للإيقاع تعريفات عديدة،وإستخدامات كثيرة لا تنتهي عند حد . .إنَّ ألإيقاع يدخل في كل تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة والكبيرة وبحدود ضيقة وواسعة النطاق تشمل تصاميم المباني وألوانها وصناعة المركبات الفضائية وتصاميم بناء المدن والمزارع وتخطيط الشوارع والسكك الحديدية والموانيء والمطارات والقطارات والطائرات والسفن والسيارات بمختلف أنواعها وصولاً للأزياء والمكياج وأنواع قرطاسية المكاتب والديكور الداخلي وتصاميم الكومبيوتر وأغلفة الكتب وتصاميم ألإعلان والصحف والمجلات وكل ما يتعلق بالحياة ألإنسانية صغيرها وكبيرها تصل حدّ ورقة الكتابة والطوابع وإبرة الخياطة . . .الخ .من ملايين الحاجات التي يستخدمها ألإنسان_حسب إمكانياته ووظائفه_ في الحياة اليومية .
وألإيقاع لدى المختصين ما يتعلَّق بألإيقاع الموسيقي وضرباته ووحداته ومفرداته وتكرارها وخلق ألإنسجام فيما بين الفواصل لإيجاد إيقاع متناسق غير رتيب .ويتعمق الكثير من إختصاصيينا في هذا التعريف وألإيغال فيه الى نحو عميق جداً وعدم توضيح إستخدام الإيقاع في الحياة العامة . .
إنَّ تصميم غلاف كتاب أو مجلة أو حتى الصحيفة يحتاج الى إيقاع تكويني متكامل لا يشمل توزيع الصور أو الرسومات أو اللوحات أو التخطيطات فقط بل الى هندسة متكاملة تشمل حجم هذه الصور وموازنتها مع حجم الغلاف والحاجة اليها وتناسقها مع ألألوان وحجم الخط ولونه وكل في مكانته وأهميته لعنوان الكتاب،وكل هذا التكوين ألإيقاعي للغلاف يختلف من كتاب لآخر حسب نوع مادة الكتاب،ولمن هو موجَّه،أي الفئة العمرية والجنس ومكانة المجتمع للكتاب بشكل متعاكس"الكتاب المجتمع" . . .الخ .
إنَّ الشركات الكبرى للإعلان تعلم تماماً ماهية حاجات المجتمعات في أنحاء العالم المختلفة،وبذا فهي تحاول التأثير في العدد ألأكبر منهم لترويج بضائعها المختلفة ودراسة تأثير إعلاناتها في المجتمعات المختلفة بين حين وآخر للوصول الى ترويج سلعي أكثر مبيعاً من غيرها سواء بتقديم هدايا أو تخفيض أسعار أو زيادة حجم أو وزن أو إضافة عبارات مختلفة على التصاميم وفق كل مرحلة معينة تهم معظم شعوب العالم عامة،وتخصيص هدايا اومزايامعينة لبعض المجتمعات حسب حاجاتها خاصة،ونلاحظ ذلك بوضوح في تكالب الشركات العالمية على المباريات الرياضية بشكل خاص سواء في وضع عناوين منتجاتهاعلىالملابس اوالمركبات اوالملاعب اوتوزيع هدايا بإسمهاللفائزين .وكل ذلك يجري بتحمس شديد في الكيفية التي يمكن من خلالها إختراق الشركات ألأخرى للفوز بنصيب ألأسد .وهذا لا يأتي بالتكرار لما سبق،بل بالتجديد والتطوير وألإضافة من خلال تماسك وتناسق الشكل اللوني والتصميمي والذوقي لمختلف الشعوب .
إنَّ ألإيقاع التكويني لأي شعبٍ من الشعوب يختلف عن غيره في الجزء ألأعظم منه،لكنه يشترك في بعضه إلاّ في حالات نادرة يتنافر فيه ألإيقاع بين شعب اومجتمع اوفئة ما مع الشعوب ألأخرى،وهذا يأتي من خلال أسلوب البناء ألإيقاعي لذلك المجتمع وفق ما أملي عليه منذ كان جنيناً وعاش في بيئته التي حتمت عليه ان ينضوي تحت لوائها . .وفي حال إستمرار هذا المجتمع بإنقطاعه عن ألإتصال والتواصل مع المجتمعات ألأخرى،فإنه يحتفظ بإيقاعية خاصة به لكنها في معظمها إيقاعية ساكنة رتيبة_بالنسبة لنا_ونتقبلها من جانب إحترامنا لإيقاعية حياة الشعوب ألأخرى،مثال ذلك حياة مجتمعات ألأسكيمو والقبائل البدائية في استراليا وألإيقاع الثابت في دراما الفولكلور للشعوب المختلفة مثل دراما النو والكابوكي والمسرح الصيني . .الخ .
إنَّ إيقاع دراما العصور الوسطى لا يمكن تقبله في مجتمع القرن الحادي والعشرين،وبرغم كل تطورات الحياة خلال خمسمائة عام فإننا مازلنا لا نتقبل تأريخنا بإيقاعه في حينه،بل نطالب بتطويره وفق متطلبات العصر !!،فكيف نتقبل إيقاعاً ساكناً بطيئاً يمثل ألآن فترة متحفية للفن والدراما تأريخياً في الوقت الحاضر؟إن البناء ألإيقاعي لمختلف الشعوب لابد وأن يتشابه في بعضه ويختلف في ألآخر،وإذا حصل تشابه في المفردة ألإيقاعية سيحصل تقارب بين هذه الشعوب في إيقاعات الحياة المختلفة،بسبب التقارب في المفردة ألإيقاعية تلك،لذلك نجد هناك تقارباً وتقبّلاً للإيقاعات المختلفة بشكل عام لذلك المجتمع من دون معرفة أسبابه الحقيقية والرجوع الى دراسة إستبيانية دقيقة نحصل على الجواب العلمي الدقيق .
إنَّ إرتباط شعوبنا العربية وتقاربها مع الشعوب ألأفريقية وإعتماد شعوبنا على المفردة ألإيقاعية الثابتة للشعر العمودي لقرون عدة،وإرتباطه بإيقاعية ثابتة في قراءة القرآن الكريم جعل توحّداً خفياً بين الشعوب العربية بعيدة عن اللغة والدين،وهذا التقارب فيما بينها من جهة،وبينها وبين الشعوب ألإفريقية من جهة اخرى،جعل إيقاعية الحياة للمواطن العربي_ونصفه يقع في إفريقيا_ يقترب بشكل كبير من إيقاعية المواطن ألإفريقي .ولو دقَّقنا في المفردة ألإيقاعية للموسيقى ألإفريقية وقارناها مع المفردة ألإيقاعية للموسيقى ألأوروبية وألأميركية بشكل خاص لوجدنا تقارباً كبيراً يصل حدّ التكرار والتطابق التام .وهذا ما يجعل شعوبنا العربية تتقبل ألإيقاعات الغربية لتقاربها مع ألإيقاعات ألإفريقية وبالتالي العربية .إنَّ محاكاة ألأغاني الخليجية بشكل خاص وإيقاعات مدينة البصرة(جنوبي العراق) كذلك للإيقاعات ألإفريقية جعل ألألحان الخليجية تجد لها صدىً واسعاً في الوسط الغنائي العربي،وإتجاه ألألحان المصرية والشامية لمحاكاة ألإيقاع الغربي جعلها أيضاً تجد لها صدى في الوسط الشعبي،ولو عملنا مقارنة لكل هذه ألإيقاعات المختلفة لوجدناها لا تبتعد كثيراً عما ذكرناه سابقاً .
إنَّ إيقاع الشعوب يتغير بتغير الزمان والمكان والظروف المحيطة بهما .فإيقاع ألأمس لا يصلح اليوم،ونلاحظ ذلك واضحاً في إيقاع ألأغاني القديمة البطيء والذي لا يجد صدى هذه ألأيام . .ويعكس ألإيقاع البطيء لأغاني ألأمس تأثيراته الواضحة على حركة الناس وتفاعلاتها اليومية سواء في الحديث او التنقلات،وفي ألأعمال السينمائية . .وقلَّما تجد عملاً فنياً فيه إيقاع سريع وإن وُجد فهو متأثر بألإيقاع الغربي الذي بدأ يتسارع أيضاً مابين ألأمس واليوم بفعل ضغط الحياة العامة وظروفها المختلفة التي عصفت بشعوب أوروبا والولايات المتحدة ونلاحظ ذلك في ألأغاني ألأميركية للقرن الماضي أو بداية هذا القرن ومقارنتها بأغاني اليوم،كذلك ألأغاني العراقية القديمة في الثلاثينات وألأربعينات وصولاً لأغاني التسعينات وألأغاني المصرية واللبنانية والسورية وغيرها . .وكلما تقادم الزمن علينا إعتبرنا أغاني ألأمس من ضمن التراث الموسيقي لشعوبنا،وهكذا أغاني اليوم التي ستكون تراثاً في القرن المقبل . .
إنَّ ألإيقاع يدخل في السلوك اللغوي للشعوب المختلفة وللشعب الواحد أيضاً .فإيقاع اللغة له تأثيره الخاص على سلوك الفرد نفسه،وتغير السلوك اللغوي وإيقاعه من منطقة لأخرى(جغرافياً وبيئياً) له تأثيراته على الفرد كذلك . .نلاحظ ان الفرد الذي يعيش في الريف ذي ألأراضي المنبسطة يختلف إيقاعه عن الفرد الذي يعيش على البحر ومهنته الصيد،وهما يختلفان عن الفرد الذي يعيش على الجبال سواء للزراعة أو الرعي،وهم بمجملهم يختلفون إيقاعياً عن حياة البدو ورعاة ألإبل،وهؤلاء جميعاً يختلفون عن إبن المدينة،وإبن المدينة يختلف عن إيقاعية إبن العاصمة وهلم جرا . .
والشعوب التي يكون إيقاع لغتها سريعاً أو ذات نبرات قصيرة ومتتالية تكون حركتهم وإيقاع حياتهم مشابهاً لإيقاع لغتهم،كما في الصين واليابان وفرنسا والمدن البحرية كأمثلة ليست حصرية .ومقارنة بين إيقاع اللغة الروسية وإيقاع اللغة الصينية وملاحظة إيقاعية الحياة للشعبين المذكورين نجد هذا ألإختلاف واضحاً .والشعوب التي تتمسك بإيقاعية تراثية غير قابلة للتغيير نراها مستمرة في إيقاعها هذا ولأجيال عديدة ما عدا الذين إختلفوا أو خرجوا عن قواعدهم تلك . .ونلاحظ ذلك بوضوح لدى شعوب ألأرمن والشركس والسريان وغيرهم ممن يتمسكون بإيقاعاتهم التراثية والتي تؤثر بالتالي على إيقاعات أجيالهم .وتدخل الثورة الصناعية في مجال ألإيقاع الحياتي للشعوب،حيث ان تعامل الشعوب مع ألآلات وألأجهزة والمعدات المختلفة يؤدي حتماً الى تغير في المستوى ألإيقاعي للأفراد العاملين في هذه المؤسسات،وأخيراً،باتت المحطات التلفزيونية الفضائية خير عامل لأحداث فوضى شاملة في إيقاع الشعوب بسبب عشرات ألإيقاعات التي نسمعها ونراها عبر الشاشة الفضية،وسيأتي يوم تكون فيه إيقاعاتنا التراثية محفوظة في متاحفنا ونتمتع بألإستماع اليها عند زيارتنا لها وندلّ عليها بإصبع(التأريخ) .
د . عبد الفتاح مرتضى
أستاذ دراما