أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - قادري أحمد حيدر - جار الله عمر في مذكراته... وذاكرتي 1-3















المزيد.....


جار الله عمر في مذكراته... وذاكرتي 1-3


قادري أحمد حيدر

الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 07:57
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    


الشهيد، جار الله عمر في مذكراته .. وفي ذاكرتي


1-3


تجربة العمل المسلح والسياسي الصعب، فضلًا عن تجربة اقترابه من السلطة في جنوب البلاد - ولو من على بُعد – وتداعيات سردية العنف في قلب التجربة في الصراع على السلطة في الحزب والدولة، في واقع انعدام الممارسة الديمقراطية – جميعها – علمته الكثير، لأنه كان يرغب ويحب أن يتعلم، وعلى استعداد داخلي لأن ينهل ويستفيد من الجميع، يتعلم من الحياة سلبياتها وإيجابياتها ومن تناقضاتها الذاتية والعملية. هي رحلة على قساوة وصعوبة بعض محطاتها، فإنها علمته الكثير.. علمته بالنتيجة أهمية التعددية والحوار، والضرورة الأخلاقية والوطنية للتسامح والقبول بالآخر.

هذا هو جار الله عمر، القائد والمثقف والإنسان.

حول التسامح أتذكر حادثة شخصية لي مع جار الله: هو أنني اتصلت به تلفونيًا من منزل الصديق والرفيق الفقيد محمود مجاهد نعمان (الصليحي)، ونحن في عدن، وتخلل الاتصال سوء تفاهم حدث بيننا، ورددت عليه بقسوة وبانفعال شديدين، ولم يقل كلمة، فقط سألني: من بجانبك؟ فكان ردي كذلك انفعاليًا وأقسى، وقلت له: لم تنس يا جار الله حتى اليوم أنك ضابط شرطة. وانتهت المكالمة.

رغم هذا الجو المشحون بالتوتر والنزق من قبلي، وكل ما قام به أنه فقط شكاني إلى يحيى الشامي، ومحمد طربوش سلام.

بعدها بيومين ذهبت إلى مكتبه واعتذرت منه، واستقبلني بحفاوة كريمة، كأن لم يكن شيئًا، والدليل على روحه المتسامحة، أنه قدم لي مسودة كتابه عن حصار صنعاء، وطلب إذا لدي أي ملاحظات، على أن تسجَّل مكتوبة، وكان ذلك.

بعدها ناقشني حول الكتاب والملاحظات. ودعاني إلى عزومة غداء في منزله. هذا هو جار الله عمر، القائد بالفعل، والإنسان على الحقيقة .. القائد الذي لو كان ما حدث مني معه تم مع آخر في قيادة الحزب، أو كائنًا من كان، لكان رد الفعل الشخصي قطعًا مختلفًا، على الأقل مقاطعة وعداوة شخصية.

علمًا أن علاقتي الشخصية به توطدت أكثر.

على أن الأكثر دلالة على روحه المتسامحة، وهو ما يستحق الإضاءة عليه في هذا المقام، أنه استمر يتابع شخصيًا قضية اعتقال الشخص الذي كان مكلَّفًا بقتله قبل وخلال أحداث 13 يناير 1986 مباشرة، وحاول إدخال حالة من الرعب إلى قلب أسرته في ظرف صعب، ومع ذلك لم يتوقف سعي جار الله الحثيث للإفراج عنه، وهو ضابط من جيرانه، كان مأمورًا بالتنفيذ لقتله، ودخل في حوار صعب مع الرفيق ،سعيد صالح سالم رئيس أمن الدولة، من أجل إطلاقه، حد أن اتهمه سعيد صالح بأنه يزايد في هذا الموقف، حتى إصرار سعيد صالح بأن يكتب جار الله رسالة على مسؤوليته بهذا الطلب للإفراج عن المذكور، فكان ذلك، أي حتى إخراجه من السجن.

وهذه قضية صارت بعد ذلك معروفة عنه، مع هذا الشخص بل ومع غيره كثير، بسبب رفضه لظاهرة القتل والانتقام بعد أحداث 13 يناير 1986م.

جار الله عمر، هو من حمى وحافظ على حياة الكثيرين من رفاقه القياديين والكوادر العليا في الحزب، والجبهة الوطنية، الذين كانوا مع وفي صف الرئيس علي ناصر محمد.

أول مرة التقيت به بعد نزولي عدن مباشرة أخذني د. محمد قاسم الثور والصديق الفقيد محمد طربوش سلام إليه، كان هذا أول لقاء تعارف تحدثنا خلاله قليلًا عن أوضاعي وعن الأحوال في شمال البلاد، وكان يعرف أكثر مني تفاصيل التفاصيل عن الكثير مما لا أعرفه أنا حول ما كان يجري في صنعاء التي قدمت منها.

بعدها بأيام قليلة وجدت سيارة عليها امرأة شكلها مدني وعصري منتظرة خارج مبنى الحزب، ولوحدها في السيارة وبدون سائق، فقيل لي إنها زوجة جار الله، وإذا به بعد دقائق قليلة يدخل السيارة إلى جانبها، وهي التي تقود السيارة.

منظر جميل، على أنه غير جديد كثيرًا على الناس في عدن، ولكنهم في كل الأحوال هم القلة من أبناء عدن من يتقبلون هذا السلوك المدني الحضاري في التعامل مع زوجاتهم. دليل على الموقف التقدمي والحضاري من المرأة. من بعد هذه الحادثة وغيرها كثير في هذا الاتجاه، تأكد لي أنني أمام إنسان فوق العادة: سياسيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا.

حتى فكرة رسالته حول التعددية التي كتبها وقدمها للمكتب السياسي، فإنه تدرج بها، كتب رأيه أولًا حول التعددية، تحت عنوان "التعددية الثورية"، وفي سياق تطور المعرفة والتجربة التي كان يخوض غمارها، معرفيًا وثقافيًا وصلت الرؤية/الفكرة في ذهنه وتفكيره عبر الممارسة النظرية والعملية، إلى التعددية السياسية والحزبية.

جار الله عمر هو عسكري حكيم، وفيلسوف سياسي معاصر وعصامي. خرج من معطف كلية الشرطة في سياق ثورة 26 سبتمبر 1962م، ليكون أبرز وأجمل وأنبل رموز الفكر والسياسة والثقافة في اليمن المعاصر.

منذ قبيل ثورة 26 سبتمبر 1962م مباشرة، وبعد قيامها، كان يعرف ماذا يريد بحدسه الوطني والثوري، وإلى أين يجب أن يتجه قطار الثورة في قلب الصراع الذي برز في رأس القيادة الجمهورية، فكان من شباب "حركة القوميين العرب اليمنية" بعد قيام الثورة، وبعد ذلك وجد نفسه منخرطًا ضمن الجناح اليساري الاشتراكي في حركة القوميين العرب اليمنية، فقد كان حاضرًا في بعض مفاصلها السياسية الصراعية ضد الحلول والتسويات السياسية الناقصة في قلب العملية الثورية في الشمال والجنوب.

كان جار الله عمر، من العناصر التي كُلِّفت مع بعض رفاقه في العام 1965م، بحراسة عبدالفتاح إسماعيل، وأنور خالد، في سجنهما في صنعاء والحفاظ على حياتهما.

وطيلة سنوات 62-1968م، كان حاضرًا وفاعلًا في قلب القوى المدافعة عن صنعاء كضابط شرطة، وانتقل أو تنقَّل قتاليًا مع مجموعة من رفاقه إلى العديد من المواقع العسكرية القتالية.

وهو يشير إلى ذلك بتواضع كبير في كتابه: "القيمة التاريخية لمعركة حصار السبعين". يتحدث بلغة وخطاب يتقطر موضوعية وصدق، وهو ذاته ما سمعته من قائد قوات المظلات حمود ناجي سعيد، في فترة حصار صنعاء، بل ومن بعض الأسماء العسكرية القيادية المحسوبة على حزب البعث، (محمد عبدالخالق، قائد المدرعات فترة الحصار)، من الذين كانوا قريبين منه. مع أن جار الله عمر، لم يتحدث عن دوره إلا باعتباره دورًا ثانويًا مساعدًا، وكم كان منصفًا سياسيًا وتاريخيًا وهو يعيد تدوين قراءته عن وحول تفاصيل وقائع حصار صنعاء.

والجميل موقفه الرافض لإعدام من لا يستحق الإعدام من أبناء المكون الهاشمي في سياق العملية الثورية.

كان جار الله عمر، على صغر سنه، في ذلك الحين، صاحب رأي حر مستقل. شخصية متزنة ومتوازنة لا تخلو من الحماس الثوري، ومنحازًا مع الجناح الثوري ضد جماعة انقلاب 5 نوفمبر 1967م. ولذلك تم اعتقاله بعد أحداث 23/24 أغسطس 1968م، وبقي في السجن أكثر من سنة ونصف، ورفض الفريق حسن العمري خروجهم من السجن رغم أوامر صريحة من الرئيس، القاضي عبدالرحمن الإرياني، ولم يخرج هو وبعض رفاقه إلا بعد حادثة قتل الفريق حسن العمري للمصور الحرازي، وإجباره بعدها على تقديم استقالته وسفره لمصر، عبر هذه الفضيحة/الجريمة.

وهو ما يشير إليه جار الله عمر في كتابه عن "حصار صنعاء". (1)

خرج من تجربة السجن مستفيدًا تجربة الصبر على المكاره.. تجربة صقلته سياسيًا ونضاليًا، وأضافت إلى وعيه وتفكيره وسلوكه الكثير من المعاني والأفكار .. تجربة عززت لديه قناعة متناقضة، إحداها تحفزه على مقاومة النظام السياسي الذي انحرف بالثورة عن مسارها السياسي والاجتماعي والوطني، وضرورة مقاومته ولو بالكفاح المسلح، والأخرى قناعة عززت ورسخت لديه ثقافة توسيع مساحة الحوار مع رفاقه داخل حزبه "الحزب الديمقراطي الثوري اليمني" ومع الأطراف السياسية والوطنية الأخرى في الصف الوطني العام الذين وجدوا أنفسهم جميعًا مشردين ومنفيين وفي السجون وخارج الوظيفة العسكرية والمدنية، لأنهم غلبوا تعارضاتهم الذاتية الخاصة (الصغيرة) على التناقض الرئيس في صورة القوى المشيخية والقبلية والإمامية، ورموز "دولة القبيلة" مهندسي "الجمهورية القبلية".

ووجد نفسه بعدها مستقرًا في عدن، ضمن تجربة الكفاح المسلح، بعد تشكيل الحزب الديمقراطي الثوري "منظمة جيش الشعب الثوري".
تجربة أخذت منه الكثير، بقدر ما أعطته ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. ويمكن يكون جار الله عمر، من قلائل القادة السياسيين الذين يُعدّون بأصابع اليد الواحدة، الذين استفادوا من تجاربهم السلبية، قبل الإيجابية، ما يفيدهم ويعينهم في تحسين واقع الفعل/العمل في الحاضر – في حينه – وتسهيل اندفاعتهم الواعية نحو المستقبل بأقل التكاليف والخسائر الذاتية.

وهو ما أكدته تجربته خلال مرحلة أواخر السبعينيات، ونهاية الثمانينيات، وخاصة تجربة كارثة 13 يناير 1986م، وصولًا إلى الدخول إلى مرحلة دولة الوحدة وما بعدها من تحولات وتطورات.

وكأنه يسابق زمن حركة التقدم في سيره نحو الأمام.. كان وكأنه لم يكن يسير على قدميه، بل يسابق الريح بجناحين صاعدًا نحو السماء.. نحو الأمام، المستقبل، وهو ما تقوله سرديته الذاتية وحركته الديناميكية والجدلية التي اتصف بها تفكيره السياسي والاجتماعي والوطني، من يناير 1986م، إلى منتصف ونهاية التسعينيات من القرن الماضي.

كان جار الله عمر من أهم القادة السياسيين وأبرزهم الذين هندسوا مع بعض رفاقه فكرة ومعنى "اللقاء المشترك"، والفضل الكبير – في تقديري – يعود إليه في تهيئة الأجواء السياسية والحزبية والوطنية الحوارية في بناء وقيام اللقاء المشترك، ليكون قوة صد ومواجهة ضد السلطة الاستبدادية التي كانت تسعى لاحتكار كل المجال السياسي والديمقراطي والاجتماعي والاقتصادي، بل وسعيها الحثيث نحو توريث الجمهورية.

وفي رحلة العدو الواثقة نحو المستقبل، استفاد جار الله عمر كثيرًا من صلاته، ومن علاقاته بالكثير من رموز الفكر والثقافة والسياسة، في المنطقة العربية والعالم. وكان حاضرًا ومشاركًا في العديد من المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية، وليس خطيبًا سياسيًا بارعًا ومفوّهًا كما يقول البعض، هو أقرب للمفكر والمثقف السياسي الرصين والهادئ البعيد عن العنتريات الخطابية الجماهيرية. تحديدًا من بعد العام 1986-1988م، حيث كان محط آمال لقطاع كبير من الناس في الحزب، بل وخارج الحزب.

جار الله عمر بطبيعته يمثل شخصية تميل للهدوء في سلوكه الحياتي، نبرة صوته المنخفضة تدل عليه، حتى وهو في العسكرة/الشرطة، حتى وهو في السجن، وبعد خروجه من السجن لقيادة العمل المسلح كان مثالًا للهدوء وللتسامح.

جميع من اشتغل تحت إدارة جار الله عمر، أو زامله من قيادة وكوادر الحزب، يؤكدون على حقيقة ذات وجه مزدوج:

الأول: أنه يستمع وينصت للجميع ويشاورهم، ومن أنه بسيط وديمقراطي في تعامله مع الجميع، ومن أنه شخصية غير مكتبية .. شخصية حركية/ديناميكية، يتكلم وهو يمشي في المكتب، حكى لي من واقع تجربة شخصية عاشها معه الصديق الباحث والرفيق، أحمد صالح الجبلي، وهو ممن اشتغلوا مع جار الله عمر، أن بعض القادمين من الرفاق من مناطق العمل الجبهوي من المناطق المختلفة من المطالبين ببعض الحقوق كانوا يتجاوزون حدود الأدب في التعامل معه، ويرفعون ـ بعضهم ـ أصواتهم بصورة غير لائقة، وكان بروحية وتجربة القائد الكبير يمتص فورات الغضب تلك دون أي رد فعل، وكأنه يعيد تربيتهم سياسيًا وحضاريًا، علمًا أن مثل هذه المواقف شهدتها شخصيًا.
الأمر الثاني: أنهم جميعًا يؤكدون على نظافة يده، ومن أنه يتعامل مع المال العام بقدسية الصوفي الزاهد في متاع الدنيا، وعلى هذا المعنى من سلوكه الخاص والعام اتفق الجميع.

تسلم جار الله عمر، بداية السبعينيات قيادة بعض مجموعات "جيش الشعب الثوري" التابع للحزب الديمقراطي الثوري اليمني، وليس للجبهة الوطنية الديمقراطية كما يرى البعض.

خرج جار الله عمر من كارثة حرب 1986م مختلفًا في كل شيء فكرًا ومواقف وسلوكًا حياتيًا. كارثة 13 يناير 1986م هزته من الأعماق وجدانيًا وفكريًا.

تعلم الكثير من الكارثة/التي شارك فيها الجميع بدرجات متفاوتة، وهذا شأن الكبار.

كان يتقدم إلى الأمام دائمًا على قاعدة الحوار والتسامح والتصالح مع الجميع، بداية من التصالح مع نفسه، وهو ما كان يساعده في مسار حركة تقدمه المعرفي والفكري والسياسي.

منذ بداية مراهقته السياسية الأولى أواخر الخمسينيات شارك مع الطلبة السياسيين الكبار في المظاهرة الاحتجاجية في صنعاء قبل الثورة، حتى هروبه إلى عدن واستضافته من قبل العمال المهاجرين من أبناء الشمال في عدن، والترحيب به ورفيقه ناجي عمر، ودعمهما ماليًا، حتى أنه يقول في مذكراته إنه أُعطي وصديقه من المال الكثير أكثر مما كان معه وقت هروبه من صنعاء إلى عدن، دليل على روح المحبة والتعاون والتضامن من وبين أبناء اليمن تجاه بعضهم البعض.

التحق جار الله عمر، بكلية الشرطة عام 1965م، حتى طرده لاحقًا من الكلية، وكان معه في الدفعة: حمود زيد عيسى، وأحمد علي السلامي، ومحمد عبدالسلام منصور، وأحمد الوادعي، وعيدروس السقاف وهو من الأهل – أقصد عيدروس السقاف – وكان من الذين يقدّرون ويعزّون جار الله عمر، رغم الاختلاف السياسي فيما بينهم.

وأنا هنا، في سياق ما تحتويه ذاكراتي المحدودة عن جار الله عمر، وعن وحول ما اختزنته ذاكرته في مذكراته، أجدني حريصًا وناصحًا لمن يريد أن يعرف جار الله عمر أكثر، وعلى حقيقته دون رتوش، ويعرف – كذلك – بعض التفاصيل المهمة حول التاريخ السياسي اليمني المعاصر، أن يعود إلى مذكراته التي فيها الكثير من الصدق مع النفس، ومع الواقع والتاريخ.. هي كتابه، تجمع بين السيرة الذاتية، وبين المذكرات، وبين المقالة التحليلية والبحث. فيها من السيرة بقدر ما فيها من المذكرات، على أن الأروع والأجمل في الكتابة/المذكرات هو درجة الصدق العالية في تقديم ذاته/نفسه، وأفكاره، وتطوره المعرفي والفكري والسياسي الذاتي في سياق رحلة الفعل الوطني الذي كان في القلب منها.

نجد في الكتاب/المذكرات صورة "النقد الذاتي" هي الأوسع والأعمق، دون أي حرج، وبخاصة في موقفه من الكفاح المسلح ونقده لذاته وللتيار الذي كان جزءًا منه، مع الإشادة بمواقف من كانوا في الطرف النقيض.

ومثل هذا النقد الذاتي الكثير مما تحتويه صفحات مذكراته، دليل على علو وسمو همة النفس، وشغف الإرادة في التغيير.

جار الله عمر، في المذكرات كان يحاول أن يقدم قراءة معقولية للواقع (عقلنة وموضعة الواقع)، بعيدًا عن ضغوطات القراءة الذاتية، كما هو الحال مع البعض في كتابة مذكراتهم.

على أن الأكثر روعة وعمقًا في الرؤية، هو رأيه وموقفه من كارثة 13 يناير 1986م، في بعض تفاصيلها الصراعية الدقيقة، وهي الكارثة التي كسرت ظهر الحزب الاشتراكي اليمني، وكشفت أزمته البنيوية الخاصة والتاريخية تجاه قضية الديمقراطية، والتعددية والقبول بالآخر.

وحديثه الصادق والأمين حول وعن رسالة د. علي زيد له، حول جريمة/كارثة 13 يناير 1986م، تدل على عقلية وروحية المراجعة النقدية للذات والواقع (التجربة)، حتى وصوله تدريجيًا للقبول بالاستنتاج الذي وصل إليه علي زيد، وإشارته النقدية الجميلة إلى ذلك في المذكرات، وهو ما أراه قمة النقد الذاتي، للذات وللفكر وللواقع.

كارثة خرج منها جار الله عمر كبيرًا ومتوازنًا كإنسان، في مقابل انكسارات تداعيات الحدث على نفسه، وعلى الحزب، وعلى مستقبل البلاد كلها.
فهو يكتب عن هذه الرحلة/المرحلة قائلًا:

"نهاية العام 1986م، وبداية العام 1987م، في هذه المرحلة عشت أزمة شخصية فكرية عميقة وصراعًا وتناقضًا بين قناعاتي السالفة والتي كانت من المسلّمات وبين الوقائع التي تظهر على الأرض.

كل يوم تتفتح بذور التفكير الجديد، يعني كنت أعيش صراعًا فكريًا حقيقيًا. تكلمت مع الأخ يحيى الشامي وكنت أقول له إننا معارضون للنظام في الجمهورية العربية اليمنية ومعارضون للمؤتمر الشعبي العام الذين يحكمون باسمه ونطالبه بالديمقراطية لكننا نقيم نظام الحزب الواحد في عدن، إذًا لا يوجد لدينا مصداقية. هذه هي القضية التي كنت أناقشهم بها. نحن نطالب بالتغيير الديمقراطي في صنعاء الذي يجب أن يكون لنا نصيب فيه، ونحن نؤيد نظام الحزب الواحد في عدن، هذه تضعف مصداقيتنا، لا يوجد لدينا مصداقية. أنتم تقولون كلامًا متناقضًا. نريد تعددية في صنعاء لكنكم لا تقبلونها في عدن. تعارضون طريقة الحكم في صنعاء وتؤيدونها في عدن. الأخ يحيى الشامي كان لديه تصور لهذا الموضوع ـ والكلام ما يزال لجار الله عمر ـ ولا أعرف من بدأ بطرح ذلك أنا أم هو. وكان رأيه فعلًا مع هذا واتفقنا على أنه بما أننا نطالب بالديمقراطية في صنعاء فيجب أن نطالب بها ونسعى إلى إقامتها في عدن" (2).

وفي الحقيقة والواقع أن هذه الفكرة الحياتية ذات المعنى المعرفي والوجودي والسياسي العميق التي أشار إليها جار الله عمر، واتفق فيها مع يحيى الشامي، كانت فكرة وقضية حياتية بل وعملية تراود تفكير قطاع واسع من كوادر الحزب المثقفة في بعض المواقع القيادية العليا في الحزب، الذين وجدوا أنفسهم بالفعل يعيشون عمق لحظة هذا التناقض الذاتي الاغترابي في واقع الممارسة. فهم – أو قسم كبير منهم – يتواجدون في عدن وغيرها من المحافظات الجنوبية، في حالة هي أقرب إلى الفراغ السياسي، وبدون أعمال جدية يؤدونها في رحلة وجودهم شبه العبثي في عدن تحديدًا، وبعيدًا عن عائلاتهم، وبدون أدوار حزبية نضالية ملموسة. فهم من جانب – كما أشار جار الله – سلطة مفصولون عنها، وهم في الواقع معارضة يعيشون جحيم اغترابهم عن ممارسة دور المعارضة.

وهم – كذلك – مشرّدون بسبب سياسة الحزب الواحد الشمولية في صنعاء، الذين وجدوا أنفسهم في عدن/الجنوب، جزءًا منها، ويدافعون عنها، وهي واحدة من المفارقات الذاتية التي وجد قطاع واسع من هذه الكوادر أنفسهم يعيشون في قلب هذا التوتر الذاتي والتناقض الفكري والإنساني، ضد الأحادية الحزبية في صنعاء، ومع الحزب الواحد في عدن/الجنوب.

من هنا أزمة وجود (وضع) هذه الكوادر الذين تمزقوا بالفعل ذاتيًا بين هاتين اللحظتين.

وأتذكر أني ورفيق عمري محمود مجاهد نعمان (الصليحي)، ناقشنا هذه الفكرة من موقع المعاناة الذاتية، مع الرفيق جار الله، حين كُلّف من قيادة الحزب (المكتب السياسي) بالاجتماع بنا في جلسة خاصة مطولة في منزله لمعرفة حقيقة وخلفية قرارنا الذاتي بالعودة إلى صنعاء مهما كان الثمن، حتى اقتناعه بما عرضناه عليه من أن لا أسباب سياسية أو شخصية مباشرة تقف خلف قرارنا بالعودة إلى صنعاء، وكان الاتفاق معه على ترتيب مسألة عودتنا بنظر الحزب، مع تكليفنا بأدوار حزبية معينة، وهو ما كان. وبهذا المعنى فإن الهاجس/الفكرة التي أشار إليها الشهيد، والقائد السياسي المحنك، جار الله عمر، في مذكراته هي فكرة كانت حاضرة ومتحركة بأشكال مختلفة في ذهن وتفكير العديد من قيادات وكوادر الحزب العليا المثقفة.

كان جار الله عمر هو الأشجع والأجرأ أو الأقدر على طرحها بذلك الوضوح كعادته مع قضايا مختلفة شغلت الحزب في ذلك الوضع الصعب والمعقد. وكان جار الله هو المبادر العظيم في كسر جمود مثل هذه الحالات.

وأنا مع رأي وموقف الشهيد جار الله عمر، الذي استقر عليه بعد رحلة تفكير صائبة ومضنية، من أن المشكلات والأزمات مهما كبرت لا تُحل إلا من خلال عملية سياسية ديمقراطية، وعلى قاعدة الاعتراف بالآخر دون إقصاء ولا تهميش لأي أحد أو طرف من أطراف السياسة والمجتمع.



#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحمد محمد نعمان. قراءة فكرية وسياسية 4-4
- أحمد محمد نعمان،قراءة فكرية سياسية 4-4
- أحمد محمد نعمان،قرآءة فكرية سياسية 3-4
- أحمد محمد نعمان، قراءة فكرية سياسية 3-4
- أحمد محمد نعمان قراءة فكرية سياسية 2-4
- الأستاذ محمد احمد نعمان بين المقابلة ولمذكرات والسيرة 1-4
- الأستاذ أحمد محمد نعمان سيرة عطرة لم تكتب 1-4
- ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3
- ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
- ناجي العلي، الوطن والفن
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
- الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
- سوريا بين النظام العائلي الاستبدادي والمستقبل المحهول الخلقة ...
- سوريا بين الاستبداد الأسدي العائلي وسوريا المستقبل المحهول
- مصطلحا اليمين واليسار في تجربة الحزب في جنوب اليمن 2-2
- اليمين واليسار في الحزب في تجربة جنوب اليمن
- المقاومة الفلسطينية في الواقع والخطاب الاستعماري 2-2
- المقاومة الفلسطينية في الواقع وفي الخطاب الإستشراقي 1-2
- المقاومة الفلسطينية بين الببطولة والنقد الخائن 3-3 الحلقة ال ...
- المقاومة الفلسطينية بين البطولة والنقد الخائن 1, 2 من 3


المزيد.....




- ما هي التقنيات المفترضة التي شوشت أنظمة الجي بي إس على طائرة ...
- -رمز للصمود ونعمة عظيمة-..آبي أحمد يشيد باكتمال بناء سد النه ...
- هجوم بسكين في مرسيليا يوقع 4 جرحى.. والشرطة تطلق النار على ا ...
- شي جين بينغ يرحب بفلاديمير بوتين لإجراء محادثات في بكين
- مواجهات في باندونغ: شرطة إندونيسيا تطلق غازاً ومطاطاً على طل ...
- حركة تحرير السودان: كيف نشأت وأين هي اليوم؟
- قمة شنغهاي تكشف -أنانية- واشنطن وإهمالها مبدأ المصلحة المشتر ...
- إسرائيل تبدأ بتعبئة جنود الاحتياط قبل هجوم متوقع على غزة، و- ...
- يوسف الكواري عضو المكتب السياسي للحزب في حوار حول “ماذا يجري ...
- شركة نستله تطرد رئيسها بسبب إخفاء علاقة غرامية مع موظفة!


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - قادري أحمد حيدر - جار الله عمر في مذكراته... وذاكرتي 1-3