نصر حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1827 - 2007 / 2 / 15 - 05:25
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
عامان مرا على غياب الشهيد رفيق الحريري رمز الوحدة الوطنية التي لخصت وحدة لبنان وحضارته وامتداده الأصيل عربيا ً ودوليا ً, الرجل الذي أصبح رمزا ً مشرقا ً في تاريخ لبنان والمنطقة والعالم , الرجل الذي كان الجامع المشترك لجميع اللبنانيين ومثل الرد الوطني على موجات من التقاسم والتفتيت والحروب الأهلية العربية والإقليمية واللبنانية التي عصفت بلبنان وأدخلته في أتون صراعات الأبناء والأخوة والأعداء في طيش وعبثية وخوف من تجربة عربية فريدة لايريدها كل أعداء لبنان ,أعداء التجربة المضيئة الديموقراطية في ظلام المنطقة وتخلفها وطغيان النظم الفردية فيها والوصاية عليها, المهندس الذي أعاد رسم خريطة لبنان في ظروف عربية وإقليمية ودولية متحركة وغير ثابتة على قرار على دعامتين أساسيتين نحتهما في صخر الظروف الداخلية والخارجية الغرانيتية بصبر وإرادة وإيمان بحتمية انتصار الحياة على تجار الموت الذين انتهكوا بيروت وعاثوا فيها فسادا ً وتخريبا , دعامتين بنى عليهما صرح حضاري هو سر لبنان وكينونته ودوره في شرقنا العربي الذي أراده الشهيد آمنا ًمشمسا ً منيرا ً ومبتسما ً وأراده الأشرار مخيفا ً حزينا ً وظلاميا ً باكيا ً على الدوام , دعامتين هما الشعب الموحد والإرادة السياسية الحرة التي تنتمي إليه وتحمل كل همومه وأحلامه وأهدافه في دولة حرة متطورة ديموقراطية مستقلة وعمل ليل نهار بكثير من الصبر والإصرار على البناء وبقليل من الكلام , الرجل الذي تجاوز بصمت وعمل كبير الحسابات السياسية التقليدية وأخذ أبعاد مشروع نهضة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وقيمية أرسى أسسها في لبنان وبدأت تنمو خارجه في منطقة فاقدة المشاريع والمعايير والإرادة معا ً.
عامان مرا على الزلزال المتعدد الأشكال : أولها سياسي ضرب لبنان في قلبه ولازالت قواه الإرتدادية تهز لبنان والمنطقة بعنف تدميري مخيف , وثانيها تفكيكي لسحب محورالحركة اللبناني فيها لتصبح حركتها محكومة بقوى خارجية تدفع لبنان بالإتجاه الذي تريد , وثالثها أهلي بنزع الخيمة الوطنية التي تجمع وتحمي جميع اللبنانيين وتقطيع روابطهم وتركهم فرادا ً في ظروف أكبر من قدرة الأفراد والأحزاب والطوائف بل وحتى الدول , ورابعها حضاري يثير نقمة المغتصبين للأرض والحقوق ومدعي الحضارة والديموقراطية في منطقة تفوح منها روائح التخلف والظلم والظلام , وخامسها قيمي يعيد ماساة وملهاة صراع الخير الذي هو بعض صفات الشهيد ,والشر الذي هو بعض صفات الأخوة وأبناء ( العم ) الأعداء , وسادسها اقتصادي برع في تسخيره الشهيد لبناء لبنان وخدمة اللبنانيين جميعا ً بدون ألوان وتحقيق التنمية الإقتصادية والبشرية في وقت يصر زعماء المنطقة والمقربون منهم على الفساد والإفساد وإهمال الشعب وسرقة الثروة الوطنية ,وسابعها علمي في منطقة يعمل سدنتها ومن معهم على حصرها في الماضي وأبقائها في مربع الفقر والجهل والتخلف والأمية والسراديب المظلمة إلى أبد الآبدين , وتاسعها قيادي مثلته قامة الشهيد التي هي أكبر من مساحة لبنان وأخذت أبعادها الإجتماعية والشعبية في محيطها العربي والإسلامي والدولي بشكل أربك الأصدقاء والأعداء معا ً, وعاشرها حقوقي يحترم قيمة القانون وقوة العدل والمساواة بين أبناء الوطن , باختصار مثل الشهيد رفيق الحريري مشروع نهضة عربية عصرية متكامل الأبعاد وقمة شامخة في حياة عربية منبطحة غلبت عليها السفوح والوديان والحفر بل وحتى والكهوف .
الشهيد رفيق الحريري أكبر من ذكرى لأنه موجود في كل مكان في لبنان بل هو ذاكرة لبنان الحديث الحر المستقل المتسامح المشع في كل بيت وشارع وزاوية في لبنان الذي يحمله بعقله وقلبه الذي قال فيه " لبنان أكبر منا جميعا ً " هادفا ً إلى الرقي بالإنتماء والإرتباط بوطن أكبر من الوصاية , أراد من اللبنانيين أن يكبروا بانتمائهم وحريتهم واستقلالهم من نظام الوصاية والإحتلال السوري , ومن أجل لبنان خاض الحرب على جبهتين داخلية بهدف تعزيز السلم الأهلي ووحدة اللبنانيين والخروج من مستنقعات الحرب الأهلية عبر مشروع إعمار لبنان وإعادة الإزدهار والإستقرار إليه , وجبهة خارجية لإستعادة موقع لبنان العربي والدولي بلدا ً عربيا ً مستقلا ً وذو سيادة , وبإدراك مجرب وعليم بطبيعة دور النظام السوري وأهدافه البعيدة والقريبة في لبنان وبحكمة من يريد الخلاص من الوصاية بأقل كلفة ممكنة دون وقف استمرار العلاقة الأخوية مع سورية لأنه كان يعرف تماما ً أن مشروع تعزيز الوحدة الوطنية اللبنانية والبدء بمشروع إعمار لبنان لايمكن أن يأخذ مداه الذي يطمح إليه بوجود وصاية وحكم المخابرات السورية في لبنان الذي يتحكم بكل مفاصل الحياة السياسية والإقتصادية وعمل جاهدا ً لتحديد سقف لبنان السياسي والحضاري بتجربته في الحكم والعلاقة مع الشعب في سورية , وضمن معرفته بقاعدة النظام السوري الذي يحكم فيه لبنان والخطوط التي ترسمها الأجهزة السورية لحركة اللبنانيين كان يدرك أن النظام السوري عبارة عن خطوط من نار داخل لبنان حرقت الكثير من رموز الحركة الوطنية اللبنانية وستحرق كل من يخرج عن دائرتها ويدرك تماما ً أن النظام السوري لايقبل المشاركة في لبنان ولايتحمل الولاء المزدوج , بل الولاء الوحيد للنظام وتنفيذ أوامره بمنتهى الدقة والتدقيق ,وعليه كان يدرك بشكل كبير الخطوط المرسومة للسياسيين اللبنانيين والمساحات لكل منهم في الداخل والخارج ويتحرك بصبر وتأني فيها وإصرار على إخراجها من لبنان أو إخراج لبنان منها بشكل يحفظ ماتبقى من ماء الوجوه ويحافظ على المصالح المشروعة لكل الأطراف .
ومن ظروف حرب أهلية عصفت بلبنان كان الفاعل الأساسي فيها النظام السوري وطبعت الحياة العامة في لبنان بطابعها العسكري وقوة السلاح والميليشيات المتعددة الألوان والإرتباطات الإقليمية والدولية التي في محصلتها العامة دمرت لبنان وأوقفت نهضته وحولته إلى ساحة مشاع دامية لتصفيات حروب الآخرين واشتقاق تنظيمات عسكرية وفرضها بالقوة من قبل النظام السور ي على الحياة في لبنان ( حزب الله مثالا ً ) لتغيير تركيبة لبنان التوافقية لتبقى خيوط اللعبة في يديه عبر صورة همجية من فجور السلاح والمسلحين ,أصر الشهيد على المواجهة لكن بخيار آخر هو خيار العقل والسلم الأهلي ,خيار البناء وابتعد عن خيار العسكر رغم أنه كان الأقدر من كل الأطراف اللبنانية وحتى التي يدعمها النظام السوري بكل أدوات التخريب المعنوي والمادي , كان الأقدر والأقوى على تشكيل ميليشيا عسكرية تكتسب الشرعية الحقيقية لبعدها اللبناني أولا ً والعربي ثانيا ً لكنه سلك طريقا ً آخر تماما ً أراده الشهيد أن يكون بعيدا ً عن الصدام السياسي والتقاطع المباشر مع النظام السوري , سلك طريق تقوية لبنان عبر مشروع إعماره من جديد وأبدى قدرة هائلة على امتصاص الدور السوري بل وحتى التنسيق معه في بعض مراحله لتثبيت حالة تبادل الحرص على المصالح والعلاقة الأخوية الخاصة التي تربط لبنان وسورية , وأبدى مرونة الحريص على تنفيذ مشروع بناء حضاري ضخم في المنطقة وهذا مايفسر أن سياسيا ً بحجم الشهيد الحريري يهدد من قبل الطفل السياسي بشار أسد ويسمعه من الكلام مايوضح ويدل على ما يضمره تجاه الشهيد ومشروعه العملاق في وسط منطقة تسلط عليها الأقزام والعملاء.
قبل اغتياله بأسابيع قال الشهيد لأحد الإعلاميين البارزين : " أنت أمام طائرة مدنية مخطوفة , ولاتستطيع تحرير الرهائن بالقوة , فماذا تفعل ؟ جوابي هو أن الأولوية هي لسلامة الركاب وإنقاذهم , فمجرد إنقاذ بيروت ولبنان يشكل عقابا ً للخاطفين " !!.
من قرر اغتيال الشهيد رفيق الحريري , قرر اغتيال مشروع وطني ديموقراطي سلمي حضاري حقيقي في لبنان والمنطقة , مشروع الشهيد الذي تلخصه العبارة أعلاه وجوهرها هو العمل على إنقاذ وطن جريح ومخطوف من قبل النظام السوري وأعوانه وأصدقاؤه في داخل لبنان وخارجه , مشروع يرى فيه أن الضمانة الحقيقية الوحيدة لأمن سورية ومصالحها في لبنان ليس الوصاية والعلاقات الأمنية بل هو التسليم بدولة لبنانية مستقلة والحفاظ عليها وعلى العلاقة المشتركة عبر تقوية مؤسساتها الدستورية والسياسية وليس عبر تعطيلها من قبل الميليشيات المسلحة المأجورة التي تطلق النار عشوائيا ً على لبنان كله بدون تمييز.
من خطط ونفذ عملية تغييب الشهيد رفيق الحريري عن حياة بيروت يعرف تماما ً أنه يريد تغييب مشروع نهضة كاملة وإزاحة عملاق من طريقه وإفراغ لبنان من رجاله الذين توصلوا بالحب والإيمان والعمل إلى أن يكونوا من أهل الحل والربط فيه لتسهل عليهم عملية استمرار اللعب بمصير لبنان واللبنانيين , لكن الذي بناه الشهيد في قلوب اللبنانيين وعقولهم وحياتهم وحاضرهم أكبر وأقوى من رغبتهم الشريرة في استمرار الوصاية على لبنان وإذا تمكن المجرمون من اغتيال الشهيد ب 1800 كغ من المتفجرات أثبت لبنان وعبر سنتين من ذلك الفعل الجبان أنه أكبر من الفاعلين وأن البناء السياسي والشعبي والعمراني الذي شيده الشهيد أقوى بكثير من كل أفعالهم لإنهيار لبنان, فقط الذي انهار هو نظام الوصاية ومن معه وكل المخططات الهادفة إلى إرجاع لبنان إلى الوراء , وأمام صخرة الشهيد تساقطت الكثير من الرموز المهزوزة والتي تتحرك على هز القوى الخارجية لها وتحول بعض الذين كانوا يمسكون على الزناد للحفاظ على الجنوب واستقلال لبنان كمايقولون إلى نقل ساحة عملهم إلى قلب بيروت وسمموا أرضها وسمائها ولم يبق لهم من هدف سوى حرق الدواليب في سماء بيروت وتعطيل الحياة فيها بعد أن دمروا لبنان في " وعدهم الصادق " بجر إسرائيل لتخريب كل مابناه الحريري مستمرون بالمهمة بتخريب لبنان اقتصاديا ً , هنا تتقاطع الأقوال والأفعال مع المخططات الخارجية وتصب كلها في مصلحة تدمير لبنان التجربة الديموقراطية والحضارية في منطقة يراد لها أن تكون ذو بعد واحد لايقبل الآخر إلا إذا كان ذليلا ً وضعيفا ً ومتخلفا ً وتابعا ً على الدوام .
في الذكرى الثانية للفعل الأثم الجبان بقي وسيبقى الشهيد حاضرا ً شامخا ً في كل مكان في لبنان وفي قلوب اللبنانيين والعرب وبقيت معه الوحدة الوطنية الذي غاب عنها المصطفين مع النظام السوري للهرب من العدالة , وبقيت وستبقى شمس الشهيد تضيء لبنان والمنطقة وسيأتي اليوم الذي يحاسب فيه الفاعلون وهو قريب .
#نصر_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟