أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الحاج - قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً2















المزيد.....


قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً2


محمد الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 1819 - 2007 / 2 / 7 - 11:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يعتبر محمد عابد الجابري أن العقل العربي يمكن تصنيفه إلى نظام معرفي لغوي بياني عربي الأصل بني على أساس اللغة العربية وهي لغة قاصرة لأنها لغة أعراب محدودة بعالمهم. نظام عرفاني غنوصي دخيل وافد من الإشراق الفارسي الذي يعود إلى قبل الإسلام ثم نظام معرفي برهاني يوناني الأصل جسدته الرشدية والخلدونية .
يعتبر الجابري أن اللغة العربية لغة أعراب حسية لا تاريخية ولا يمكن أن تحدث سوى خطابا ذي طبيعة لغوية بيانية وليس ذي طبيعة فكرية ومنطقية ولكنه يعتبر أن الحضارة العربية الإسلامية (كانت قادرة على استيعاب أفكار الحضارات الأخرى) وبنفس اللغة. إن اللغة (التي جمعها الأعراب دون غيرهم محدودة بعالمهم لا زالت تنقل إلى أهلها عالما بدويا يعيشونه في أذهانهم بل في خيالهم ووجدانهم عالما ناقصاً فقيراً حسياً، طبيعياً لاتاريخياً). هل هناك لغة برهانية ولغة بيانية وهل اللغة ليست سوى العقل الذي نطق بها. كل لغة قادرة على الإنفتاح على دلالات جديدة. اللغة لا تسبق الفكر أو الفعل التاريخي فالكل ينصهر في حركة واحدة فإذا كان تحديد المفاهيم والمعاني شرطا من شروطها فإن إنفتاح الكلمات والمنطوقات على دلالات ومعاني جديدة لا يعرف الحدود. فاللغة لا تستوعب المعنى إذ هي المعنى ذاته وبها ينشأ. فهي ليست أداة ووسيلة للتواصل كما يقول البعض. هي أداة اجتماعية الفرد. (فاللغة بصفتها نسق أو نظام لا تختزل في حالتها السنكرونية ولا يمكن لها أن تختزل في دلالات محددة، جامدة، جاهزة ولكنها تحتوي دائما إضافة عاجلة ووشيكة وبارزة فهي منفتحة دائما وفي اللحظة ذاتها التي نطق بها على تحولات للمعاني، وبإيجاز فهي يمكن أن تنتج خطابا فريداً وغير مألوف متميزاً وجديداً وذلك باستعمال وسائل معروفة ومعهودة، إنها تسمح باستعمال غير معهود لشيء معهود) ثم إن ما يسمى باللغة (الأصلية والطبيعية) تؤسس في كل مرة اجتماعيا ولا يمكن أن توجد إلا بصفتها مؤسسة اجتماعيا إن مجرد وجود فكرة جديدة أو خطاب مخالف ومتميز يكفي ليبرهن لنا أن اللغة أساسا منفتحة وتحتوي في كنهها قابلية تغييرها من الداخل وتقدم جزئيا الوسائل لذلك وبصفة نشطة ولا تمت بشيء إلى الدلالات الجاهزة والمعهودة) ، إن تخلف اللغة وتحنط طرق بيانها وأساليب تعبيرها ما هو إلا مظهرا من مظاهر تحنيط الفكر الذي يقدس اللغة ويقيدها بقوانين لا تقبل التجاوز وبإصلاحات وقواعد بحيث ترسخ فيها التعقيدات وتبقى في الأخير لغة النخبة والقلة من الفقهاء والعارفين. لكن(أوسع اللغات وأجملها أبسطها وهي لغة الأفكار التي لا تربطها قاعدة ولا يحضرها قانون أما اللغة المحنطة والتي لا يقبل أصحابها أن تتغير فهي كبركة ماء لا منفذ للماء فيها. و الجابري يتعرض للغة العربية بهدف استخراج بنية البيانية ليربط هذه الأخيرة بمدى تقدم الفكر العربي أو تخلفه لدراسة (بنية العقل العربي). فهو يتعرض إلى اللغة العربية وإلى قواعدها النحوية والبلاغية لكي يبين لنا أن لغة الأعراب هي التي تحكمت في فكرهم.
يتبنى الجابري نظرية "هردر" متمثلاً العلاقة بين اللغة و الفكر التي تعزو دوراً أساسياً لللغة في تشكيل نظرة الإنسان للكون، و تتعدى كونها أداة للفكر لتكون قالباً يتشكل فيه الفكر فالأمم تتكلم كما تفكر و تخزن في لغتها تجاربها لتصبح تراثاً للأجيال اللاحقة و تكتسي القيم طابعاً قيميا من خلالها الأمر الذي يتأكد من خلال الدراسات الحديثة التي تذهب لكون اللغة تحتوي تصوراً خاصاً بها للعالم. و قد ربط هردر بين خصائص اللغة وخصائص الأمة التي تتكلمها، ذاهباً إلي القول بان كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم. اللغة إذن ليست أداة أو محتوي فحسب، بل هي بمعني من المعاني القالب الذي تفصل المعرفة على أساسه فـترسم الحدود وتخط المحيط لكل معرفة بشرية. و لعل الدين الإسلامي و اللغة العربية هما أهم مساهمات الحضارة الإسلامية فاللغة العربية جزء من ماهية القرآن المكون الأساسي للدين الإسلامي الذي هو (الكتاب العربي المبين) و الكثير من الخلافات الفقهية و الكلامية و المذهبية مردها لها- أي اللغة - لما تتميز به من تنوع و فائض في المعنى، وثمة إعتبار آخر يمكن أن يبرر إعطاء الأولوية للغة العربية في دراسة العقل العربي مكوناته وآلياته. إنه المعطي التكويني نفسه. ذلك أن الواقع التاريخي يؤكد بما لا مجال للطعن فيه أن أول عمل علمي منظم يمارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها. وفي حالة كهذه يكون من الطبيعي تماما أن يتخذ العمل العلمي الأول، الذي أنتج علم اللغة وعلم النحو، نموذجا للأعمال العلمية الأخرى التي قامت من بعده، وإذن فمن المنتظر، أن تكون المنهجية التي أتبعها اللغويون والنحاة الأوائل، وكذلك المفاهيم التي استعملوها، والآليات الذهنية التي اعتمدوها من المنتظر أن يكون ذلك كله أصلاً يعتمده مؤسسو العلوم الإسلامية، أو علي الأقل يشتقون منه طريقة عملهم. وهذا لا يفي بطبيعة الحال تبادل التأثير في مرحلة لاحقة فتصبح علوم الدين مثالاً و نموذجاً لعلوم اللغة.
اللغة العربية ظلت في ظاهرة متميزة منذ تقعيدها في عصر التدوين فيما يمكن أن يتصل بالرغبة في حفظ لغة القرآن من الإنحراف نتيجة الإختلاط الواسع الذي عرفته الحواضر في العراق و الشام بين العرب و (الموالي)، أو بحاجة غير العرب لتعلم اللغة العربية للحفاظ على أماكنهم و نفوذهم، ظلت اللغة العربية كما هي دون أن تتغير أو تتطور ليعتبر أيا منهما دخيلاً على اللغة يجب تركه و إهماله، نتحدث هنا عن اللغة العربية الفصحى التي جُمعت مادتها خلاله - أي خلال عصر التدوين- من الأعراب الذين لم يختلطوا بالحضر بل و الذين لم يتعلموا القراءة و الكتابة، ليتبنى المجتمع ليساير التغير الذي يحدث (العامية أو الدارجة) التي تقتبس و تتماهى مع اللغات الأخري، ليعيش المثقف بين عالمين. فقد تمت عملية مسح شامل للغة العرب ثم تعامل الخليل بن أحمد مع الحروف العربية كمجموعة أصلية اشتق منها المجموعات الفرعية التي تشمل من عنصرين إلى خمسة عناصر ليستخلص الكلمات التي يمكن أن تتركب من الحروف العربية ليفحصها و يدون المستخدم منها و يستبعد غير المستخدم، في مجهود علمي و منطقي صارم جعل اللغة العربية لغة علمية مضبوطة لكنه في حده الثاني جعلها عاجزة عن قبول التطور و التغيير و التجدد بفعل القوالب الجامدة التي حجمتها و حصرت كلماتها و ضبطت تحولاتها و جعلتها لغة لاتاريخية في مقابل قواعد كان يمكن أن تكفل لها امكان التطور و التجدد، فاللغة العربية ربما كانت اللغة الحية الوحيدة في العالم التي ظلت هي في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة عشر قرناً علي الأقل، لندرك مدى ما يمكن أن يكون من تأثير لهذه اللغة علي العقل العربي ونظرته إلي الأشياء، تلك النظرة التي لابد أن تتأثر قليلاً أو كثيراً، بالنظرة التي تجرها معها اللغة العربية منذ تدوينها، أي منذ عصر التدوين ذاته. فقد جمع الخليل بن أحمد الفراهيدي و زملاءه اللغة من الأعراب مما جعلها تتحدد بطبيعة تفكيرهم الحسية (السمعية البصرية) الإبتدائية، فصبوا اللغة في قوالب منطقية تعكس هذه الصور الحسية الصوتية، و سار البلاغيون على نفس الخُطي حينما كرسوا مقاييس بدوية في النقد البلاغي جعلت النموذج (الجاهلي) الاعرابي متحكماً في اانتاج الشعري و الذوق الأدبي على امتداد العصور، في ما يشبه القانون الذي حكم و يحكم التطور الأدب و الفكر العربي منذ عصر التدوين إلى عصرنا هذا يفرض عالماً تقدمه اللغة العربية لأهلها ليس فيه عمقاً في التفكير و لا إمعاناً و فلسفة في التعبير وهذا شيء طبيعي ومفهوم، فعالم الأعرابي لا يحتمل عمقا في تفكير ولكن ما ليس طبيعياً، وما يجب آن يفهم، هو آن يظل الذهن العربي مشدودا، إلي اليوم، إلي ذلك العالم الحسي اللاتاريخي الذي شيده عصر التدوين إعتماداً علي أدني درجات الحضارة العربية عبر التاريخ، حضارة البدو الرحل التي اُتخذت كأصل ففرضت علي العقل العربي طريقة معينة في الحكم علي الأشياء، قوامها الحكم علي الجديد بما يراه القديم.
إن الأبحاث البيانية كانت على رأس الأعمال العلمية الأولى التي إنتقلت بالثقافة العربية الإسلامية مع بدايات عصر التدوين من ثقافة المشافهة و الرواية إلى ثقافة الكتابة و الدراية و بالتالي من الثقافة العامية إلى الثقافة العالمة و تطورت هذه الأبحاث و اتسعت دائرة إهتمامها لتشمل الخطاب العربي ككل و انشغلت بعملية الضبط و التقعيد و التقنين نتيجة المجادلات المذهبية داخل دائرة البيان نتيجة دخول نظامين معرفيين للثقافة العربية هما العرفان و البرهان و زاد من تعميق الوعي بخصوصية البيان استمرار المجادلات بين البيانيين أو بينهم و البرهانيين، و قد انقسمت الأبحاث البيانية منذ قيامها إلى قسمين: قسم يهتم بقوانين تفسير الخطاب بدأ مع عصر التدوين و اهتم بظاهرة تعدد دلالات الكلمات و العبارات مثل كتاب (قاتل بن سليمان)، لاشباه و النظائر في القرآن الكريم) لكن كان تمام هذا الإتجاه مع (حمد بن إدريس الشافعي)الذي اهتم بالمضامين التشريعية في القرآن و كيفية استنباطها و استخلاصها و وضع الأساس لقوانين تفسير الخطاب البياني و حدد الأصول الأربعة (القرآن ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس) و القسم الآخر يهتم بشروط إنتاج الخطاب.
إن المشكلة الأبيستمولوجية الرئيسية في النظام المعرفي البياني تتلخص في مشكلة الزوج اللفظ / المعنى و التي هيمنت على تفكير اللغويين و النحاة و البلاغيين و شغلت الفقهاء و المتكلمين، و قد مالت الدراسات البيانية للنظر إلى هذا الزوج، اللفظ / المعنى ككيانين منفصلين أو طرفين يتمتعان باستقلال عن بعضهما البعض و يمكن بسهولة العودة به للخليل بن أحمد و الطريقة التي جمع بها اللغة من حصر للألفاظ التي يمكن تركيبها من حروف الهجاء و البحث عما له معنى الأمر الذي كرس النظر للألفاظ كفروض نظرية، و تعريف بعض اللغويين للكلام بأنه (ما انتظم من الحروف المسموعة التمميزة) دون اشتراط أن يكون مفيداً لمعنى و قسموه لمهمل و مستعمل و اخذت عندها العلاقة بين اللفظ / المعنى اتجاهات متعددة و خضعت لمحددات مختلفة. و يتصل هذا التصور البياني للعلاقة بين اللفظ / المعنى في مجادلات اللغويين و المتكلمين و الفقهاء حول أصل اللغة: هل ترجع للمواضعة و الإصطلاح أم إلى التوقيف و الإلهام كإمتداد بين أصحاب الرأي و الحديث، بين المعتزلة و السنة و إن انطلقت من ذات المنطلق الذي انطلق منه جامعو اللغة من تصورٍ للمعاني و المسميات في جانب و الألفاظ و الأسماء في الجانب الآخر و باتالي دارت الإشكالية الأساسية في النظام المعرفي البياني حول مشكلة واحدة هي العلاقة بين اللفظ و المعنى كيف يمكن إقامتها و ضبطها، ليذهب الأصوليون إلى ضبطها عبر التقسيمات التالية :
- اللفظ باعتبار المعنى الذي وضع له أصلاً: خاص و هو ما وضع لواحد مفرد، عام و هو ما دل على كثرة سواء بلفظ أو معنى و مشترك وهو اللفظ الذي يدل على معنيين.
- اللفظ بإعتبار المعنى الذي استعمل فيه ضمن سياق معين: حقيقة و مجاز.
- اللفظ بإعتبار درجة وضوح معناه: محكم و هو الذي يدل على مقصود بعينه لا يحتمل التفسير ولا التأويل ولا النسخ، و متشابه و هو ما خفيت دلالته و تعذرت معرفة المطلوب منه.
- اللفظ بإعتبار طريق دلالته على المراد منه: دلالة العبارة و هي دلالة اللفظ على المعنى المقصود منه أصالة أو تبعاً. و دلالة النص و فحوى الخطاب أو القياس في معنى الخطاب و المقصود دلالة النص على تعدي الحكم المنطوق به إلي مسكوت عنه لإشتراكهما في وصف هو علة الحكم، و دلالة الإقتضاء و هي دلالة اللفظ على مسكوت عنه يتوقف صدق الكلام على تقديره.
هذا التقسيم حسب الحنفية، ثم حسب تقسيم الشافعية إلى دلالة المنظوم أي منطوق اللفظ و دلالته الصريحة، و دلالة المفهوم و هي مفهوم الموافقة و هي مسأواة المسكوت عنه للمذكور في الحكم و مفهوم المخالفة و هو مخالفة المسكوت عنه للمذكور أو ثبوت نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. و اللافت للنظر هو أن النشاط العقلي داخله نشاط وحيد الإتجاه من اللفظ إلى المعنى كما في علم اللغة و علم البلاغة. كما أن هذه المشكلة كانت حاضرة في علم الكلام خلال مراحل تطوره غذ ان الكثير من قضاياه قد اصطدمت باشكالية اللفظ / المعنى بل ان بعض هذه القضايا كانت نتيجة هذه المشكلة مثل قضية (خلق القرآن). أما المسألة المركزية الثانية التي تمركزت حولها مشكلة اللفظ / المعنى فهي مسالة (التأويل) الذي يخص في الفكر العربي الإسلامي القرآن بصورة أساسية، و الذي اتصف بكونه (تأويلاً بيانياً) في مقابل التأويل الذي يحول النص القرآني لرموز و إشارات يضمنها أفكاراً و نظريات مصدرها الفلسفات الدينية القديمة. و هو يصدر عن نظامين معرفيين مختلفين هما التأويل العرفاني و التأويل البياني، فالتأويل البياني عند المعتزلة يتوقف عند الحدود التي تسمح بها اللغة العربية و لا يتعداها و اقتصرت الخلافات بينهم و بين السنة في المتشابه من القرآن حيث يأخذ السنيون بالظاهر وافقه العقل أو لم يوافقه محجمين عن توظيف وجوه البيان العربي فيها فيما اتجه المعتزلة لتوظيف الأساليب البلاغية في إلتماس معنى يقبله العقل وراء المعنى الظاهري للمتشابهات. و لم يتجاوز التأويل في الحقل المعرفي البياني اللغة العربية كمحدد أساسي من محددات النظام المعرفي، ليكون التأويل تشريعاً للعقل العربي و ليس مجالاً لممارسة الفعالية العقلية .
إن غياب الإهتمام بعلاقة اللغة بالفكر راجع إلى غياب الإهتمام بعملية التفكير ذاتها مستقلة عن الألفاظ و اللغة، إذ لم ينشغل البيانيون بالسؤال عن كيف نفكر بل (كيف البيان) كيف نفسر الخطاب المبين و ما هي شروط إنتاجه، و رغم ان البيانيين قد صنعوا لغات خاصة بهم (لغة الفقه و لغة النحو و لغة علم الكلام) فقد عجزوا عن جعل ممارستهم اللغوية موضوعاً للتفكير ليستخلصوا منها أولوية التفكير على التعبير، أولوية المعنى عل اللفظ على مستوى الممارسة النظرية، كون أن أولوية المعنى على اللفظ / الفكر و اللغة لا تبدو واضحة إلا عندما يكون الموضوع الذي ينصب عليه التفكير و التعبير مستقلاً عنهما، ككائنات حسية أو عقلية هنا تتجه العلاقة بين الفكر و موضوعه من المعطى الحسي أو العقلي إلى الفكر / اللغة، أما عندما يكون الموضوع الذي ينصب عليه التفكير هو النص فإن إتجاه العلاقة يكون من اللفظ إلى اللغة / الفكر، من النص إلى معقول النص.
النص يمكن النظر إليه كألفاظ و عبارات لغوية و نظام خطاب كما يمكن النظر اليه كمقاصد و معاني و جملة أحكام و آراء، و قد إختار البيانيون منذ الشافعي إلى أبي الحسين البصري و منذ الجاحظ إلى الجرجاني و السكاكي النظر إليه من منظور اللفظ أولاً و المعنى ثانيا فكان لذلك أثراً على النحو فقد تجأوز النحويون حدود النحو و يطرحون قضايا منطقية فخلطوا بينهما و نظروا إلى النحو كمنطق يعنى بالمعاني و الألفاظ، و يشرع لهما و جعلوا الكثير من القواعد النحوية قواعد للفكر فصارت اللغة وعاء يؤطر الفكر ضمن قوالب و مقولات لغوية.
أما المنتج الآخر الذي يمكن أن تنفرد و تتسمى به الحضارة الإسلامية فهو الفقه الذي يتصدر المنتجات الفكرية داخلها كإنتاج عربي إسلامي محض يشكل إلى جانب علوم اللغة العطاء الخاص بالحضارة العربية الإسلامية أقربها في التعبير عن خصوصيته، فقد تلاقت فيه مختلف الإختصاصات قبل عصر التدوين و خلاله و بعده و استغرق العمل الفقهي خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة الطاقات الفكرية للأمة الإسلامية فقد ساهم علماء الكلام و اللغة و المؤرخين و الأدباء في وضع المؤلفات التشريعية، و ساهم كذلك في إعادة توزيع الشخصيات العلمية لتلتقي على صعيد المذهب الفقهي رغم ما يفرق بينها على الصعيد العقائدي و السياسي و الفلسفي. و قد حل التشريع الإسلامي محل التشريعات السابقة في كافة البلدان التي فتحها الإسلام دون أن يسجل التاريخ صراعات أو احتكاكات بين القديم السابق على الإسلام و الجديد الإسلامي فقد (جب الإسلام ما قبله تماماً في مجال الفقه) بعض هذه التشريعات إمتصها الإسلام و تبناه و سكت عن البعض لكن لم يكن لهذه التشريعات أثر على المستوى النظري و التفكير الفقهي الإسلامي. و ترجع خصوصية العقل العربي لعلم أصول الفقه كعلم يتوسل بواسطة قواعده استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة ليشرع للعقل ذاته و قد انفردت به الثقافة الإسلامية دون الثقافات السابقة، إستهدف هذا العلم إنشاء علم للقانون يتميز عن القوانين التفصيلية الخاصة بالسلوك يمكن تطبيقه في أي مكان أو عصر. و قد طبعت الطريقة الفقهية طريقة عمل العقل العربي لتحدد بعد ذلك طريقة عمله في النحو أو الكلام أو غيرها من العلوم، لينشأ نتيجة لذلك تيارين احدهما يتمسك بالموروث الإسلامي و يعتبره الأصل الذي يجب إعتماده فيما جد أو في فهم الموروث الإسلامي نفسه و الآخر يتمسك بالرأي و يعتبره الأصل أي الإجتهاد في فهم النص القرآني على ضوء أحكام العقل لكن الصراع بين هذين الإتجاهين لم يكن بين القديم و الجديد و لا بين الثابت و المتحول بل كان صراع بين وجهات نظر لم تكن تعتمد نفس الأصول و المقدمات في معالجتها للقديم و الجديد معاً و يعبر عن أزمة أسس نتيجة حوجة العلوم الإسلامية لإعادة تأسيسها منطقياً و أبيستمولوجياً بعد أن تم تأسيسها عمليا من خلال تدوين العلم و تبويبه. و قد تأثر الفقه أيضاً بثنائية اللفظ / المعنى كون أن الفقهاء أخذوا يشرعون للفرد و المجتمع إنطلاقاً من تعقب دلالة الألفاظ على المعاني والمواضعة اللغوية على مستوى الحقيقة و المجاز ليهملوا مقاصد الشريعة ولتصبح مقاصد اللغة هي المتحكمة. و رهن الفقهاء التشريع بقيود العلاقة بين اللفظ و المعنى و هي علاقة محدودة فكان أن تقوقع التشريع ضمن حدود معينة لا يتعداها مما جعل انغلاق باب الإجتهاد نتيجة حتمية لأن استثمار النص انطلاقاً من اللفظ و طرق دلالته على المعني التي حصرت بالمواضعة استنفدت الإمكانيات التي تتيحها اللغة و التي هي محدودة، و لو أسس التشريع على مقاصد الشريعة لما انغلق باب الإجتهاد وبالتالي لما تجمد تطور الحياة ضمن قوالب اللغة . كذلك أدي الأمر لخنق العقل الذي يزهو به علم الكلام و يعتبره أصلا من اصوله و تحجيم دوره، كونهم انشغلوا بقضايا خلق القرآن و مسألة التأويل و مسألة الإعجاز و انتهت مناقشاتهم في القضية الأولى لتكريس حل وسط بالقول بقدم معاني القرآن و خلق ألفاظه فاصلين بذلك بين اللفظ / المعني، اللغة / الفكر، أما مسألة إعجاز القرآن فقد فقد توارت المعاني و المقاصد في خصم انشغالهم بالألفاظ و النظم، أما في مجال البلاغة فقد انخرطوا في اشكالات المتكلمين من جهة و الفقهاء من جهة أخرى فقد اصبح اللفظ مقيداً بما يمكن أن ينتج عنه على مستوى الكلام و الفقه. و أصبح بالتالي خاضعاً لهذين العلمين و ليلتزم البلاغيون بمواضعات السلف باعتبارها سلطة مرجعية لا تطالها سلطة. و عليه فيمكن أن نري أن التصور البياني للعقل أنه ليس جوهراً أو جزءاً من النفس بل هو غريزة تتغذى بما يكتسبه الإنسان من من تجارب و خبرات و ما تنقله إليه الأخبار من معارف و معلومات. و رغم هذا فالتصور البياني يقلل نت أهمية العقل كقوة و سلطة كون الإكتساب يعني أن العقل يتبع ما يتحصل عليه الإنسان من معارف و أدب و هي محكومة باشكالية اللفظ / المعنى و بالتالي يتكون العقل داخل معطيات اشكاليتهاكونها تتجه من اللفظ إلى المعنى، إذن فتكوين العقل البياني يتم عبر حفظ النص و النظر فيه و يتركز اهتمامه على نظام الخطاب و ليس نظام العقل.

*بعض المصادر ذكرت في الجزء الأول المنشور بتاريخ 3/1/2007 و ستذكر كافة المصادر و المراجع في نهاية البحث.



#محمد_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً


المزيد.....




- إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط ...
- إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ ...
- بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
- حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا ...
- جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
- الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم ...
- اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا ...
- الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي ...
- مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن ...
- إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الحاج - قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً2