والذي لا يتمكن من الاستدارة بسهولة، او ان استدارته الكاملة مكنتها ان تتعلق برقبته وبخفة القصاب شجت رقبته وطعنته ببطنه. صار خلفها لتتمكن من احد الاثنين الذين بقيا، غير انهما هربا بين القصب والبردي. وقبل ان يغيبا ارسلت اطلاقة صيد نحوهما دون ان تتبعهما. كان عليها ان تعود ولكن شروعها في ان تتخذ المكان ملاذا جعلها تمسك الموزر وتغور ببطن القصب وقد عادت اليه طيور الغاق والكركي والفاخت وبجع الماء والحر والبراهين.. بعد ان فززتها بالاطلاقة الثانية. رجعت إلى البلم انزلت منه المسحاة وتذكرت ان تربطه جيدا. القت المنجل على صدر البلم وغسلت السكين بالماء. وسنتها بحديد المسحاة. احكمتها ببند البردي المبروم والذي يتحزم به اهل الاهوار. تيمنت ببندقيتها واندفعت حانية الظهر، متلبدة بين القصب والبردي. عيناها على النهر الشديد الانحدار من جهتها، بلا شك، ترى القادم قبل وصوله وبندقيتها لا تخطأ احدا. لاسيما وان الارض العالية قليلا جعلتها تشعر براحة وهي تسحب كيس التبغ ودفتر اللف لتبرم ورقته الرقيقة، واضعة التبغ المحصور بين اصابعها وبأستدارة الورقة تقطع حافتها باسناها البيض ثم تبلها بلسانها الدقيق. تحبسها بحكمة الاصابع الدائرة لتعلن في سريرتها عن اول سيجارة تدخنها، عادة كانت تبرم لابيها السيجاير لكنها تكره ان تضعها في فمها كما انها تكره ان ترى الساهي مدخنا. اشعلت عود الثقاب وسحبت نفسا عميقا جعلها تسعل مختنقة من الدخان الكثيف، لكنها اعادت الكرة ثانية لتكمل سيجارتها متحسبة من جمراتها ان تحرق دشداشة الساهي التي اقسمت ان لا تخلعها ما زالت حية. الآن، عليها ان تلحق الرجال باعمالهم. اخرجت الموسى وماكنة الحلاقة وبدأت تحلق لحيتها وشاربها، لعل الخشونة تدب على وجهها الصافي كالحليب. مسحته بغترتها التي تركتها على كتفها وقد اصبحت ظفيرتاها وشعر رأسها الطويل في خبر كان.. كانت رغبتها ان لا تفاجيء الجميع بفعلتها، او انهم سمِعُوا بها قبل رؤيتهم لها. كانت تريدهم ان يروها من بعيد وبعدها لا تسمح لاحد ان يقول فيها شيئا..فعند رؤيتها لاول بلم يقدم قريبا منها تسحق عقب ثالث سيجارة لتطلق دون انتظار رميتها فوق الاشجار تاركة الطيور فزعة في السماء بينما اهل البلم المصعوقون من الصوت يكفون عن الدفع، احدهم مسك بندقيته بينما الآخر منعه وقد عرف ان رجلا يتصيد الطيور في ارض آل مرهون، بل تأكد بعد ان اقترب قليلا، من صاحبة الاطلاقة الاخرى.
7
في العصر، كانت الشمس تمد ظلال الاجساد، تضاعف اطوالها. تنشر اشعتها على صفحات الماء، تمد انعكاساتها على الامواج الرجراجة. تهز صور النخيل والاشجار في جرف الشاطيء وتطوي مرادي البلامة التي تهم بالسرعة قبل المغيب. كانت الشافية ببلمها خفيف الحمل تثبّت مرديّها بطين الجرف من جهة الشاطيء لكي لا يسرح بعيدا. تنزل(بشكات السمك) والطيور المذبوحة، تطرحها على الارض. تتلقاها امها بعينينها الحمراوين الباكيتين طوال النهار. (خزيّتينا ..شافيه سوّدتي وجوهنا) تضحك الشافية غير مهتمة بما سمعت. شدت البلم بالنخلة القريبة. رفعت المردي ونزلت بجانب البلم لتدفع الكلب الذي قتلته صباحا، يأخذه الجاري حيث يريد، لئلا تنهض رائحته او تمزقه الكلاب. رفعت بهمة حِملةَ الحشيش المربوطةَ ببند البردي تاركة الثانية لأمها بعد ان عادت لتلقي المنجل والسكين والبندقية وكتافها قليل الاطلاقات قرب والدها المغمض العينين الممدد على فراشه دون ان يكلّمها. لحظت دموعه الخرساء على وجنتيه. (سيتعودون..) قالت في سريرتها ومضت إلى الحمام. عارفة بهمهمات والدها ومحاولته لمسك البندقية التي فرّغتها امها من يديه وابعدت السكين بعد ان اصر لقتل نفسه. كان قرار الشافية حادا وطريقها مفتوحة.. تلقي بدشداشتها البيضاء و كوفيتها المرقطة على الحبل. أبت ان تستخدم ايّ شيء نسائي، لمت جسدها بعباءة رجالية قديمة، كانت تستخدمها عند حلب الجاموسة اما البقرة الثانية فقد تعودت عليها. كما تعودت الام فيما بعد على رجولة ابنتها وقرعتها وحلاقة ذقنها الذي لم ينبت حتى زغبا.
قبل المساء، حيث تتجمع الرجال عند مران الفحل، في غرفة الشريعة المبنية من القصب والمرتفع حائطها من جهة الشاطيء حتى جرفه المنثور إلى الداخل بالحشيش اليابس. كان السقف المسند بالخشب والبواري يحمل اضعافا من باقات الحشيش والبردي اليابسين كما يمنعا خرير الامطار في الشتاء وحرارة الصيف من الاعلى. كان مران يعد العدة في دكانه، الغرفة. يحضر الشاي ويبيع الكيك والخاثر وخبز البيت الذي تجلبه حكيمة الخبازة في الصباح. يبيعه على صَفافة السمك وبائعي الطيور ومكاريّ البلامة واصحابها. كأن الذي يسمع بأسمه يتصوره كبير الجثة، فحل جاموس، بينما هو ضعيف البنية احدب الظهر وناتىء العظام. كثير الصمت لكنه خبيث الطبع، اذا تكلم جرح جليسه. بل ما من فتنة اٍلأ ومران وراءها. كانوا يسمونه بالفحل لما يُجنيّه وراء غرفته من عجول وثيران لركوب البقر والجاموس. كانت اجرة ركبات الفحول الدنانير والحشيش الذي لا يتعب به يوما. وصلت الشافية لاول مرة بدشداشة بيضاء رجالية وكوفية تنسرح على كتفها وعصاة تحت ابطها، اسوة ببقية الرجال. كانت القرعة لاصفة بفعل اشعة الشمس التي شارفت على الغروب. بينما هي تمسدها تسقط العصاة منها، تنحني لاخذها. تلحقها الكوفية إلى الارض. تحاول ان تمسك نفسها لتتطلع بالعيون التي تحدق ببعضها وقد انسحب اصحابها يتضاحكون خارج الغرفة التي دخلتها مُسلّمة كأي رجل آخر. حاولت ان تغض البصر او تتحمل ما يمكن ان يدلونه من كلمات تحط بكرامتها. كان مران يصب الشاي إلى القادم بعد ان يصبحه او يمسيه بالخير، لذلك صمت لحظة ثم قال: ( الله بالخير) انتبه الحاضرون إلى عدم كنيتها بالرجل او المرأة كما انتبه من بقي إلى صوتها الذي دفعته ناعما رغم تقصدها.. انتبهوا إلى ملابسها والدشداشة التي قَصّرتها ولقطَتها بيد ماهرة، لم تَظهر عيوبها لولا خرزات قليلة فضحت الخيط الرصاصي على القماش الابيض المكوي بضغط الفراش. ( ياأخي حلوة كأنها القمر) (بَطّلْ كلام. غير ساعة..) (شنو القصة. كلنا رجال.. اكو عيب. انا ما قلت شيء) عرفت الشافية مقاصدهم فاطرقت الرأس لنظرات صاحب المحل الذي قال للمتكلميّن ان يكفا بعد استجابتهما لغمزاته. (هذا مجلس رجال والكل تعرف. المرأة تأخذ حاجتها وتروح) (انت على باب الله. ونحن نريد انسولف، اكو مانع؟) (لا، كل من ينام على الجهة التي تعجبه) (عيب، ينام.. أش تقصد؟ يعني شفت شـ..ما اريد كلام بالمحل هذه زحمة) لم ترفع الشافية رأسها ولم تنظر إلى الداخلين او الصامتين. غير ان أذنيّها منتبهتان إلى حديث مران والصاحبين في زاوية المحل لكنها وعند قيامها تاركة الشاي دون ان تدور الملعقة فيه، غفلت عن يد احدهما وقد تناول عود العنقر الطويل، لكزها بمؤخرتها فأجفلت وقبل ان تسمع ضحكات الجميع هوت بعصاها على رأسه ليصمتوا امام شخيب الدم النازف وكسر يد الآخر وقلبَ موقد الشاي الذي لم يتمكنوا من اطفائه حتى بماء الشط القريب وقد بلع كلماتهم قبل رماد الغرفة وصراخ صاحبها الفحل. 8
طوت الأيام الغيظ وجاء الرضى. خسر الذي لكزها بالعود في دكان مران. عهد اهل الشافية، ان لا يدخل الشريعة اِلأ بعد حولين كاملين. الجميع اخذوا عبرة من الحادث الذي عرفه الداني والقاصي كما ان الشافية عرفت قدومها ومجالستها مع الرجال يريد ثمنا، لذا عليّها ان تكون حذرة وان لا تدب قدماها غرفة مران، لكنها لم تغير نظراتها الشرسة نحو من يريد الانتقاص بشخصها. كانت تجلس على الشاطيء، متخذة الشريعة وامتداد النهر المتصل بالمدينة مثوا لها. تحدق بزوارقه البيضاء السريعة. تتذكر احاديث امها وبُعد البصرة التي كانت تقطعها الناس مشيا، حفاة. بعضهم ينتعل عند دخوله المدينة واذا وصل خبره القرية، صار اضحوكة. فوالدها الوحيد الذي تمكن من دخول القرية بنعاله بعد ان طرده مرهون جدها لهذه الفعلة المدنية ثم تبعه آخرون اشتغلوا بمراكب الهنود واحمال البواخر في الميناء. بعضهم سكن هناك وآخرون رجعوا وبيدهم سيجاير الفلتر والعرق المسيح الذي رأته في يد لفته المعيدي فأندفت اليه لتثبت رجولتها امامه. كان لفته يأخذ يوميته من باعة المدينة القادمين لشراء السمك او الطيور، يعتبرها(إتاوة)القوة للعضلات. اما الذي لم يعطه يمنعه من نزول الشريعة، بل يتبعه إلى البصرة حتى يأخذ (كَودَته). احدهم امتنع لدفع نزلة لفته، معتبرا القوة هي الفيصل بينهما متناسيا او لا يعرف ان المعدان يتذمرون من فعلة ابنهم لكنهم لا يعطونه لاحد، دون ان يعلم انتشار الرجال حول ساحة النزال ومرادي الابلام وعصيّ المعارك تلوح بايديهم هي لمقتله حال مصرع ولدهم. كان يعتبر الجميع اصحاب نزهة او اضحوكة على لفته الذي قَدِمَ بينهم متحديا العاصي ان يختار، بليّ الاذرع. المصارعة او الدفع بالاكتاف غير انه طلب المبارزة بالعصي، جاعلا التحدي للجميع، فالمعدان اصحاب فن بمعارك العصيّ ولايمكن لمدنيّ او حضريّ ان يغلبهم. مسك الرجل العصا من يد مران شديد التمنى لفج رأس لفته الذي يصل اليه الشاي والقيمر والخبز الحار إلى نزلته التي يشرب فيها دون ان يعطيه ثمنها ولو مرة واحدة. كان المتحدي يطوي عصاه الطويلة بالهواء بينما لفته يرميها إلى الشافية التي غمزت اليه لتكون كفايته، لم يكن الرجل عارفا بقصتها لكنه رفض لقاءها، فهي ضعيفة الحال على الرغم من تبجحها ومحاولتها اقناع الجميع بقوتها فالخصم بالنسبة إلى عضلاته ورباعة جسمه المفتول قبالة لفته الذي اراد ان يضرب عصفورين بحجرة واحدة، ان يمنع الشافية من رجولتها ويهشم رأس الرجل بمرادي المعدان. لكن الشافية صاحبة شأن لا يعرفه الأ الساهي الذي درّبها لأيام في ارض جدهما آل مرهون. اخذت السيجارة من فم رجل وقف بجانبها، لاعبتها بين شفتيّها كما لاعبت العصا امام الجميع. دار الرجل والشافية دورات متكررة حول الساحة التي سيّجها الرجال باجسامهم وعصا الخصم تهبط ليعيدها الآخر بصوت اعتادوا عليه في المعارك التي لم تنقطع غير ان فزعهم بان واضحا امام الغرباء وباعة السمك بسبب الاكتاف التي تعبت دون ان يطرح احدهم الآخر. كان لفته المعيديّ قد ادرك من صد الشافية الاولى لعصا الرجل انها تريد ان تتعبه فهو ممارس منذ طفولته بلعبة العصا والمبارزة التي لا تنقطع منذ ان تركه ابوه بعد ان قُتلت امه لزواجها غير الشرعي من والده الذي تزوج بعدها تاركا ابنه يدور كما تدور عصا المتخاصميّن. لا احد يصدق ان النزال استمر لساعتين وان الانثى التي اصبحت ذكرا مَتّعتْ الجميع بفنونها لاسيما وهي تضغط على عصاه الهاوية بقوة إلى الأرض، كادت ان تقتلها لولا براعتها التي اعادة الكرة عليه وقد اصبح على ارض الشريعة نازفا، فاقدا للوعي. أخذ مران الحذر منها. سحب المصروع لمداواته، بل الجميع اخذوا الحذر من قدرتها، انتباهتهم إلى عقب السيجارة الذي انطفأ في فمها ساعة النزال دون ان تلقيه ارضا حتى ساعة نزولها بالماء وقد توقفت لحظة، تمنت خلالها ان تخلع ملابسها وقد تبعها لفته دون ان يترك الخمرة من يده ناولها امام الجميع، وسط النهر لتشرب من فم البطل المفتوح عرقه المسيح. كانت تتمنى ان لا يحدث كل هذا لئلا تعشقه، اذ انها عدلت بالنظر إلى الشاطئ الذي يندفع بمائه إلى شط العرب ثم إلى البحر مكتفية بنهرها الضيق والعميق وإلى لفته الذي عاش معها صداقة رجل لرجل. كانت تغيب مع لفته لايام ثم تعود وقد اغتابها الجميع. حتى امها التي اقسمت ان لا تحدّث ابنتها المدمنة على الخمرة بأي شيء بدأت تشك في علاقتها معه، لاسيما وهو طويل القامة. اصفر العينين، حاد النظر. كثيف الشعر، لا يحب الغترة أو العقال لكنه يرتدي دشداشة كسائر ابناء القرية ورجالها. كانت تأتي إلى دكان مران تشرب وتأكل بأسم لفته متناسية عهدها يوم حرقت الدكان، ان لا تدخل هذا المكان وترى فيه حكيمة الخبازة عشيقة صديقها لفته. كانت حكيمة تبغضها منذ ان رافقته بينما، هو يجن جنونه اٍن لم ير خبازته. غابت الشافية معه لأيام ثم عادت والوشم يملأ ساعديّها، حياتي عذاب. لاحياة بعدك.. اخي لفته... مَنْ وشم هذه الكلمات. من ادخل "الرجل( الشافية) ذا القرعة بغترته المرقط والمنسرحة على كتفه، الدشداشة البيضاء وبقعة الدم المنتشرة بين فخذيّه ، من ادخل هذه الثمالة إلى دكان مران، امام حكيمة التي مسكت الصينية، عازمة على الفضيحة التي شرعت بها امام الجميع. غير أن فرصة مران، صراحته التي لم يجاريّها احد كانت الاسبق. (حكيمة ان ملابسك وسخة ألم تعرفي انك امرأة وعادتك الشهرية..؟)
9 كان لموت ابيها وشماتة ابناء عمه واخيه بما اصابه ورحيل امها المفاجيء مصيبة لا تقل عن المصيبة التي المت بها. تذكرت ابيها وامها، لم تغسل دمها في الشاطيء. لا تعرف لماذا اخذتها قدماها إلى البيت بعد أن منعت نفسها من الدخول اليه جاعلة من مقاهي الدومينو وحانات الشرب في المدينة والشريعة مأوى استطاعت من خلاله ان تتناسى جنازة ابيها يوم رفعها الغرباء اثر قطيعة اقاربها منذ مقتل الساهي وتمردها وما الحقته امها من هجرة لا تعرف جهتها، كانت الام قد تركت كل شيء على مكانه، أوردت البقرة الماء ونشرت تحتها الحشيش بينما اخذ الجاموسة رجل استدانت منه مبلغ عزاء زوجها ومراسيم دفنه. ادخلت الدجاج إلى القن وأحكمت بابه بقطعة خشب وبرميل فارغ. خرقت البلم في الجرف لئلا يأخذه الجاري إلى الشاطئ البعيد ثانية. بينما غابت ام الشافية عن الانظار قطعت البقرة الحبل هاجت إلى الشريعة وقد اصابها الجوع لثلاثة ايام نبهنّ الشافية لتبيعها وتتصرف بثمنها على طريقتها. ازاحت البرميل الفارغ بهدوء ودخلت كأنها لم تفارق بيتها يوما. كان لمسح نظراتها، الخص المائل للقادمين. ريش الدجاج وبقايا عظامه المنثور في الباحة احساسا، بل يقينا بفراغ البيت واكتمال وحشته. دخلت إلى غرفة ابيها. قلبت فراشه المترب، براز القطط والكلاب. المنجل الصدأ. ادوات التوشير. لم تجد صندوق السيسب المنجم، البندقية التي صدع صوتها في ارض جدها الذي لم تره، لكنها وجدت قطعة قماش ملفوفة مثل كرة ومعلقة بمسمار على حائط القصب، كانت القطعة مملؤة بالتراب. اخذتها وفتحتها وكأنها تعرف ما تتمناه الام لأبنتها. كانت آخر ثوب لها قبل النيشان الذي أُعد لزواجها. ارتدته بلا ادنى تفكير. فكرت ان تخرج إلى الناس بلا عباءة لتراها كما هي، لكنها اندفعت إلى بيت البقر، انيس الطفولة ومكان الولد الذي سحرها لاول مرة. كانت عيناه تقرأ قلبها فاندفع اليها، ليقبّلها قبل ان يكلمها يوم كلّفه عمه بمساعدتها، لا سيما هي حليلته القادمة. اراد ان يطرحها ارضا على الحشيش المنثور فازاغت بجسدها كيومها، هذا، لترى صاحبة القِدر التي اغمضت عينيها ولم تغمض عينيّ الساهي في حديثها مع صاحبات الماء اللائي شاطرنها الرأي واحكمن موت عشيقها قرب السدرة. رأت الشافية الفتاة الثانية ولم تر الرابعة او الخامسة وقد ادلقن الماء على اجسادهن ساعة شجارهن. تلصصت من وراء الخص فوجدتها عارية تحت الرجل المملوط كما خلقته الدنيا والذي ترك عقاله ودشداشته في ركن بيت الحلال بينما علقت ملابسها أعلى الخص. عرفتها كما عرفت نفسها. اضمرت الستر لهما لكن الصاعقة افلتت عقلها، اذ رأت الندبة الكبيرة السوداء بين الفخذين والمؤخرة الطافحة. عرفته جيدا، بل تذكرته وكأن الساعة التي انفلتت منها ولم تنفلت الآن، امسكت وتد البقرة النابت في الارض. رفعته بقوة ارعدت الفتاة الهاربة بعباءة الولد الذي أراد ان.. لكن الوتد اسرع من يده التي كُسرت وقد تبعته بضربات غير منقطعة، اهلكتها، بل تركتها قبالة دمه باكية بحرقة لم تشهدها يوما. بقيت الشافية على حالها. لم تحرك يدا ولا قدما حتى منتصف الليل. جمعت اكوام البردي والقصب اليابس والحشيش على جسد القتيل. اندفعت إلى زاوية البيت لعلها تجد نفطا كانت تتركه ايام زمان فلم تجده. دفعت يدها لتجد عود ثقاب، ضحكت لفراغ السيجاير من جيبها. تذكرت الفانوس المنطفيء. قلبت ملابس القتيل. وجدت علبتي الثقاب والسيكاير. سحبت واحدة ثم كسرتها، وقبل ان تشعل النار كومت ملابسه وملابس البنت الهاربة سوى عقاله الذي رمته في وسط الشاطيء ودشداشة الساهي التي وقفت بها على صدر البلم المخروم لتنظر إلى النار الحامية في بيتها وقد تفرجت الناس عليه، لم تطفئه او تعرف ان قتيلا يحترق فيه. الخاتمـــة تعبر خطواتها الجادة والنسيم الذي يمتد إلى بيت الساهي الذي لم تصله منذ حماقة القَدر، تحت شجرة السدر وقرب النخيل وحشائش المران والايشانات المحاذية للشاخات، نقيق الضفادع ونباح الكلاب التي لم تترك اهلها. تتقرفص الشافية مثل طفل تائه تقمصه الخوف والبرد والليل الطويل. تحدق بعينيها العسليتين إلى الشجرة التي كسرت غصنها وإلى المرتفع الذي لم تر الدشداشة عليّه كما رأتها... ثمة نسمة لفحت جسدها، يد لامست عريها الذي لم تكشفه منذ ثلاث سنوات، هدهدت صدرها المرتفع أكثر مما كانت تتمناه مع الساهي. انتشت لتفتح ازهاره، بروز حلمتيه، صعوبة إخفائهما. استعداد شفتيّها لان تقبّله او تقول له: (لم أتركك هذه المرة. وهبت لك جسدي واحشائي التي تركتهما قبل يلعب فيهما طفل تمنيته ان يزيد هذا العناء او يكبل يديّ، يذبح النية التي لا مناص من اتخاذها..) صعدت على أغصان الشجرة. فتحت زيّقها النضر، ثمة هواء يطهر بعض آلامها، التي تركتها مع نار البيت والقتيل. كانت الطقطقات والعصافير قد اندفعت في الفضاء، كسرت غفوة مسائها، اخفت روحها ولم تتمكن على جسدها الذي بقي عالقا امام انظار المتجمهرين. ................................................................................. ثمة طواف جمع الناس ثانية. لم يجمعهم الضحك او الصراخ.. بل الذكرى القديمة التي دفعت بهم إلى السؤال..
(مَنْ فعل بها هكــذا؟) كرر عمها الذي لم يصل المكان ولم يحضر جنازة أخيه مكتفيا ببكائه وصراخه في بيته يوم سَمع بموته البطيء. خنقتهُ العَبرةُ أمام الجميع لكنه لم يبكِ. (يا مصيبة المصيبة) تحرك إلى الحبل حاول ان يقطعه. (ما لكم تتفرجون عليّها؟) بينما حفظت الفوطة الداكنة بدبوسها الذي رفعته من الخص قبل حرقه والثوب الأخير الذي تركته أمها ساعة الرحيل معلقا، جسدها الحالم منذ المساء بدشداشته التي لم تفارقها يوما، الا هذه الساعة. كانت قد تركتها بجوار السدرة، أعلى المرتفع. قَدِمَ أبو الساهي إليها فوجد المنجل الصدأ تحت الدشداشة. اخذه متوجها إلى الحبل الذي قطعه كما قطع القَدر بابنه وأخيه وابنته الهاوية إلى الأرض دونما ضجة، ثمة جعجعة من غبار خفيف هبط إلى أرضه. (نطت الحبل عينيّها.. قتلها..) قال احدهم. بينما، قلت انا قاصكم الفقير.. (لو كانت هكذا لتُركَتْ عارية).
#صلاح_عيال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|