|
عناصر منفصمة..11
محمد الإحسايني
الحوار المتمدن-العدد: 1818 - 2007 / 2 / 6 - 07:03
المحور:
الادب والفن
الحيلولة
الساعة حوالي الرابعة بعد الزوال، جلست سعاد بجانب والدتها في الصالون، بعد قيلولة امتدت نحو ساعتين على غير العادة. الستائر بلون خريفي، ولكنها تحتفظ بألق سمرتها المفتوحة. هناك أحياء تأخذ بلب الإنسان، تأسره، تهيمن على عواطفه، أو تتلاعب بها: حي بيجو ببساطة هندسته، وكوليج ميرس السلطان، والفيلات المحيطة به، كل شيء متناسق في نظام تضفي عليه الزهور البنفسجية من شجيرات الأسوار القصيرة، ألقاً ورونقاً يطول شرحهما. ستائر الصالون بسمرتها الخفيفة تحول بأدب واحتشام، دون أن يستغرق المرء في تأمل جمال الشارع. كانت تعوض عن بشاعة سلوك حميد، بيزيد الدمناتي، ولكنه كان مراقباً من المخابرات التي ساهمت في تصفيته. بيد أن هيئته لازالت ماثلة في هبوب نسيم الغسق، وتباشير الصباح؛ فجمال الحياة لم يطل كثيراً، غير أنه تحول إلى ذكريات ممتعة. تأتي طامو منهوكة القوى بعد فراغها من الأشغال المنزلية من بيت بيزاردو، تأتي بين حين وآخر لتساعد رابحة ثم تثرثران أحياناً، وتخوضان في أخبار الدرب. ثم إن طامو لم تنس مساعدة رابحة لها في الانتقال إلى سنطرا بعد أن ضاقت بها الأحوال، "كنا ننتظرك يا خالة بلهفة" تلك كانت عبارات رابحة المعتادة. ثم تسرح بفكرها عما أشيع عن طامو: " يصعب على أن أصدق ما تلوكه ألسنة النساء حول زوجات كبور" ومع ذلك لم تجرأ على مفاتحتها به، كأنما تخشى الإتيان على البقية الباقية من ذكريات درب عمر. لقد مرت الأعوام؛ وصدى أجراس عربة عباس، تجلجل في أذنها، وصوته الجهوري يصيح بالأدهم:" هيي هيو تشومبا !" حقاً، إنها جربت بنفسها حياة الترمل، والفراغ القاتل، بعد استشهاد يزيد الدمناتي، الذي زاد شارع بيجو جمالاً معنوياً. لا يمكن أن يطغى عليه الجمال الجسدي. ثم: ما الجمال في كلتا الحالين؟ كانت يوم ذاك، ممرضة في عيادة الدكتور بيرنار، بعد حصولها على نصيب من التعليم الإعدادي من مدرسة الراهبات. ذات يوم من أيام صيف 1954 وجدت زوجها صريعا في بركة من الدماء، على مدخل عيادة د.بيرنار. صرخت من الدهشة؛ وهي لا تصدق:"قتلوه يا دكتور !". جاء بيرنادر على عجل، ولم يجد أحداً من مرضاه في العيادة سوى جثة يزيد الهامدة. أخذ يقلبها مدمدماً في غضب: "وحوش ! يا إلهي !" أما هي، فلم تسترد وعيها إلا في مصحة النخيل. في الصباح التالي، بعد ثمانية وأربعين ساعة على استشهاده، طلعت "ماروك بريس" بمقال كان الدكتور بيرنار يهاجم فيه غلاة المعمرين القتلة، لكن الرقابة شطبت على ثلثيه، فجاء في شكل خبر، لا أقل، ولا أكثر. هاهي بعد مرور الأعوام، يشق عليها رغم ما أشيع عن طامو، أن تفسر نوعاً من النوستالجيا تنتابها نحو الدرب، وكثيراً ما كانت تتساءل: "أيكون لنضال كبور صدى يتجاوب، وما في صدري، من حب، وعشق لهذا الوطن، أم إن لصداقتنا نوعاً من تجاذب الأضداد؟" لقد قبلت طامو الدعوة، حينما عرضت عليها أن تتناول معها عصرونة هذا اليوم، قبلت ذلك بامتنان، وشرعت تسأل عن أحوال سعاد كالعادة، فبادرت هذه الأخيرة في مرح طفولي: - أهيئ لسفر إلى الولايات المتحدة. أمنت رابحة على قول ابنتها: - سيساعدها شخص تعرفت عليه أخيراً، إلا أنني لم أسألها عن بقية التفاصيل. الذاكرة تركض بها مسرعة إلى أيامها مع عبد الحميد في بارك ليوتي، وسفره هو الآخر، إلى فاس. وفيما كانت يوم ذاك تنتظر رجوعه، ظلت تتساءل: " كيف يمكن أن يزول التوتر في مدينة نهشها التخلف، وأرهقها الضعف، في ظرف أسبوع؟" وكثيراً ما كانت تسري عن نفسها على إثر إنزال الأمريكان و القوات الحليفة، وكانت تتأمل الأصيل الهادىء، وتتمتم بداخلها: "الآن، زالت الخمرة الداكنة من قبة السماء، تيار جارف من شاحنات، ومصفحات، ودبابات، ودراجات نارية، يسترسل في شارع المقاومة، و الجنرال فوش" هناك إنزال حقيقي لجنود أمريكيين يوزعون شونغوم بسخاء، يضحكون في استهتار، يقهقهون في خلاعة. هم أقرب إلى السكر والانتشاء منهم إلى الصحو، وضبط النفس. وكانت المدينة التي تئن من البؤس، والألم، قد استيقظت على وقع جرح آخر،أشد إيلاماً من كل الجروح الأخرى : سقوط عبد الحميد، وخيانته التي تناقلتها الركبان. لشد ما كان والدها يتألم من الحرب !(يدق الباب دقات متوالية، فتهرع والدتها رحمة الله عليها تفتحه): - عبقادر، مالك (تسائل زوجها) - الحلفاء انهزموا ! تحاول التخفيف عنه عبثاً: - ما يضيرك؟ يرد عليها في يأس: - السلعة المطلوبة محجوزة في ميناء مرسيليا، إلى إشعار آخر. وكعادتها، تساءلت طامو، وهي تتناول فنجان القهوة من يد رابحة:"أخبار سي عبقادر؟" قطبت رابحة وجهها، ثم انفلتت منها كلمات:" انقطعت معه الصلة، كما انقطعت مع من لا يسمى، أي حميد الخائن." فهل تجهل طامو السبب؟ فدائما هناك زوجة الأب. وكأنها لا تريد أن تنكأ الجروح فاكتفت بالقول: - هناك طموحات أخرى وحرية سعاد. تأملت ما تبقى لها في هذا العالم الموبوء بالتقلبات، والتغيرات، نقلت نظراتها المشفقة في حنان أم رؤوف، إلى سعاد:"التاريخ لا يعيد نفسه عندي، هناك دائما تجدد، وتطور، بالرغم من تشابه الأحداث؛ ومن الناس من يعيش في الأوهام". ومن الناس من يعيش في الأوهام." كانت أمها تسائل والدها:"عبقادر": أعصابنا تحطمها أصوات المدافع، وأزيز الطائرات، ما دها الكون؟" يطمئنها: " هنيئاً سيطلقون سراح البواخر المحجوزة"وكأنها لا تزال تسمع صوت والدتها تصرخ:"الخبز في الفرن، لا أدري هل رمي في النار، أم انحلت العجينة بفعل الخميرة؟". ويتندر عبقادر: "جيوش فيشي لا وجود لها هنا، فلتكن يا رب معركة وهمية، مجرد مناورة !" حقاً كانت معركة وهمية. لكن كيف تحول حنان الأب إلى كراهية، حتى قبيل موت والدتها؟ كانت رئيسة مدرسة الراهبات تلح عليها أن تتابع دراساتها حتى تتمكن من دخول كلية الطب في فرنسا، لكن الأب يريد أن يوقف نشاطها عند حد معين، فجاء يزيد الدمناتي، قبلته زوجاً في الحين، لأنه كان من كبار التجار المتنورين، وثانياً لأنه كان وطنياً مخلصاً في السر والعلن، كان عكس حميد الذي تردى في وحل الخيانة والصغار. ومن ثم، طوي خلافها مع والدها، إلى أن فتحت زوجته صفحاته. حقاً كانت معركة وهمية. وكان الكون غاضباً. تشربت صفحة السماء في الأصيل بحمرة قانية.اختفت الطيور التي كانت تتابعها غسقَ كل مساء؛ وهي تحاذي سور شركة الحديد الممتد من بن جدية إلى درب عمر، واختفى في ذلك اليوم أيضا كل ما يذكرها بغيابه، لم يعد للحب من رائحة، قد يكون مشغولاً بواحدة من عرائس الجبال المجاورة لمدينة فاس. وإذ كانت يوم ذاك هواجس الحب تداعب خواطرها تحت خصلة من شعرها انسابت على جبين ندي، أرسلت بصرها يخترق الآفاق، فارتد إليها فيما بعد، كليلاً. أصداء نغمات "الكوردون" سكتت من حانة كَامبيتا؛ كانت نفسها تهجس به:"هل سأعيش حتى يعود من فاس، فنقترن معاً كالخطافين، نتهامس بأنغام الحب؟" ثم إنها كثيراً ما تتنهد عندما يطول بها السأم: "آه ! تلك خيالات حب ضللتني كثيراً !". كان بالنسبة إليها أكثر من شيء عادي، كان حلماً مزعجاً في ذات الوقت. ولم تكن تعلو عن سماء الحب إلى درجة الإحساس بالقيم المجردة. لقد خشيت في الأول أن تنساق وراء عاطفة شديدة. سرحت ببصرها في الدرب، تبحث عن مكامن الألم: الحب في نظرها هو الحياة، ووسيلة الحياة الحرية حتى تدركها. ومن هناك جاء حبها لرجال الوطنية، ولزوجها الشهيد فيما بعد؛ فحثت نفسها حينذاك، جادة في طلب الحياة، تطلب شيئاً ملموساً. ولم تكن ثورتها وخروجها له، خلافا لأعراف الدرب، في بارك ليوتي وممر كامبيتا، في اتفاق أصلاً مع المواضعات السائدة، ولا بالاقتران بتاتاً مع مركز والدها؛ فكان عليها أن تتمرد حينذاك، عزمت على الانطلاق ذاتياً نحو الجمال، والقوة، ومحاربة شرور الأنانية، والخور، والتمسك بالحق، وألا تحيد عن جادته. وإذا خيروها، فسوف تثور في حدود تتفق مع واقعها وطبيعتها. فالجمال، في كل شيء، في الأشجار، في أولئك الجائعين العراة، في همسة حبيب واع تهب كنسيم الفجر، تداعب أذنها، في شفتيه إذا تكلم، في عينيه إذا نظر. وقد يعتريها فترة ذهول، حتى تحسب نفسها في عالم الجمال والمثال بغير هذا وذاك، يبقى الوجود في نظرها عالما مبهما، ظلاما في ظلام، وخيالا حلزونيا في خيال. تزعق صفارات الإنذار، فتستفيق من تأملاتها، لتجد والدتها تسألها: - ألم يكفوا عن الزعيق؟ إنهم يمزقون صماخ أذني ! وترفع هي يديها عن غسيل الصحون، ثم تستدرك على والدتها: "نسيت أن أخبرك بما أخبرنا به الأعمى الدربالي، يوم زار الدرب." ولم تكن تعرف أن الوضع، سيزداد وخامة إلى هذا الحد من الزعيق، وقصف بالمدافع. فانزوت ساعتذاك، في غرفتها أنشأت تفكر بجد، في معنى الحرب:"هل يموت الناس جماعات كما يموتون عندما تفتك بهم الأوبئة المنتشرة في المدينة، أم يحصدهم القتال عن آخرهم، فيبقى الكون خاليا من البشرية؟ وبعبارة أخرى، هل يحكم الغالب المغلوب، كما تحكمنا الحماية، فيذيقه أسوأ العذاب؟" انتابت حاستها الأنثوية تساؤلات غريبة، ولكنها كانت تعود لتنصب على غيابه: "ترى هل ينجو، إذا دكت المدينة بالقنابل؟" اتجهت سعاد إلى المطبخ للتخلص من بعض الصحون غير المغسولة، بينما كانت رابحة قد تفرغت لطامو تشاركها تناول القهوة، فقد اجتاحتها، في لحظة واحدة، بعد أن انتهت من ترتيب الورود في المزهرة، عاصفة من أحاسيس، بمقدار ماهي غريبة، بمقدار ماهي لطيفة، أهي مراهَقة متأخرة، أم حنين إلى أيام غابرة كانت تستلذ فيها الحرية، وتبيت نيتها على التمرد والعصيان، تفرغاً لهواجس قلب مغرم؟ "لتكن الحرب ! ليزلزل الكون !" " غداً تنبت الرياحين على وجه البسيطة" لكن جميع المراحل كانت تشكل حلقة مفرغة. وتستمر صفارات الإنذار يوم ذاك تزأر، ضاعفت الأصوات من ارتعابها، فتساءلت مراراً :"ماذا بعد فناء الأرض والناس: أين يذهب جواد عباس الأدهم؟" وكانت والدتها لا تكف بدورها عن السؤال:"أما من نبأ عن الألمان الذين نزلوا في الظهر الكبير؟" أما طامو؛ فيبدو أنها متعبة، ولهذا اتكأت على مرفقها فوق الأريكة. وبينما حاولت رابحة إلقاء نظرة على المطبخ، لم تجد أثراً لسعاد. استفسرت عنها طامو :" متى خرجت؟" أجابت: "لبضع دقائق..." وإذ لمحت سعاد تراجع بعض الكتب في مكتب غرفتها، صمتت، ولم تطلب بقية التفاصيل. أخذت تتمم غسل بقية الصحون... أما هي، فمازالت تتذكر: ارتعبت من أحلام اليقظة في بارك ليوتي: كان حميد قبل سقوطه ، يجمع بين الليونة والحزم، وكانت تخشى أن يتغلب أحدهما على الآخر. أثناء انكبابها على تنظيف الصحون انتابها شعور بالأسى، هالها أن ترى العروق قد برزت بين سلميات ظاهر كفها بشكل مثير للانتباه: " ألا تزال هناك طراوة الصبا؟" فقبل أن يتم الدربالي يوم ذاك (الخرجة)؛ خرجت عن حدود الاحتشام، استبد بها التأثر مأخوذة بشيء ما، كأنه الحب، أو مرح يهز أعطافها؛ فصرخت بملء فيها مما لفت أنظار المتحلقين: - لله درك ! كفى ياشيخ ! وعندما لم يتحرك في وسط حلقته، كأنما لا يعير اهتماماً لقولها، ألحت عليه، فاحمر وجهها حياءاً: - هلا أسمعتنا نغماً آخر مثله وأحسن، من أين يبدأ الإنسان وأيان ينتهي؟ قبلت رأسه في امتنان، ثم وضعت قطعة فضية من النقود في حجره، اختلط عليها الأمر، وسأل الأعمى: - من هذه العفيفة ابنة الأكرمين؟ أجاب المتحلقون بصوت واحد وبسذاجة مطلقة: - رابحة بنت عبقادر، تاجر الدراجات. افتر ثغره عن ابتسامة خفيفة، ثم استأنف التقطيع على الطنبور.في تلك الأثناء، انحنت تهمس في أذنه، فتوقف العزف بغتة، وبدت التساؤلات على وجوه المتفرجين... وما لبث أن انتقل إلى لحن آخر، غير ما كان يعتزم عزفه، فصدح صوته يرتل: من أودع الأجفـان صوارم الهـنـد وأنبـت الريحـان في صفحة الخـد قضى على الهيمان بالدمع والـسهـد أنـى للكتـمـان ! جمع له صبية الحي ما جادت به أيدي الأسخياء. طريقته في الغناء كانت تثير الأريحية، أشياء كثيرة كانت تمر في الدرب لا تثير عواطفها، لعل مبعث ذلك أن معزوفاته تعود بالوجدان إلى أيام غرناطة الزاهرة، أو إلى غابر أيام بغداد. ثم إن غناءه – والحق يقال- كان يقربها جيداً من عبد الحميد. يتخلل ذلك كله فترة استراحة قصيرة. وترى كلبه يقلب بصره بين الحضور، ثم لا يلبث صاحبه أن يستهل الغناء بطرب غرناطي آخر، يترطن منفعلاً بالدارجة المغاربية. ولما أنهت غسل الصحون ومسحها، تقابلت وجهاً لوجه مع المرآة: وجه خال من التجاعيد على كل حال. ما سرى الذبول إلى بشرتها أبداً. إنما هناك بعض شعيرات من الشيب أخذت تنتشر حول صدغيها، عليها أن تزيلها. ليس هناك ما تتحسر عليه. فالمستقبل إذن بجانب سعاد. دلفت إلى الصالة، طامو في إغفاءة، مازالت بشرتها النحاسية طرية، يوم رجوع الأدهم، أقامت حفلة بامبارا في الإسطبل، حضرها أهل الدرب، دارت كؤوس الشاي المنعنع، ثم هدأت اصوات البامبارا. ضربت النساء على التعاريج مع لحن "آهلاوة... السلاوة"، و "الله يعمر هذا، بغينا نشربو آتاي !" وزغردت النساء كثيراً لكبور. فرقة بامبارا ترقص رقصات مثيرة، تسايرها الصنجات والطبول، حرك أفراد الفرقة الضنجات في انسجام، تمايلت رؤوس أسكرها النغم، وتمايلت معها في الهواء، أهداب طواق مرصعة بالأصداف، قرعوا الطبول بدقة محكمة، تتخللها نغمة: "بامبارا يحب البنات بيضات أو لا كحلات
وبين آونة وأخرى، تصدر أصواتهم تراتيل في طقوس وثنية: الكناوي بابا ميمـون الكناوي بوشاشيـا الكناوي مشى للسودان أوجاب سودانـيـة جاءت أسرة دجوفاني، فأكرم كل أفرادها. غناء الدربالي، وأهازيج نساء اعترتهن رغبات جامحة إلى الرجال، اختلطت يوم ذاك في أذنها. وفي الليل، عندما أسلمت رأسها إلى المخدة، وجدت صعوبة في النوم؛ وقد هاجت أشجانها. حاولت أن تنام، بيد أن لقاء بارك ليوتي، عاد ليفرض هواجسه على نفسها، فهو ليس ببعيد يوم ذاك، تساءلت: "متى يتم الخروج من نطاق تقاليد الأسرة والدرب؟" تعلقت به زمناً، خفق له وجيب قلبها، ثم رأت أن ذلك الحب لم يحن موعد الإعلان عنه، فليس بشيء بسيط؛ فجاء بعد ذلك لقاء بارك ليوتي ! ومع ذلك ظلت تحتفظ به كلية في صدرها، فأصبح سراً من أسرارها الأنثوية الخاصة قبل ذلك وبعده. من الظلم أن تتعذب من اجل الحب: سمعت الكثير عن فاس، وعن حفلات المناسبات، عن حاسة الطرب عند أهل المدينة، وأذواقهم الرقيقة، وكرمهم، وأريحيتهم . وما حضرت حفلة طامو بمناسبة عودة الأدهم، إلا لتتجسد أمام عينيها كل صور الحب، لقد مضت ستة أشهر على سفره، لم يرسل إلا رسالة واحدة من العاصمة العلمية، يطلب من والده فيها أن يرسل إليه غطاء صوفياً يتقي به برد فاس. وكان حبها له قد قوي مع مرور الأيام. وقد خيل إليها انه يحترق جوىً مثلها، فهي لم تكن ترى فيه سوى شخصية متميزة، متطابقة مع نفسها، دون تناقض. ولعل تلك الخاصية التي كانت تتوهمها فيه هي مصدر القيم العليا لديها. فهل كانت قد استطاعت بالاحتراق وحده أن تطلع على طبيعته الخفية؟ هي، ليست غافلة عن العناصر غير المضيئة فيه.ثم جاهدت، ما أمكنها أن تغض البصر عن الهنات، فغلبت بالتفاعل الاحتراقي، الجوانب المضيئة تلك، على الجوانب الكالحة فيه، أو كأنها لا توجد قط. آمنت أن عبد الحميد لها، و للدرب، وأنه نبراس يضيء طريقها بالخصوص. عجزت عن إدراك السبب الذي من أجله أحبته. وكان بالنسبة إليها يشكل تجربة قاسية في طريق اكتشاف الآخرين؛ لأنها تجاوزت الحد في عشقها، لترتطم بأمواج الهوي سابحة في بحره. أخذ النعاس يتسلل إلى جفنيها من كثرة ما رقصت في حفلة بامبارا، ثم تثاقلت كل حواسها، فاستسلمت للأمواج فراحت تسبح مع الأحلام:(حميد متخرجاً من فاس، جاء يبحث تواً، عن أبيها عبقادر:"أريد أن أخطب رابحة." ويجيبه والدها: "ابنتي مخطوبة لابن عمها الثري في وجدة ! " تجلس وإياه، يتجرعان مرارة الأحزان تحت الشجرة. شكا لها: - ما العمل؟... إنني خسرت كل شيء. تجيبه في يأس: - علينا بالهروب إلى فاس، حيث الهدوء، والحب، والحدائق العربية. هل هو جميل إلى هذا الحد. إنما يسعى إلى امتلاكها، دون أن يكون هو ذاته جميلاً. وبالعكس، هل هي جميلة إلى هذا الحد، حتى تتمنى أن يكون لها وحدها، وأن يستمر امتلاكها له؟ إذن؛ وحتى يحصل ذلك... يختطفها إلى فاس، وهناك تفاجأ بأنها تسرح بين حدائق أجنبية. ثم تصرخ هاربة منه:"هذه ليست حدائق عربية... هذه ليست حدائق عربية!" تبحث عبثاً عن سكان الدرب، لقد بحثوا عنها في كل بقعة من بقاع الأرض. وإذ ضبطوها بين الخمائل، يصرخ والدها في وجهها:"كيف، ومع من، جئت من الدار البيضاء؟" تنتحب في ضراعة، وتستغيث... ثم يعيد عليها الأب إنذاره اليومي: "الباب، والنافذة، وإطلالات السطوح، مناطق ممنوعة." تصرخ بملء فيها:"أبتاه، قد نسيت !" يتضاءل أبوها، يتلاشى حتى يتبخر. تشمر عن ساعدها، تبحث عنه، فإذا هي في طليعة سكان الدرب؛ يسيرون فوق قبعات الجنود). صحت من حلمها مثقلة الجفون، ونظرت إلى ساعة مبنى البلدية، كانت العاشرة والربع صباحاً. سمعت والدتها تناديها: "ألا قومي، فإن النهار قد تقدم !" "نعم، سيكون المستقبل لصالح ابنتي سعاد". وكأنها لا تزال تتخيل آثار شفتي حميد، فأسرعت إلى "البودرة" تضعها على انكماشات لا تحس بها إلا المرأة العاقلة التي تخلت عن غرور الشباب. كان يتردد تحت نافذتها حتى بعد أن أعلن الدرب قطيعته له، يكتفي بإلقاء نظرة عليها، أثناء مروره إلى مكتب المصالح الأهلية، أو كلمة يتغزل بها، ولكن تغزله فج، فقد كل معنى من معاني النبل، والإباء، والشرف. فكان جوابها: أن تصفق دونه النوافذ بكامل قواها، وتعتصر من آلامها ما شاء الله. تكررت المحاولات بلا جدوى، ثم قررت أن تواجهه على مرأى ومسمع من أهل الدرب. وبذلك وضعت حدا للشائعات. خرجت إليه ذات يوم؛ وكانت قد مرت فرقة من الكوم، في مظاهرة سلمية تطالب بإنصاف عائلات إخوانهم المغاربة الذين استشهدوا في معركة آلزاس. كانوا حوالي ستمائة جندي، يحملون الهراوات يرددون: "ها مشيتو خليتوها علينا !" انتظرت حتى مر موكب قدماء المحاربين، ثم خاطبته:"أهلاً بالأديب الذي يركع تحت أقدام الحكام الذين يبسطون على شعوب الأرض أيديهم النحاسية." ثم أضافت في مرارة: "لا شك أن تمثال المارشال يعجبك؟ هلا ذهبت إليهم واعتكفت في محرابهم ! هل نبذوك؟" صاح: - مهلاً سأحكي لك كل شيء. قاطعته في إباء: - صه ! حسبي ما أنا فيه من العار ! وسرعان ما أحاط به الصبية يودون الفتك به. فاضطر أن يأخذهم بالتحايل والتلطف، إلى أن وصل إلى شارع كامبيتا... في عصر اليوم التالي، نادتها طامو من المغسلة: - أين ملابس سعاد كي أمرر عليها بالكي؟ استمهلتها، ثم دخلت غرفة سعاد، وهذه الأخيرة كانت لاتزال منشغلة عن كل ما حولها. غالباً ما تعدل عن القيلولة، وكسل الظهيرة، إلى البحث عن النظريات المستجدة في علم الاجتماع. انكبت على مجموعة من المراجع، تبحث في منهج المقارنة عند دراسة الظواهر الاجتماعية، وبماذا يمكن تفسير الرذيلة اجتماعياً... أمعنت النظر في ابنتها تحس بالسعادة تجتاح كيانها. من عادتها، أن تلم بكل شيء له صلة بحياتها. هذا الاهتمام مصدر اعتزاز للأم التي انفصمت عن عرى أبيها عبقادر مكتفية بإرث زوجها الشهيد، وبما تتقاضاه من الدكتور بيرنار كممرضة. لقد تقلدت المسؤولية مبكراً، مسؤولية تربية سعاد بعد استشهاد اليزيد الدمناتي. وكان اليزيد يشكل صلة وصل بين المقاومة، والجهاز الوطني المنظم لها في الخارج، فزادها كل ذلك قيمة في أعين الجيران. وكانت ترفض التبجج رفضاً شديداً، أو أي جزاء عن المقاومة لما رأت الكثيرين يتزاحمون على نيل بطاقة مقاوم، لأنها ظلت تؤمن أنها للوطن بكيانها وروحها. فتشت عن ملابس سعاد، فاصطدمت يدها بملف، فتحته بسرعة، ثم تراجعت إلى الوراء:"كيف يخدعني ولد الحرام، ويخدع الدرب، و الحكومة المغفلة، و سعاد؟" أخذت ترتجف، ثم صرخت في انفعال: - ماذا يريد مني هذا الكلب؟ مشيرة إلى صورة عبد الحميد في الملف. جَرَت إليها سعاد، وتداركتها قاطعة عليها حبل الكلام، وقالت: - ماذا حدث؟ ... إنه الشخص الذي... قاطعتها رابحة، ولم تدعها تتم كلامها: - ليذهب هذا الخنزير ومساعدته إلى الجحيم. ثم شرعت تضحك ضحكات هستيرية، فخشيت سعاد، أن تسمعها طامو، مما جعلها تأمرها: - خففي من كلامك أماه: أنت أدرى بحال مخطوبة مثلي. وتذكرت، يوم كانت تتسلل، خفية عن أعين عبقادر، إلى شارع كامبيتا، للقائه، ثم صاحت في غضب: - لن أسكت... هل يعتبرني غبية؟ - أماه، أرجوك، اخفضي من صوتك ! وأرادت أن تهمس لأمها بكلام، فأبعدتها: - أين جواز سفرك؟ أخذته سعاد من محفظتها، وسلمته إليها، استرجعت رابحة شيئاً من هدوئها، ثم قالت: - لن تذهبي على يد هذا الوغد، إلى الولايات المتحدة، اعتبري سفرك مبطلاً من الآن ! ذعرت طامو؛ وهي تقف بنفسها على صورة عبد الحميد في الملف الميداني لسعاد، ولم تنتبه رابحة إلى الدولاب الذي فتحته بعصبية، على مصراعيه، ولا إلى النافذة المشرعة إلى ردهة الغسيل، في حين كانت تمعن بصرها في مسدس الشهيد الدمناتي، وصورته المعلقة فوق الدولاب. وإذ جاءت طامو كي تستلم ثياب سعاد، أسرعت رابحة، فأغلقت الدولاب. وجهت إليها الخطاب: - الكي، لا يقوم ثنيات الملابس، لابد من طريقة أخرى عملية. "ليتهم يعرفون السر. إن حبي العميق لزوجات ابني السابقات هو السبب، آثرت ابني وسعادته على العالم أجمع. كيف يريدون أن أحب نفسي وحسب؟ حتى كبور، لا يشاركني في الظاهر مشاعر ذلك الحب، أو لعلي على الأقل، لم أطلع على ما يدور بخلده. كذب من يدعي أنني لا أحبه: يوم أخذوه من الكوخ في سانطرا، شققت طريقي إلى القوات الفرنسية، و الأجنبية، بين جثث الشهداء، غير مبالية: ردوا إلي ولدي يا أولاد الكلاب ! بصقت على وجوههم، ولم يحركوا ساكنا، وسرعان ما حمي وطيس المظاهرات في كاريير الخليفة". وينصحها موحا عبثاً: - أراحو راك شنغن ! = امضى لئلا يقتلوك. تحفز واحد منهم يهم أن يطلق عليها النار. أمره قائده: - دعها تترثر، لا تطلق النار إلا على الجماعة ! يحتشد سكان الأكواخ في مظاهرة صاخبة مطالبين بالحرية، يصيحون بعبارات معادية للحماية. عندما ينزلون إلى ساحة درب مولاي الشريف، تحاصرهم القوات الفرنسية، فيصيح قائد السرية: - أطلقوا النار ! فإذا بالرشاش يحصد الرؤوس، فإذا بالكثيرين يسقطون. كان دجوفاني يأتي، ويدفع باب الإسطبل، كالعادة، فيتقدم إلى العربة يهم بربط جواده إليها قبل أن ينزعوا منها الإسطبل. يا للمعان حذائه الجلدي ! كان بُنيا كوجهها. وعندما تنتابها نزوات غريبة؛ وعندما ينطفئ ألق الحذاء، فكأنما خسف وجهها، وتبلدت حواسها !
#محمد_الإحسايني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإنسان والبحر
-
عناصر منفصمة...10
-
عناصر منفصمة...9
-
عناصر منفصمة...8
-
عناصر منفصمة...7
-
عناصر منفصمة...5
-
عناصر منفصمة...4
-
عناصر منفصمة...3
-
عناصر منفصمة...2
-
عناصر منفصمة
-
مفاكه
-
إحساس
-
الأرامل
-
كل واحد وخرافته
-
شارل بودلير...العامّة
-
فينوس والمجنون
-
إشراقات بعد الطوفان... آرتور رامبو
-
ثقافة الحوار والاحتلاف
-
فلوبير عشية محاكمته
-
إعادة الاعتبار لشارل بودلير
المزيد.....
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|