|
المُغَّب الحاضر
علي جرادات
الحوار المتمدن-العدد: 1820 - 2007 / 2 / 8 - 11:50
المحور:
القضية الفلسطينية
برغم قلقِ أزمةٍ داخلية تلف شعبنا مِن الرأس حتى أخمص القدم، وبرغم خوفِ تَحَوَّلها إلى مأزقٍ مستعصٍ، وبرغم كل ما يمكن أن يولِّده هذا القلق وذاك الخوف مِن تشوشٍ للرؤى، ووهن للعزيمة، وإحباطٍ للإرادة، وذبحٍ للنفس، وخشيةٍ على المصير، وحسرةٍ على التاريخ، والتباسٍ حول المستقبل؛ نقول برغم كل ما تقدم، أن لا خيار غير خيار البحث عن عنوانِ حبلِ النجاة الذي لا ينقطع، وعنوان الرهان الموثوق الذي لا يخذل، والأمل الصادق الذي لا يخيب، والملاذ الأخير الذي لا ملاذ قبله أو بعده. والسؤال: ترى أين هو هذا العنوان؟!!! إنه شعبنا، ظَنَّ طَرَفَا "الاقتتال" أنهم يساوونه. و"أنهم هُو" أو "هُو هُمْ". وأن اقتتالهم هو اقتتاله. وأن هموم اقتتالهم هي همومه. وأن تغييبهم له يشطب حضوره كمرجعية نهائية. وأن إعمال سيفهم في دمه يقوى عليه، ويطوعه لقبول اقتتالهم. وأن بؤس ثقافة اقتتالهم يمكن فرضها خاتمة لتضحياته. وأن نفاق "خطبائهم" يقنعه بقبول الاقتتال مدخلا لكسب تأييده لطرف ضد آخر. وأن أمر استعادة ثقته بهم وارد بدون وقف جنون اقتتالهم. كلا، كل ما تقدم محض وَهْمٍ، ولن يكون في يوم مِن الأيام حقيقة، فشعبنا المذبوح بسيف الاحتلال مِن الوريد إلى الوريد، وعلى مدار ما يقرب مِن قرن، لن يسامح مِن قياداته كلَّ مَن ساهم في: انتهاكِ مقدس وحدته، أو استباحةِ حرمة دمه، أو بعثرةِ مقدراته، أو دَثْرِ إنجازاته ومكتسباته، أو إحباطِ إرادته، أو تشويهِ تاريخه، أو مسخِ مشهده، أو تسهيلِ طريق أعدائه، أو إضعافِ دعائم صموده، أو إسالة دم مناضليه وأطفاله، أو تكسير أجنحة أحلامه وتوقعاته، أو تفكيك لحمة نسيجه، أو تجاوزِ أعرافه وقيمه وأخلاقه، أو وضعِ الزائد مِن المتاريس في وجه تطلعاته وطموحاته، أو تحطيمِ نفوس عوائل شهدائه، أو تمزيقِ آمال عوائل جرحاه وأسراه. فكيف الحال لو كان كل هذا ويزيد؟!!! نعم، على كلِّ مَن توهم أن خياره السلطوي الدامي يمكن أن يكون خيارا لشعبنا، أن يراجع حساباته ويدققها. فالرهان على شعبنا لم يكن في يوم مِن الأيام رهانا فاشلا. كيف لا؟!!! وهو الذي تمرس في معمعان عقود مِن المواجهة المتصلة. إذ صحيح أنه لم يحقق النصر النهائي بعد. ولكن مَن يستطيع أن ينكر حقيقة أنه لم ينكسر. ولم يهن. ولم يرضخ. ولم يقبل الإقرار بالهزيمة. ومَن بمقدوره أن يشك للحظة في حقيقة أنه لم يهدأ. ولم يتقاعس. ولم تفتر له عزيمة. رب قائل: وهل كان أمام شعبنا مِن خيار غير ما اختار "مكرها لا بطل"؟!!! هذا صحيح وغير صحيح في آن، إذ صحيح أنه لم يكن أمام شعبنا غير تَحمُّل المعاناة، أي تَحمُّلَ ما لا مفر مِن تحمله، ولكن الأكثر صحة: أن شعبنا، طوعا وعن طيب خاطر قدَّم ما قدَّم مِن تضحيات عظيمة، بينما كان يمكن له الرضوخ، وقبول ما طرح له مِن حلول (وما أكثرها) الغائية الحاقية، ودون إحقاق حقه في العودة والحرية والاستقلال. ألم يكن هذا خيارا محتملا في تاريخ شعبنا؟!!! لكن هل قبل به شعبنا يوماً؟!!! وألم يكن مِن شأن قبوله بهكذا خيار، أن يخلصه مِن أعباء ما يواجهه مِن معاناة هائلة، وتكاليف تضحيات جسيمة؟!!! لكن ألم يدفن شعبنا، برغم شدة المعاناة وعِظَمِ التضحية، عشرات مشاريع فرض الاستسلام عليه، ورفض أن يكون في عداد شعوب هُزمت وانكسرت، وأصر على البقاء في عداد شعوب هُزمت وانتصرت. بلى، شعبنا، وبرغم هول ما عانى لم ينكسر، وبرغم عظمة ما ضحى لم يتقاعس. بل غدا، ولشدة ما عانى وضحى، كبحر يتراءى سطحه هادئا، بينما عمقه هائج يمور بالعواصف. عواصف لا يقدر اقتراب انفجارها إلا مَن التصق التصاق اللحم بالعظم بهمومه. ولا يستقرئ ضخامة موجات انفجاره إلا مَن التحم حتى نخاع العظم بمسيرة معاركه وبطولاته. ولا يحسب حساب مواجهة انفجاره إلا مَن اصطلى بنار محاولات تطويعه. ما تقدم ليس مديحا شوفينيا، ولا إطراءً نرجسيا لشعبنا، فهذا وذاك نرفضه مبدئيا، ونربأ بالنفس عن الوقوع فيما ينطويان عليه مِن نزعات ذاتية، وربما عنصرية. بل نسجله مِن باب الوعي العميق بدروس تاريخ شعبنا النضالي. والاستلهام المرهف لخبرة محطات مسيرته المديدة. والإدراك الدقيق بشدة مراسه. أجل لا نسوق ذلك بحكم أننا مِن أبنائه فقط، بل إنصافا لتاريخه، وإقرارا بعمق تجربته وسعتها وثرائها أيضا. تجربة عظيمة وفريدة، شهد لها الخصوم والأعداء قبل الأصدقاء. السؤال: ترى لماذا نسوق ما أسلفنا؟!!! وما الداعي لتأكيد ما هو بدهي في تاريخ شعبنا ومسيرته المجيدة؟!!! الإجابة: ليس نادرا في تاريخ الشعوب، أن يقودها من يقول: "أنا الشعب والشعب أنا". وهذا ليس مجرد غلو سلطوي، واختزال قاصر لعظمة الشعوب ودورها، وتضخيم بائس للذات فقط، بل ووصفة مضمونة لتدمير الشعوب بأيدٍ داخلية أيضا. إنه المدخل إلى ثقافة سياسية تلد الحروب الداخلية بكل ألوانها وصنوفها. وهذا هو بالضبط جذر وولادة وسر ما يجري على أرض غزة هاشم مِن تقتيل وتذبيح مجنون لأطفالنا ومناضلينا، وتدمير ذاتي فاق كل تصور للممتلكات والمقدرات وعوامل الصمود الشحيحة أصلا. عليه، وإن كان مدخل تشكيل حكومة ائتلاف وطني، وتوحيد منظمة التحرير، وإعادة بنائها وتطويرها وتفعيلها، هو المدخل السياسي الصحيح لوقف ما يجري في غزة مِن مأساة وطنية؛ إلا أن ضمان عدم تكرارها، ووأد الاقتتال كمنهج، وخلعه مرة وللأبد مِن أوساط شعبنا، لن يكون إلا عبر مدخلِ إعطاء ما للشعب للشعب وما لقياداته لقياداته، التي صحيح أنها تمثله، ولكنها لا تساويه، ولا يمكن اختزال خياراته فيما تراه هذه القيادة أو تلك مِن خيارات، في هذه المرحلة أو تلك. فما بالك إذا كان خيار هذه القيادات اقتتالا داخليا تائها، ويفضي لتدمير إنجازات الشعب وعوامل صموده ومقدراته في وجه احتلال باغٍ قل نظيره؟!!! أجل، هذا هو المدخل الأنجع والاشمل، لا لوقف المخزي مِن راهن اقتتال داخلي فقط، بل ولاقتلاع مفرخته الثقافية مِن شروشها، وحماية شعبنا ومشروعه الوطني مِن شرورها، وتخليصه مِن شبح ومخاطر تكريسها ثقافة سياسية سائدة ومَرعيَّة في أوساط شعبنا أيضا؛ فتلك ثقافة (وللعلم) بدأت وترعرت في أوساط كل الشعوب التي اكتوت بنيرانها، وتدمرت لعقود بفعلها، في حضن المساواة البائسة بين الذات والموضوع، والقيادة الوطنية والشعب، والقيادة الحزبية والحزب، والقيادة الراهنة والتاريخ، وفكرة قيادة بعينها والحقيقة الموضوعية، واجتهاد قيادي والحقيقة المطلقة. إنها المدخل الخاطيء، لا يكون التقدم معه إلا تقهقرا في حياة الشعوب، وحتى المستقلة المستقرة، فكيف الحال في واقع شعبنا المنكوب منذ عقود باحتلال اقتلاعي ابتلاعي الغائي؟!!! نختم بالقول: ثقتنا وأملنا بشعبنا، ورهاننا لن يكون إلا عليه، فهو أكبر مِن كل قياداته، أيا كان لونها الفكري والسياسي، وأيا كانت عظمة إنجازاتها، وأيا كان مصدر شرعيتها، وأيا كانت حججها، وأيا كان حجم زهوها وتقديرها لنفسها ودورها، وأيا كان.....فهي أصغر مِن شعبنا الذي وإن غيَّبَه "المقتتلون" يبقى حاضرا، فهو ومصلحته في مجابهة الاحتلال كالشمس حقيقة لا تغيب إلا لتعود ثانية مشرقة. وفي السياق لعل مِن المفيد التذكير بطرفة تروى عن ديكتاتور اسبانيا فرانكو الذي لم يساوي نفسه بالشعب فقط، بل استعظم نفسه عليه أيضا. تقول الطرفة: كان في سرير مشفاه، يحتضره الموت، وسمع وزوجته هدير صوت تظاهرات الجماهير تحتفل بغياب لعنة قبضته الدموية. استغرب وسأل زوجته: ما بال الشعب الاسباني يصرخ؟!!! ردت تخفي عنه الحقيقة: حضر لوداعك!!! فقال: لكن إلى أين يسافر الشعب الاسباني!!!
#علي_جرادات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذاكرة حرية تسيل
-
-الحرية مِن- وإعاقة التحرر الحالة الفلسطينية نموذج
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|