محمد غفير
كاتب و مدون
(Mohamed Gafir)
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 07:52
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
مقدمة
القضية الفلسطينية لم تكن يومًا شأنًا محليًا أو نزاعًا محدودًا على أرضٍ صغيرة، بل كانت رمزًا للكرامة العربية وميزانًا لضمير الإنسانية. هي قضية الأرض والهوية، والعدل والاغتصاب، والمقاومة والخذلان. ومع ذلك، تحوّلت مع مرور العقود إلى ما يشبه "الورقة السياسية" التي يتاجر بها الجميع: حكومات، أحزاب، زعماء، وحتى طلاب الجامعات في اتحاداتهم. الكل يرفع رايتها، لكن قليلٌ من قاتل لأجلها بصدق.
لقد قال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد ذات مرة:
"إن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية احتلال، بل قضية سردٍ وحقيقة، قضية من يملك الحق في أن يروي القصة".
لكن اليوم، يبدو أن القصة تُروى بأقلامٍ كثيرة، أغلبها مأجور، وأصواتٍ مرتفعة تملأ الشاشات ولا تفعل شيئًا على الأرض.
---
منذ نكبة 1948... ماذا قدّم العرب للقضية؟
في مايو 1948، حين أُعلنت دولة الكيان الصهيوني، كانت الجيوش العربية على أبواب فلسطين، وقلوب الشعوب تغلي. لكن ما لبثت أن تحوّلت الهزيمة إلى نكبة، ثم إلى نكسة، ثم إلى حالةٍ دائمة من التبرير.
منذ ذلك التاريخ، تعاقب على المشهد العربي عشرات الملوك والرؤساء والقادة، وكلهم رفعوا شعار "دعم القضية الفلسطينية"، وكلهم جلسوا على مقاعد المؤتمرات والقمم العربية ذات الخطابات المكرّرة: "نستنكر، نندد، نطالب المجتمع الدولي..."، لكن دون فعلٍ حقيقيّ.
لقد قال جمال عبد الناصر في خطابٍ شهير عام 1965:
"القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى، ولن يتحقق النصر إلا بوحدة الموقف العربي".
لكن ما لبثت أن تبخّرت الوحدة، وتحوّلت الشعارات إلى بيانات باهتة تُكتب في فنادق فخمة ثم تُلقى في سلال المهملات.
---
الجامعة العربية... مؤسسة الشجب والاستنكار
منذ تأسيسها عام 1945، لم تستطع الجامعة العربية أن تترجم بياناتها إلى قرارات فاعلة، وظل دورها في كل حربٍ أو أزمةٍ فلسطينية لا يتجاوز إصدار البيانات، وتشكيل "لجان متابعة"، وعقد "اجتماعات طارئة".
فهل أوقفت الجامعة يومًا عدوانًا؟
هل استطاعت فرض عقوباتٍ على الكيان الصهيوني أو داعميه؟
هل نجحت في دعم الفلسطينيين اقتصاديًا بما يوازي الدعم الغربي لإسرائيل؟
الجواب معروف: لا.
كتب محمد حسنين هيكل في إحدى مقالاته:
"الجامعة العربية تشبه مريضًا يحتضر، كلما حدثت نكسة، اجتمع الأطباء ليتناقشوا في الأعراض بينما الجسد العربي ينزف بلا دواء."
إنها حقيقة مرة: المؤسسة التي وُلدت لتوحيد العرب أصبحت شاهدًا على تمزقهم، بل وغالبًا ما تكون غطاءً لعجزهم أو تواطؤهم.
---
الحكام العرب... بين الشعارات والمصالح
في العلن، يظهر ملوك ورؤساء الدول العربية مدافعين أشداء عن فلسطين. تملأ صورهم شاشات الإعلام وهم يتحدثون عن "القدس الشريف" و"حق العودة" و"الدولة المستقلة". لكن في السر، يفتح بعضهم أبواب التطبيع، ويقيم العلاقات الاقتصادية والأمنية مع الكيان الصهيوني بحجة "الواقعية السياسية".
وقد تجلى هذا النفاق السياسي حين قال رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في أحد تصريحاته:
"كثير من القادة العرب يدعموننا سرًّا أكثر مما يعلنون العداء لنا في العلن، لأنهم يعرفون أن مصالحهم معنا أكبر من شعاراتهم أمام شعوبهم."
وهنا يتجسد قول الله تعالى:
{إِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} [البقرة: 14].
فأيّ خيانةٍ أبشع من أن تُستبدل دماء الشهداء بمشروعاتٍ تجارية واتفاقيات أمنية؟
---
المتاجرة بالقضية من الشرق إلى الغرب
لم تقف المتاجرة بالقضية الفلسطينية عند حدود الحكومات العربية، بل امتدّت إلى القوى العالمية والإقليمية التي جعلت منها ورقة ضغطٍ في لعبة المصالح الدولية.
إيران تتحدث عن "المقاومة الإسلامية" وتدعم بعض الفصائل، لكنها في الوقت ذاته تستخدم القضية كأداةٍ لتوسيع نفوذها في المنطقة.
روسيا تُدين العدوان في الإعلام، بينما تبيع السلاح للطرفين وتستغل المأساة لتذكير واشنطن بنفوذها القديم.
الصين تُصدر بيانات التعاطف، لكنها تحافظ على علاقاتها التجارية مع إسرائيل، لأنها لا تريد أن تغضب الولايات المتحدة.
وحتى كوريا الشمالية، رغم بعد المسافة، وجدت في فلسطين فرصةً لتأكيد تحديها لأمريكا لا دفاعًا عن الفلسطينيين بل نكايةً في خصومها السياسيين.
القضية إذن أصبحت "رمزًا استراتيجيًا" أكثر منها "قضية إنسانية"، تُستخدم لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، كما قال المفكر الفرنسي جان بول سارتر:
"حين تتحول المأساة إلى وسيلة سياسية، تُفقد الإنسانية معناها."
---
فلسطين بين المقاومة والخذلان
ورغم كل هذا، ظل الشعب الفلسطيني وحده في الميدان.
أجيالٌ متتابعة وُلدت تحت القصف، كبرت في المخيمات، وتعلّمت في مدارسٍ بلا سقف.
من النكبة إلى الانتفاضة الأولى ثم الثانية، وصولًا إلى حرب غزة الأخيرة، لم يتوقف الفلسطينيون عن المقاومة، بينما اكتفى الآخرون بالتفرج والتصريحات.
في الحرب الأخيرة على غزة، سقط آلاف الشهداء، ودُمّرت البيوت والمستشفيات، بينما اكتفى القادة العرب بـ"القلق البالغ" و"الدعوة إلى ضبط النفس".
كأنّ فلسطين لم تعد قضية وجود، بل فقرةً في نشرات الأخبار.
---
الشعوب العربية... الضمير الذي لم يمت
لكن على الجانب الآخر، لا تزال الشعوب العربية – رغم القمع والتهميش – تُعبّر عن وجعها وغضبها كلما اشتعلت الحرب في غزة أو القدس.
من المغرب إلى الخليج، يخرج الناس يهتفون باسم فلسطين، يرفعون علمها في الميادين، ويتحدّثون عنها في المساجد والمدارس ومواقع التواصل.
هؤلاء البسطاء الذين لا يملكون سوى الدعاء والدموع، هم البقية الصادقة في زمنٍ تزيّف فيه الشعارات.
قال الشاعر محمود درويش:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات، أم النهايات... كانت تسمى فلسطين."
نعم، ما زالت تستحق الحياة، لأن دماء الأطفال التي تُسكب كل يوم في غزة ليست مادةً للإعلام، بل شهادةً على أن الكرامة لا تموت.
---
لماذا فشلت القضية في أن تبقى حية؟
لأنها فُقدت بين مصالح الحكومات وتناقضات الفصائل.
لأنها لم تعد قضية عدالةٍ فقط، بل تحوّلت إلى "ملف تفاوضي" يُفتح ويُغلق حسب موازين القوى.
ولأن العالم العربي غارق في خلافاته الداخلية، من حروبٍ أهلية إلى صراعاتٍ مذهبية، فلم يعد هناك وقتٌ للقدس ولا لغزة.
إن فلسطين ليست بحاجة إلى مزيدٍ من الخطب، بل إلى إرادةٍ حقيقية، إلى مشروعٍ عربيٍّ موحد يعيد تعريف العدوّ والصديق.
فالقضية لا تموت لأنها ضعفت، بل لأن من يتحدث باسمها لم يعد مؤمنًا بها.
---
خاتمة: بين الحقيقة والزيف
لقد أصبحت القضية الفلسطينية مرآةً تكشف عورات الأنظمة العربية وتفضح نفاق العالم.
هي المقياس الحقيقي للضمير الإنساني.
ومن المؤلم أن نصل إلى زمنٍ يُقال فيه: "القضية الفلسطينية أصبحت قضية من لا قضية له".
لكن رغم كل شيء، تبقى فلسطين رمزًا خالدًا في الوجدان العربي والإسلامي، لا تموت بموائد التطبيع، ولا تُمحى بخرائط الاحتلال، لأنها محفورة في ذاكرة الأحرار.
قال المفكر الجزائري مالك بن نبي:
"ليست المشكلة أن يحتل العدو أرضك، بل أن يحتل فكرك وضميرك."
لذلك، سيبقى الصراع من أجل فلسطين صراعًا على الوعي قبل أن يكون صراعًا على الأرض.
وستبقى فلسطين، مهما تكالبت المصالح، قضية الأحرار في وجه المتاجرين.
#محمد_غفير (هاشتاغ)
Mohamed_Gafir#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟