|
-الحرية مِن- وإعاقة التحرر الحالة الفلسطينية نموذج
علي جرادات
الحوار المتمدن-العدد: 1817 - 2007 / 2 / 5 - 12:18
المحور:
القضية الفلسطينية
"الحرية مِن" وإعاقة التحرر الحالة الفلسطينية نموذج عن هذا النص: لا فضل لي في هذا النص الا بمقدار تمكني من التاطير النظري لاحاسيس وآراء عدد كبير من عضوية وكادر الحركة الوطنية، وتحديدا اؤلئك الذين ما زالت تلفهم عتمة السجون، وما زالوا برغم هذه العتمة يقبضون على جمر معاناتهم وعوزهم، ويسعون بارادة صلبة ويحلمون بحس وطني وانساني طاهر بنيل الشعب والوطن "للحرية من" سيطرة احتلال خارجي، وبنيلهم هم "لحريتهم من" عتمة سجنهم. اجل لهؤلاء الذين لا زالوا يكابدون ويحلمون بالحرية يعود الفضل الاساس لهذا النص، حيث تحاورت مع العشرات منهم، ومن شتى مشاربهم الفكرية السياسية، وعلى مدار ثلاث سنوات امضيتها معهم في اعتقالي الاداري الاخير، وتعمدت خلال هذا الحوار الانصات اكثر لرنين جرس المشاعر والاحاسيس الانسانية لديهم في معرض تعليقاتهم على سؤال لماذا كان الفصل حادا بين "الحرية من" و "الحرية الى" في الثقافة السياسية للتنظيم السياسي التحرري الفلسطيني؟ وكنت كلما فرغت من الحديث مع احدهم او مجموعة منهم اثناء التمشي في باحة نزهة السجن اسارع بالعودة لخيمتي و"برشي" لاسجل خلاصة هذا الحديث في دفتر يومياتي عن السجن. ولا زلت اذكر الحاح العديد منهم على ضرورة صياغة خلاصة هذه الحوارات في نص نظري حتى يكون وبلسان الانضج منهم " بمثابة دروس يستلهمها من ياتي بعدنا من اجيال لنضال الحرية الفلسطينية" و"كنقد جريء لبؤس الثقافة السياسية التحررية الفلسطينية وما انتجته من سلوك سياسي وتنظيمي استخدامي بائس، وما ولده ذلك من حالات اغتراب “alienation” لجهود مئات الآلاف من مناضلي الحرية الفلسطينيين، حين تم الفصل بين هذه الجهود في نضالها لنيل "الحرية من" سيطرة خارجية وبين حلم باذلي هذه الجهود لنيل "الحرية الى" بناء مجتمع فلسطيني بسلطة سياسية ديموقراطية ترتكز لمبداي العدالة والمساواة كمرجعية وهدف، وذلك عبر عدم الفصل، بل بالربط بين (السياسي) و (الاجتماعي الاقتصادي) من الديموقراطية، الامر الذي رأى عكسه من حاورت في واقع بناء السلطة الوطنية الفلسطينية، لا بل مناقضا لاحلامهم ومشاعرهم واحاسيسهم التحررية الانسانية البريئة. من باب الوفاء لهؤلاء المناضلين اولا، ولقناعتي باهمية وفائدة ما رجوني بصياغته ثانيا، وبعد تداول الموضوع مع العديد من نابهي كادرات الحركة الوطنية ثالثا، وجدت نفسي ملزما بصياغة هذا النص، والذي يشفع لقسوة ما فيه من نقد شدة ما اكتنف الثقافة السياسية الفلسطينية من بؤس من جهة، وضخامة ما بُذل في تجربة التحرر الفلسطيني من جهد تضحوي من جهة ثانية، هذا الجهد التضحوي الذي كان وما يزال يستحق ان يتكلل بانجاب سلوك سياسي قيادي اكثر بعدا عن عقلية الاستخدام البائس لجماعي الجهد النضالي، وبتجسيد بناء اجتماعي اقتصادي اكثر ديموقراطية واكثر قربا من استلهام مبدأي المساواة والعدالة بين البشر.
اضاءة نظرية:
جدل النظرية والممارسة قانون عام. وتعتبر علاقة الثقافة السياسية بالسلوك السياسي، واحدا من تجلياته. فإذ تُغَذِّيه كمرجعية بقيمها ، فانه يُجَسِّدُها كهدف له. ويُغْنيها بممارسته. ويتفاعل معها تأثيراً وتأثراً عبر التنظيم السياسي. ويلد التنظيم السياسي، تلبية لمصالح مجموعات اجتماعية بعينها، وتُحَدِّدُ بدورها مضمون برنامجه الإجتماعي الاقتصادي. ويَتعَيَّن هذا البرنامج بقيم التحرر، التي تحيل لثقافة الحرية في حالة حركات التحرر الوطني. وغير ذلك، لا يعدو كونه استعمالا سياسيا زائفا لثقافة الحرية. وينتج تنظيما سياسيا بائسا لهذه الثقافة. ويَحْضُنُ نقيض قيم الحرية بحوامل ادعائها. ويفضي بالنتيجة لاغتراب (alienation) جهود مناضلي الحرية بفصلها عن قيمها وهدفها.
يرى الفكر التحرري في ألتمَلٌك الخاص لجماعي مُنْتَجِ الجهد، سببا لاغتراب هذا الجهد، أي "تسليعه" وفصله عن هدفه، وتحويله من جهد انساني لصالح وسعادة باذله، إلى سلعة مملوكة خارجه، وتتجسد قوةٍ قاهرةٍ له، وتقف قبالته غريبةً عنه، بل ضده يخشاها وتسيطرعليه.
باعتمادِ آنف الذكر منهجٍا لفهم وتحليل اغتراب الإنسان عموما، يمكن القول أن نزوع التَمَلٌك الخاص لتضحيات مناضلي الحرية، بصفتها حصيلة لجهود انسانية جماعية واسعة، سيقود لفصل هذه التضحيات عن هدف من بذلها من مناضلين، اي تحويلها من نبض إنساني وجهود بشرية حية، سُكِبَت طوعا لتجسيد ونيل الحرية، الى سلعة مملوكة تستخدم ببؤس وتتحول الى صنم غريب وقوة مسيطرة على من بذلها من مناضلين، وتتجسد ضدهم في صورةِ سيطرة سياسية سُلطويةٍ قاهرةٍ يملكها من ادار هذه الجهود باستعمالية بائسة. وفي هذا اغتراب لجهود مناضلي الحرية ونتيجة منطقية للتسليع السياسي في حركات التحرر. ويحيل التسليع كسلوك سياسي في حركات التحرر الى ثقافةٍ سياسيةٍ قاصرةٍ ومشوشةٍ عن الحرية وارتباطاتها، ويعكس الخلط بين الحرية freedom وبين التحررemancipation، الخلط الذي يُغَيِّب الفارق بين مقولتي "الحرية من" freedom from و"الحرية الى" freedom to ، الامر الذي لا يعود بالمقدور معه وعي حقيقة ان "الحرية من" تُحيل للتَخَلُّّص من سيطرة تَمَلُّكِيَّةٍ خارجية فقط، في حينُ تحيل "الحرية الى" للتَخَلُّص من نوازع هذا الطراز من السيطرة على المستوى الداخلي ايضا. وعليه فان هذه الثقافة القاصرة تجهل او تتجاهل ان الإتصال بين "مِنْ" و "إلى" الحرية هو شرط لازم لبلوغ التحرر، وان هذا الإتصال هو الشرط الكافي كي يكون الإنسان متحًررا to be emancipated، اي حرا to be freed من خارجه وداخله، وليس مجرد "حرٍ مِنْ" خارجه. تلك الحالة التي لا ترقى لكينونةِ المُتَحَّرِّر التي بالرغم من انها تشتمل وتَشترط "الحرية من" الا انها تفوقها ولا تكتمل الا بمنجز "الحرية الى". وعليه فإن نَيْلَ جماعةٍ "لحريتها من" سيطرة خارجية ، لا يعني إحرازها تلقائيا لتحررها ، الا اذا انتج نضالها ضد هذه السيطرة الخارجية نفياً لثقافة السيطرة وقيمها كمبدأ في داخلها، اي انجزت "الحرية الى" ايضا.
ان جريرة ثقافة الخلط والمساواة بين مقولات " الحرية من" و "الحرية الى"، وافتراض ان يقود نيل الاولى احرازا تلقائيا للثانية، لا تتوقف على قصور الوعي النظري المجرد لهذه المقولات، بل تتخطى ذلك لقصور على مستوى الممارسة. هذا القصور الذي يغدو مؤكدا معه وقوع التقهقر والنكوص لمنجز "الحرية من"، لا بل وتحوله لواقعةِ إعاقةٍ للتحرر. وتجربة اليهود مع إضطهاد "اغْيارِهِمْ" لهم تصلح مثالا، فقد تخلصوا من هذا الإضطهاد، وحققوا حريتهم منه، غير ان هذا لم يَحُلْ دون ممارسةِ جزءٌ منهم لإضطهاده الخاص به ل"اغياره". وربما بصورة اعنف من ما وقع ل"اليهودية" من إضطهاد.
ويتساوى في مسألة تَحَوُّل المُضْطَّهَد الى مُضْطَّهِد بفقدان التلازم بين "الحرية من" و"الحرية الى"، حال ما يقع من إضطهاد بين الهويات المتباينة، بما يقع منه داخل مكونات الهوية الواحدة، وبما يقع بين الافراد ايضا. فالإضطهاد علاقة إستغلالية بصرف النظر عن هوية طرفيها. وبمعزل عن تبريرات ممارستها وسبل تسويقها في الوعي البشري. ولعل هذا يشير "لواحدية" السبب المفضي لكل حالات الاضطهاد البشري، والمتمثل في نزوع التملك الخاص لجماعي الجهد البشري. لقد توالت عملية الاضطهاد البشري كوقائع تاريخية. وتبادلت فيها الهويات المختلفة للبشر دوريْ ممارستها وتَحَمُّلِ نتائجها. وقد إعتاد وألِفَ "النوع الانساني" على ما يبدو واقعة قيام جزءه الاقوى بممارسة رذيلة الاضطهاد ضد جزءه الاضعف. بينما شكل مجموع نضال هذا الاضعف السياق التاريخي لصيرورة هدف نيل الانسان لتحرره من إضطهاده لنوعه وذاته. هذا الهدف الذي استند الى حقيقة ان اختلاف هويات النوع الانساني، لا ينزع عن هذه الهويات خاصيتها الانسانية الفارقة كنوع، الا اذا كانت اجزاء الحجر المُفَتَّت تفقد خاصيتها كحجر. كما استند الى حقيقة ان بداية الاضطهاد كما صيرورة التحرر منه لم تنطلق من صراع هويات الانسان المختلفة، بل انطلقت من نقطة صراعه الاول للتَخَلُّص كنوع من سيطرةِ "غَيْرِهِ" عليه (الطبيعة). غير ان نزوع التملك الخاص لِجَماعي جهد وانجاز النوع الانساني بعد تشظيه الى هويات اجتماعية مختلفة، افضى لإغتراب الانسان عن خاصيته الفارقة كنوع مجابه لغيره من انواع الطبيعة. وقد شاغل هذا الاغتراب الانسان عن وعي حقيقة استمرار حاجته كنوع للمزيد من التخلص من سيطرة الطبيعة عليه كتحد اول ودائم ومفتوح له.
كل ما سلف يشير الى ان وعي وتجسيد "التحرر" يشترط التلازم بين نضال "الحريه من" و"الحريه الى". وان مفتاح القبض على هذا التلازم نظرياً وممارسةً يتعلق بتوفر شرط الاقتناع والسعي لتحقيق الديمقراطية الاقتصادية- الاجتماعية في برنامج حركات التحرر، وان اختزال هذا البرنامج في البعد السياسي للديموقراطية، هو السبب خلف وَهْمِ الاعتقاد باحراز التحرر كنتيجة تلقائية لنيل "الحرية من"، والتي بوقائع التجربة التاريخية لم يكُ نيلها شرطا كافيا لميلاد "الحريه الى"، التي ثبت ان ولوجها كواقع مضمون لا يكون الا عبر بوابة الاقرار بِ وممارسة مبدأيْ المساواة والعدالة كمَفْرَخَةٍ للاقتصادي- الاجتماعي من الديمقراطية. ولعل هذا ما وَلَّدَ تاريخيا ضرورة الدعوة للبرنامج الديموقراطي الإقتصادي الإجتماعي داخل التنظيم السياسي التحرري. وانتج حقيقة ان خلاف ذلك يقود لا محالة الى تقهقر منجز "الحريه من"، لا بل وتَحَوُّلَهُ لواقعة تاريخية لإعاقة التحرر، وذلك عبر إنثنائه على الذات او"الغَيْر"، وتسويغ ممارسة كل اشكال الإضطهاد الطبقي والقومي والجنسي والإثني والطائفي..الخ على يد مَنْ عانى بالامس القريب هذا الاضطهاد ونادى بازالته كواقع حسي، وإستقطب الحس الانساني لجانبه بيافطة إقتلاع الاضطهاد كمبدأ. ولكنه انقلب على براءة هذا الحس الانساني ونزعاته التحررية، ووظفها باستخداميةٍ واستعملها بسبب نزعته الضيقة للتملك الخاص التي بنى بها سلاسل اضطهادية غدت قوة غريبة تفصله عن حسه الانساني بكونه مستخدما لهذا الحس، وتفصل الجهود الانسانية التي وظفها باستعمالية عن هدفها التحرري، فلم يعد يدري انه بممارسته لهذه السلطة القاهرة ضد من وظفهم بيافطة الحس الانساني للتحرر، انما يمارس قهرا ضد خاصيته هو نفسه كانسان، كما لم يعد يدري من تم استخدامهم من بشر انهم بخشيتهم لهذه السلطة القاهرة، انما هم يخشون ناتج جهدهم الذي انفصل عنهم وتجسد في صورة سلطة سياسية قاهرة، لقد تحولت هذه السلطة الى صنم يعبدونه هم بخشية قهره لهم، ويعبده من استخدمهم بممارسة هذا القهر عليهم، وبهذا يتساوى هو وهم في كون كل منهما قد اغترب عن خاصيته الانسانية، اي انفصل عنها، ولا يزول اغتراب كل منهما الا بوعي من يقع عليهم الاضطهاد لضرورة حريتهم والشروع بالنضال لنيلها مِن مُضْطَهِدَهُم، فيما لا يزول اغترابه هو الا حين ينهزم ويكف بالتالي عن اضطهاده لهم. ولعل من المفيد في هذا الاطار تامل نتائج بعض الشواهد التحررية التاريخية، لرؤية العواقب الكارثية لعملية فصل السياسي عن الاقتصادي الاجتماعي من الديمقراطية، كنتيجة لثقافة الفصل بين "من" و "الى" من الحرية. وللتدليل لا الحصر:
ألمْ تستبقِ الثورة الفرنسية التي احرزت اجمل "الحرية من" الإقطاع بفقدان هذا التلازم امكانية استعباد الاخر قائمة؟ بلى والاستعمار الفرنسي للغير لاحقا شاهد على ذلك. وثورة غاريبالدي لتوحيد ايطاليا المْ ترثها فاشية موسليني لاحقا لإنعدام هذا التلازم ؟ ونازية هتلر المْ تَكُ نتيجة واقعية لفقدان هذا التلازم في ثورة بيسمارك؟ وانهيار تجربة الثورة الاشتراكية المحققة ألمْ يكُ تَشويهُ هذا التلازم في تطبيقاتها من المسببات الداخلية الاساسية لإنهيارها؟ وحركات التحرر الوطني أَلَمْ يحصد الكثير من شعوبها قهرا بفقدان هذا التلازم على يد من قادها للإستقلال ؟ بلى ولعل الجزائر وتجربتي حزب البعث في العراق وسوريا مجرد نماذج بارزة على ذلك ليس إلا. وكخلاصة فان الثقافة السياسية لحركات التحرر لا يمكن ان تنتج سلوكا سياسيا متحررا عصيُّ على التقهقر من الداخل، الا بالقبض وعياً وممارسة على تلازم مقولتي "الحرية من" و "الحرية الى". وان عدم القبض على هذا التلازم وبالتالي انفصالهما وعيا وممارسة، يحيل بالضرورة لحالةٍ من التسييس والتنظيم الإستعمالي البائس لثقافة التحرر وقيمها، الامر الذي يقود بدوره للفصل بين السياسي والإقتصادي- الإجتماعي في مضمون التحرر. وتكون النتيجة استبقاء وتسييد عقلية التملك to have كَوَلَّادَةٍ لكل صنوف الإستغلال. فيما اتصالهما يحيل لحالة تثقيف تحررية مُتًسِقَةٍ تربط السياسي بالإقتصادي- الإجتماعي لهذا المضمون. وتعي ضرورة نفي عقلية التملك الداخلية. وتُشيد وتُسَيِّد عقلية الكينونه to be المستقلة المؤمنة الملتزمة بتساوي "الآخر" معها. والمانعة بالتالي لاجازة إقصائه وإنتهاك حقه وكينونته المستقلة بصرف النظر أكان انتماء هذا "الآخر" لذات الهوية ام لهويات اخرى. وهذا يحيل للمساواة والعدالة لا كمرجعيةٍ ثقافيه اشمل للتحرر وحسب، بل وكمعيارٍ اوفى لقياس السلوك السياسي التحرري وانتاجه.
لقد قبض ماركس بالوعي على هذا الفهم الاشمل لمقولة التحرر. حيث رأى ان نضال البرجوازية ضد الإقطاعيين ونيلها ل"حريتها من" إضطهاد نظامهم، لم يخلِّصها من خطيئة بناء نظامٍ لم يَحْظَ العامل فيه على اكثر من "حرية إختيار من يستغله من الرأسماليين". لقد بنت البرجوازية نظاما إستبقى ومارس واقعة الإضطهاد الطبقي. كما ان نيل البرجوازية الاوروبية لحق الإستقلال في دولة الامة لم يمنعها من إنكار هذا الحق على غيرها من الشعوب، حيث مارست الإستعمار ضد هذه الشعوب، ووقعت بالتالي في خطيئة "إن شعبا يضطهد شعبا آخر، لا يمكن ان يكون هو نفسه حرا". من هذه الوقائع التاريخية وشبيهها يمكن تاكيد استخلاص ان نزوع التملُّك الخاص لجماعي جهود التضحيات التحررية، هو السبب في تَحَوُّل العملية النضالية التحررية لنيل "الحريه من" سيطرةٍ خارجيةٍ الى واقعة تقهقرٍ عن نيل "الحرية الى". وبالتالي لحالة إعاقةٍ للتحرر بتغييب اليموقراطية الاجتماعية الاقتصادية.
لقد اتكأت كل سلطة قاهرة انثنت على ضرورة المساواة والعدالة الاجتماعية كضامن للوصل بين "من" "والى" الحرية، عبر ممارسة الاضطهاد الطبقي داخل هويتها على جدار فكري زائف بررت به قهرها لغيرها، وانصب جوهر هذا الفكر التبريري على ادعاء عدالة وتساوي التعاقد بين المالك القاهر والمنتج المقهور ، بدعوى مساهمة هذا القاهر بادارة تنظيم العملية الانتاجية بجهده الذهني، فيما يساهم المقهور بجهده الفيزيائي. اما من انثنى على "الغير" من الهويات بالاستعمار كسلطة قاهرة، فقد اتكأَ على جدار فكري اكثر زيفا وانصب جوهرا على ادعاء عدالة وتساوي علاقة "تعاقد" المستعمِر القاهر بالمستعمَر المقهور، بدعوى مساهمة المستعمِر بمهمة "حضارية" ورسالة "تمدينية" "لاغياره" "المتوحشين". بهذين الادعائين "للتحرري" المنثني والمُضطَهِد داخل هويته او "لغيره" من الهويات، تم تشييد صرح زائف لمبدأيْ العدالة والمساواة ، بديلا للصرح الحقيقي لهما، والذي كان ممكنا وواقعيا بناءه لو انه تم الوصل وعدم الفصل بين "من" و "الى" الحرية، وبالتالي عدم الفصل بين السياسي و(الاجتماعي الاقتصادي) من الديموقراطية في مجتمع التنظيم السياسي التحرري المنتصر. بميلاد هذا الصرح الزائف للعدالة والمساواة كانت البشرية على موعد مع ولادة انتهاك السياسة "التحررية" لقيم ثقافة التحرر، وتحولها من دور الوسيط لاكتساب وتجسيد هذه القيم، الى دور المرجعية لافتقادها ونفيها. وتحولت ثقاقة التحرر من دور المرجعية والهدف للسياسة التحررية الى دور الادلجة لنفي نفسها كقيم تحررية، والى غطاء زائف لمن يمارس هذا النفي، وساترا لنزعاته التملكية الخاصة السلطوية. ضد هذا الفكر الزائف عن التحرر والعدالة والمساواة انبرى الفكر التحرري وهتك ستر زيف الطابع الاستغلالي لعلاقة التنظيم الاقتصادي الاجتماعي القائم على اساسها. فلقد كشف ماركس في حقل الاقتصاد السياسي بما لا يدع مجالا للشك، ان قيمة اي بضاعة انما تساوي "كمية العمل المبذول فيها اجتماعيا". واظهر بالتالي عدم عدالة علاقة التعاقد بين المالك الخاص للبضاعة من جهة والعامل المنتج لها من جهة ثانية. ومَزَّقَ بذلك غلاف الاجرة كساتر لسرقة هذا المالك لجهد العامل المنتج والسيطرة عليه. الامر الذي قاد لولادة الوعي المنظّم للعامل الثائر بمشروعية ومرجعية نظرية علمية. فانبعثت بهذا صيرورة اعمق لسياسة وتنظيم قيم ثقافة التحرر،وولد معيارا اكفأ لاكتسابها وتجسيدها، فكان بديلا لعجز نظام التملٌك الخاص عن الربط بين الحر المستقل "من والى" سياسيا فقط، وبين الحر المستقل " من والى" سياسيا واقتصاديا –اجتماعيا ايضا.
ان الشمول المعرفي والعمق التحليلي الذي انطوت عليه مقولة تعادل قيمة "المنتوج" البشري بكمية الجهد المبذول فيه، سوغ واجاز استلهامها والاتكاء عليها كمنهج واداة للتحليل، لا في حقل الاقتصاد السياسي حيث صكها ماركس فقط، بل وفي حقلي السياسة والمجتمع ايضا. وعزز هذه المشروعية الترابط الموضوعي القائم بين هذه الحقول اولا، وكون منتوج الجهد البشري يبقى منتوجا بصرف النظر عن حقل انتاجه ثانيا، والطابع التحرري التغييري التحويلي الشامل الذي انطوت عليه هذه المقولة ثالثا. لقد ادت الخاصية المنهجية لهذه المقولة الى وضعها في حالة تضاد كامل مع منهج نقيضها المُشَرِّع للتملك الخاص لمنتوج الجهد الجماعي، وادعاء عدالة ذلك بالمساهمة في ادارته داخل الهوية الواحدة، او المساهمة في "التمدين" بالاستعمار المباشر او الهيمنة ب"التبعية" في الهويات الاخرى. على خلفية هذا التضاد المنهجي وُلِدَت مقولة الايدولوجيا وانشطر الفكر البشري على اساسها الى منظومتين كبيرتين من الانحياز، وكان من الطبيعي والمنطقي انحياز حركات التحرر ضد التملك الخاص، وذلك بالنظر للطابع الطوعي والتعاوني والجماعي لتضحياتها من جهة، وبالنظر للطابع الشعبي الغالب لانتماء مناضلي هذه الحركات من جهة ثانية.غير ان تحول منهج التملك الخاص لطريقةٍ سائدةٍ للتفكير افضى لاتخاذها منهجا حتى لبعض من حركات التحرر، وذلك حين كان يتم الفصل داخلها بين مهمتي "الحريه من" و"الحريه الى".
حالة التحرر الفلسطينية كنموذج
قصدنا من هذه الإضاءة النظرية متًكَئا ومعيارا لمقاربة هذا الجمال النظري للفكر التحرري مع مدى تجليه وإخفاقه في وقائع حالة التحرر الفلسطينية، وبدقة اكثر في مدى تجليه في صيرورة جدل الفكري والسياسي والتنظيمي فيها.
بعيدا عن جدل "مع" و "ضد" قبول اتفاق اوسلو، وبصرف النظر عن ايهما اصوب بمعيار المصلحة الوطنية؟ وبمعزل عن حجج كليهما لحظة ولادته. اجل بعيدا عن هذا الجدل، ذلك انه ليس قبوله بل السلوك السياسي بعد تجسيد هذا القبول لواقع سلطة انتقالية، هو ما يعنينا اكثر في القبض على مبتغى هذه القراءة. اذ بالرغم من صخب هذا الجدل السياسي، فقد ظل بدون اثارة سؤال لماذا كان يجب ان تتولى قيادة منظمة التحرير بنفسها مثلا، وليس ذراعها في الوطن، المنضبط لها على اية حال، ادارة هذه السلطة الانتقالية؟ هذا علما ان سيناريو من هذا القبيل، اي اعطاء ذراع منظمة التحرير في الوطن مهمة الاضطلاع بتسلم ادارة هذه السلطة الانتقالية، كان من شأنه ان يحفظ لمركز القرار الفلسطيني (قيادة منظمة التحرير) خط رجعة من احتمال فشل رهانها بأن يفضي انتقالي اوسلو الى الاستقلال الوطني الناجز، الذي ارجيء بفعل التعنت الاسرائيلي المنطوي (ولو نظريا على الاقل في حينه) على احتمال ان يكون الاسرائيلي قد اضمر من وراء هذا التعنت هَدَفا لتابيد الانتقالي وتحويله لنهائي. كذلك فقد ظلت بدون اثارة وتفسيرات جادة اسئلة: لماذا بهذه الكيفية الإقتصادية الإجتماعية تم بناء هذه السلطة الانتقالية؟ ولماذا تم اختزال تفسير ما ارتكب من خطايا في اطارها بحداثة التجربة كعامل ذاتي، وتاثير الاحتلال كعامل موضوعي فقط؟ وكيف جاء سلوك من كان "ضد" على هذا الصعيد؟ لقد اظهر استعجال وإنشداد قيادة منظمة التحرير لتَسَلُّم ادارة السلطة الانتقالية بنفسها مباشرة، والتصرف مع هذا الانتقالي من السلطة كما لو كان دولة فعلية، مدى ما تمور به الثقافه السياسيه للتنظيم التحرري الفلسطيني من نزوع للتملك الخاص لجماعي الجهد النضالي، كما ابرز للسطح بصورة لافتة ما اعترى هذه الثقافة من بؤسٍ وعقليةٍ استخداميةٍ لمقولة السلطة التي تم الخلط بينها وبين مقولة الثروة، هذا حتى لا نقول مساواتها بها. لقد قاد هذا الإستعجال الى تقديم مهام بناء الدولة المؤخرة شرطا مرتين، مرة حين تصرف من هو "مع" كما لو كان في "دولة الواقع"، وليس في "دولة الوعي"، ومرة حين جابه بعض من هو "ضد" عبر المنظمات غير الحكومية التي تعاملت بدورها هي الاخرى مع هذا "الانتقالي" ك"دولة في الواقع" . وبهذا ولدت خطيئة تقديم المؤخر شرطا وتأخير المقدم واجبا، اي التركيز على مهام بناء الدولة المرجأة في الواقع الموضوعي والمقدمة في الوعي الذاتي، بينما تم تهميش استكمال مهام االتحرر الوطني المقدمة في الواقع الموضوعي والمرجأة في الوعي الذاتي.
لقد مَثَّل هذا "التقديم" و"التاخير" قفزة ذاتية عن حقائق الواقع، ووشى بانقلاب الوعي للشرط الموضوعي في تحديد الحلقة المركزية على المستوى السياسي، اي قلب ضرورة ترجيح صب اساسي الامكانيات والجهد (لل"مع" وبعض ال"ضد") في استكمال مهمات التحرر الوطني، باعتبار ان طابع المرحلة لم يبرح كونه تحررا وطنيا برغم نشوء السلطة الوطنية الانتقالية، لا بل ولا ضمان مؤكد انها ستفضي للاستقلال الوطني الناجز وفقا للاتفاق الذي انجب الانتقالي لهذا الاستقلال من منظور الطرف الفلسطيني له. وهنا ينتصب سؤال هام: هل كان هذا الانقلاب في وعي الشرط الموضوعي على صعيد تحديد الحلقة المركزية لصب الجهد والامكانيات، مجرد انقلاب للوعي بالمعنى السياسي؟ ام انه وشى بانقلاب اعمق واشمل للوعي التحرري الفلسطيني؟ وان كان الامر كذلك هل يمكن العثور والقبض على مسبباته في الثقافة السياسية الفلسطينية وما انتجته من سلوك سياسي؟
اجل، لقد اظهرت عملية تهميش حتى لا نقول تغييب الطابع الديمقراطي للبناء إجتماعيا وإقتصاديا في تجربة السلطة الانتقالية، لصالح تعظيم بناء ادوات وميكانيزمات التحكم والسيطرة السياسية، مدى ما تختزنه الثقافة السياسية الفلسطينية من قلة اصالة لوعي وممارسة ضرورة "الحرية الى"، وبالتالي مدى ما بها من فصل بين (السياسي) من الديمقراطية و (الاجتماعي- الاقتصادي) منها، ومدى ما بهذه الثقافة من انفصال عن الانحياز للشعبي المُنتج من المبنى الاجتماعي، بالرغم من ان هذا الشعبي هو الاكثر انتاجا لا بالمعنى الاقتصادي وحسب، بل وبالمعنى النضالي السياسي ايضا، فهو وليس غيره من تحمل الجزء الاعظم من اعباء الاحتلال ومجابهته، وهو من سيتحمل ذات الجزء من اعباء استكمال مهام التحرر الوطني. ولذات القصور في الثقافة السياسية الفلسطينية اشارت ادعاءات وسياسات ما يسمى بالمنظمات "غير الحكومية" ذات الطابع الفوقي، والتي جاء معظمها في اطار الدعوة الصريحة للعزوف عن السياسة، والنظر لمبدأ التنظيم السياسي كحاجة زائدة يفضل ركنه في متحف العاديات، وتصرفت في نقد السياسات الاجتماعية الاقتصادية للسلطة الانتقالية كما لو كانت " دولة الواقع"، وليس "دولة في الوعي"، هذا عوضا عن ارتهان برامجها ومحدداتها لاجندة مالية خارجية، وليس للاحتياجات الواقعية الوطنية والشعبية منها بالذات، ولذات الدلالة اشار اساسي اتكاء وتعكز بعض آخر مِمَّن هو "ضد" على هذه المؤسسات في مواجهة برنامج السلطة الاجتماعي الاقتصادي، وليس على تكتيل الشعبي المهمشة مصالحه في برامج السلطة الانتقالية وسياستها الاجتماعية الاقتصادية. وقد قاد هذا لتغييب مصالح الشعبي في البرنامج الاقتصادي الاجتماعي الفلسطيني ثلاث مرات، مرة في سياسات برنامج السلطة الاقتصادي الاجتماعي، ومرة ثانية في طريقة وبرامج المؤسسات "غير الحكومية"، ومرة ثالثة في تعكز بعض من هو "ضد" على هذه المؤسسات.
لقد كشفت دلالات الانقلاب في وعي الشرط الموضوعي بالمعنى السياسي، عن إنقلاب اعمق واكثر تأصلاً في وعي وممارسة التنظيم السياسي التحرري الفلسطيني، لقد كشفت عن انقلاب وخلط وتشوش في القبض على ضرورة التلازم بين (السياسي) و (الاجتماعي- الاقتصادي) للديمقراطية في ثقافة هذا التنظيم ما قبل نشوء السلطة الانتقالية، حيث ساد كاتجاه عام تهميش البناء الاجتماعي الاقتصادي للتحرري (الحرية الى) بفعل طغيان النضال السياسي الاستخدامي منه (الحرية من). وعليه فلا غرابة ان ياتي القلب للميزان ميكانيكيا وشكلانيا في مرحلة بناء السلطة، لا بل كان طبيعيا ومنطقيا ان يكون "العَوَر" وليس "الكُحْلة" هو حصاد مرحلة هذه السلطة، والتي انطبق عليها خير انطباق ماثور القول "جاء ليكحلها فاعورها".اجل، لقد بانَ "العور" في المسخ المتدني من ديموقراطية البناء الاجتماعي الاقتصادي (الحرية الى) للسلطة، وفي التجلي البارز على مستوى الشعب للطابع الاستخدامي للسياسي التحرري ( الحرية من)، وهو ما كان مستورا في مستوى العضوية التنظيمية في مرحلة ما قبل السلطة. بهذه المقدمات المرة على مستوى العضوية التنظيمية (قبل السلطة) والنتيجة الاكثر مرارة على مستوى الشعب ( بعد نشوء السلطة) ، تبين ان الإنقلاب في وعي وممارسة التحرري الفلسطيني لعلاقة "الحرية من" ب"الحرية الى" في تجربة السلطه الوطنيه، لم يكُ سوى تجلٍ نوعي لمسار متراكم لهذا الانقلاب في وعي وممارسة تجربة التنظيم السياسي الفلسطيني ما قبل نشوء هذه السلطة. اي ان هذه القفزة لهذا الانقلاب في تجربة السلطة الوطنية لم تكُ نبتا شيطانيا ولا رغما عن التاريخ الممارس قبلها، بل بفضله وإبرازاً وتتويجا وتكثيفا لنتائج خطاياه. فجاءت هذه القفزة خلافا لخطيئة آدم وحواء التي كانت مبتدأ لخبر خطايا نسلهما، خَبَراً لِمُبْتَدَأ تاريخ من خطايا ثقافة الإستخدام والتسييس والتنظيم البائس لثقافة التحرر.وبخلاف(إبليس) سبب خطيئة ادم وحواء الذي خُلِقَ دفعة واحدة، فان سبب فصل وعدم إتصال "من" و "الى" الحرية في الثقافة السياسية للسلطة الفلسطينية توالد بالتراكم، وكان نزوع التملك الخاص لجماعي جهود النضال وتضحياته نقطة البدء لهذا السبب. فجاءت مظاهر تجليه متصلة السبب والمقدمات والنتائج. فما هو مُشَخّصْ ظواهر هذا السبب قبل نشوء السلطة الوطنية؟
ظاهرة ولوج الحداثة "بختم" المخترة:
إستخدم المُستعَْمِر تقليدية مجتمع المُسْتَعْمَرْ، اي ما به من تذرير جهوي وعشائري وطائفي واثني، وسعى ببشاعة لتكريسها بما يُيَسِّر عليه صياغة هذا المجتمع بكذبة "التمدين"على شاكلته، اي بما يكرس هيمنته عليه سياسيا وثقافيا ونهب خيراته اقتصاديا.
لقد فرضت هذه الحقيقة ضرورة تجاوز هذه التقليدية في ثقافة السياسة التحررية، لا لكونها كعبا اخيليا تنفذ منه ثقافة المُسْتَعْمِر واداة لهيمنته فقط، بل لكون هذه الثقافة التحرريه زمناً إقتصادياً إجتماعياً سياسياً حداثياً غير زمن تلك التقليدية ايضا. انها زمن تالٍ ونافٍ لهذه التقليدية، فالتحرر زمن تغييري تتشوه خاصيته التحويلية لا محالة إن هو إتكأَ على هذه التقليدية كثقافة سياسية، ويغدو مولودا حداثيا قاصرا ومبتورا إن هو إبتلعها ممارسة وغَرَّدَ ضدها خطابا. انه المولود الذي يُشَخٍصَهُ بإبداع المرحوم شرابي بتوصيف البطرياركيه الجديده (newpatriarchism) في التنظيم السياسي للمجتمعات العربيه. وحتى لا يصبح هذا الاتكاء ولا ذاك الابتلاع يغدو مفروضا بالضرورة التناقض والسجال الثقافي السياسي بين زمني التقليدية والتحرري الحداثي. فهذان زمنان لا يكون التداخل بينهما الا في الإنتقالي من زمن الثقافة السياسية، انه زمن سجالهما واحدهما على حساب الآخر في السيادة كسمة غالبة في السياسة والاقتصاد والمجتمع. وفي هذا تكمن ضرورة تشابك وترابط وتلازم مهمتيْ الحرية والحداثه في الثقافة السياسية التحررية، في مرحلتي المسير ( النضال) لنيل "الحرية من"، والرسو (البناء) لنيل "الحرية الى". وهذا ما يشترط الدعوة لضرورة إفراغ معدة التنظيم السياسي التحرري الحداثي من ما تحوصلت عليه من موروث تقليدية المجتمع المراد تحرره كمعيارِ لوعيه وجديته وإخلاصه لحداثة رسالته التحرريه، وكشرطِ لتجسيدها في تنظيم ومجتمع وسلطة لا فصل فيها بين الحر والحداثي. وغير ذلك عن الحداثة التحررية وقيمها الثقافية هراء. بل ومُنْتِجٌ مُعَزِّزٌ للتقليدية بحوامل "حرية من" حداثية في الشكل وتقليدية في المضمون. وذلك على طريقة الدولة العربية بصنوفها التي (بمنطوق فيصل دراج): "لا تثقل كاهلها بالازمنة المتتابعة الا لانها تهرب من زمنها الجوهري، الذي همشه التاريخ على أية حال. ولهذا فإنها لا تلج الزمن الحديث إلا إذا دخلته من باب قديم. ولا تلج الزمن القديم الا فوق طائرة مستوردة".
ويبدو ان الثقافة السياسية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني لم تنجُ من الثقافة السياسية لغلافها السلطوي العربي، كما لم تَقطع مع الثقافة السياسية لمكنون مجتمعها التقليدي، لا بل ونهلت من كليهما، ومزجت ثقافتها السياسية التحرريه بثقافة "ختم المخترة". فَ"تَرَيًفَتْ" حداثة هذه الثقافة التحررية. و"تَبَطْرَكَ "patriarchate" تنظيمها السياسي التحرري. و"تَمَخْتَرَتْ" قيادته. وسَرَتْ عصبوية القبيله عميقا في شرايين عضويته. وعلا بذلك جدار اخر من جدران السلوك السياسي الإستخدامي، وبالتالي التسييس والتنظيم البائس الزائف لقيم ثقاقة التحرر الفلسطينية. جدارتناثرت لبناته وتوالدت بشكل صيرورات بائسة متتابعة. فمن إستخدام للعشائرية والجهوية لتعزيز النفوذ والكسب الانتخابي، الى الإرتشاء والتغذي منها الى رشوتها وتغذيتها وشراء الذمم وإختيار" الكفاءة" المحظية ومنافسة الخصم السياسي والتكتل والتشلل التنظيمي على اساسها. كل هذا احال لثقافة التحزيب السياسي العشائري، وصياغة عضو التنظيم السياسي بعقلية ان تنظيمه هو الافضل دوما وبصورة مجرده. وبالتالي ضرورة الدفاع عنه مخطئا او مصيبا، على ذات القاعدة القبلية "أُنْصُر اخاك ظالما او مظلوما"، بعيدا عن المساءلة التنظيمية والشعبية بمعيار حداثي، والتي كان من شان ممارستها تصحيح المسار وفقا لتحولات حركة الواقع الحسية، وانفقدت بذلك وغابت حكمة وفضيلة قياس وتصويب النظريه التحرريه بتاريخها الممارس والصانع لها، وضبط هذا التاريخ بقيم هذه النظريه كمرجعية وهدف له.
اذ ليس نادرا في تاريخ حركة التحرر الفلسطينية ان حل الإحتراب القبلي واحيانا بالسلاح بين المُخْتَلِف من التنظيم السياسي، كسلوك بديل للتنافس الديموقراطي البرامجي بين هذا المُخْتَلِفْ. وكثيرا ما تسترت العضويه على اخطاء تنظيمها خشية إنكشاف امرها للتنظيمات الاخرى. وغالبا ما تم مراعاة الجهوي من الانتماء في تشكيل وصياغة الهياكل القيادية والقوائم الانتخابية. وليس قليلا ما تم استنفار الجهوي والعشائري للاستقواء به في تنافسات التنظيم الواحد او بين التنظيمات المختلفة. وغير مجهولة بل معروفة وبارزة حوادث تحويل الفتن العشائرية الى فتن تنظيمية وبالعكس.
لقد حصد الجهد النضالي التحرري الفلسطيني عبر هذه الممارسات الحداثية في شكلها والتقليدية في مضمونها اغترابا عن هدفه الحداثي، وانفصل هذا الجهد النضالي التحرري بذلك عن باذله، وبات الذين حركهم نزوعهم الحداثي لبذل هذه الجهود التحررية مغتربين عن جهودهم التي تجسدت صنما تقليديا غريبا عنهم، يواجهونه ويسيطر عليهم مرتين، مرة في تقليدية المجتمع المراد تحريره وتغييره، في صورة تقليدية ختم مخترة مختار عشيرتهم القروي، واخرى في تقليدية التنظيم السياسي التحرري الحامل للواء هذا التغيير، في صورة ختم مخترة قائد تنظيمهم السياسي، فانفصلت بذلك عنوة السياسة التحرريه عن مكنون برنامجها الحداثي التغييري.
ظاهرة المُجَيّش المُسْتخدَم المقموع بديلا للمُنَظَّم المشارِك المُسائِل:
لقد فرضت حقيقة اختلال ميزان القوى بين المستعمِر والمستعمَر لصالح الاول ضرورة تنظيم جهود طاقات وامكانيات الثاني للتعويض عن هذا الاختلال، ذلك ان عملية التنظيم تشكل آلية فعالة لمضاعفة الجهود البشرية ومردودها. وفي هذا الاطار تعتبر صيغة التنظيم السياسي التحرري هي الصيغة الاشمل والامضى في المواجهة بين المستعمِر والمستعمَر. غير ان مدى مضاء هذا التنظيم السياسي التحرري في مواجهته مع المستعمِر، اي في سعيه صوب " الحرية من"، كما مقدار مضمون ما يحرزه من ديموقراطية اقتصادية اجتماعية، اي في سعيه صوب "الحرية الى"، لا يتحدد بقيام هذا التنظيم من حيث المبدا، بل بمدى خواصه الديموقراطية الداخلية اساسا. وعليه فان اي قصور على صعيد ديموقرطية الثقافة السياسية لنظرية بناء التنظيم، سيفضي بالضرورة لعواقب وخيمة على ديموقراطية السلوك السياسي لهذا التنظيم التحرري، وبالنتيجة على كفاءة مساره "للحرية من"، كما على مكنون مآل حصاده الديموقراطي الاقتصادي الاجتماعي في بنائه "للحرية الى"
ولعل من شواهد هذا القصور في التجربة الفلسطينية، تمثل في ما تم من خلطٍ ومساواة احيانا في نظرية التنظيم التحرري بين التشغيل والتنظيم، النشاط الواعي و"الفزعه"، الوعي بالرساله والعفويه. وبالتالي بين المُجَيَّش والمُنَظَّم، المُستخدَم والمُشارِك، المُسيطَر عليه والمُسائِل، المناضل والاجير. فحلت بذلك ثقافة الملكية محل ثقافة التعاون في التنظيم التحرري. بهذه الثقافة إرتوى التنظيم التحرري الفلسطيني من بئر تنظيم الدولة العربية، الذي ساوى بين السلطة والثروة. مع هذا المنهل للثقافة السياسية البائسة للتحرر، لم يكُ غريبا ولا مستبعدا، بل منطقيا وواقعيا سلوك تخلد مؤسسي الفصائل على راس تنظيماتهم، بذات طريقة تخلد الملوك و"الملوك الرؤساء" العرب على راس السلطة في بلدانها. كما ليس من المفاجئة بشيء ان تتحول عضوية التنظيم التحرري، من حالة من يشارك في صياغة وتحديد السياسات، الى حالة الجيش الذي ينفذ الاوامر، ولا يسال عن مدى صوابيتها بالمعيار الوطني الا ربما في سريرته او مع من يثق بحفظهم للسر من علاقاته التنظيمية، انها نفس حالة تحول الشعوب العربية من حالة المرجع والمحدِّد للسلطة، الى حالة الرعية التي يحكمها السلطان خارج كل قانون كرعية، وبذات الشاكلة التي تحكم علاقة المختار باعضاء عشيرته. ولما كانت كل خطيئة بحاجة لستار، فقد إستترت هذه العلاقة السلطوية بين العضوية التنظيمية ومن يستخدمها بساتر تمجيد بطولة هذه العضوية والنواح على تضحياتها، عبر بيانات الاحتفاء بانجازاتها كمجَيَّش مُسْتَخْدَم، ومن خلال ملصقات تخليد استشهادها وسجنها ونفيها وفقرها وعوزها، الامر الذي احال لثقافة التسليع التي تمجد المنتوج وتغفل نبض حياة المُنْتِج، الذي لا يحضر والحالة هذه الا في سكون قبره وسجنه ومنفاه وعوزه، ليعود غائبا في صيغة عظمة مكانة وسيطرة قيادته "المالكة" لمنتوج جهده، هذه العظمة التي اغشى زيفها عينيْ طرفيْ العلاقة عن رؤية إرتباط عظمة الإنجاز بعظمة جهد المنتج له، وذلك تماما كحالة عدم رؤية إرتباط زهاء الثوب بجمالية نبض صانع قماشه ومهارة يد حائكه، حين لا تدري عروسا ارستقراطية تلبسه وتزهو بجماله، انها انما تلبس دفقا من عرق عامل قصه او تطريزه، كما لا يدري هذا العامل بدوره حين ينظر خلسة لجمال ثوبها وهو يخدمها كنادل في حفلة عرسها، انه انما ينظر الى جمال عرقه كمنتج لهذا الثوب.
بهذه الطريقة غَيَّبَ التعظيم الزائف لدور القياده في الإنجاز، وإعتباره بفضلها وملكا لها، العظمة الحقيقية لدور جهود المنتجين المباشرين لهذا الإنجاز بتضحياتهم، تلك الجهود الراقدة ببراءه نبضا حيا في جوف حالات يصعب حصرها من صور إنسياب جهد حياة هذا " المُجَيًش المُنتج"، سَكَبَها طواعية لوعيه بنجاعتها لازاحة كابوس خارجي إحتبس جمال ورود "الحرية من" في شرنقة سيطرته، وإعتقد هذا "المُجَيَّش" انه بقطاف جمال "الحرية من"، سيحصد رائحة جمال "الحريه الى"، ويمنع بها ولادة تَعَفُّنٍ يُفَرٍِّخُ كابوسا داخليا، يفتق بضيق انانيته بما لا يجب فتقه من حيوية الصلة بين "الحرية من" و"الحرية الى". وبالتالي بين السياسي والإجتماعي الإقتصادي من الديموقراطيه.
بهذا التجييش الاستخدامي التسليعي سطى وساد التَمَلٌك الخاص كعلاقة في الثقافة السياسية السلطوية الفلسطينية. وبهتَ ألتعاون كعلاقة في ثقافة التحرر.وتقزمت ثقافة المساءلة التنظيمية، وإستحالت لساتر في وجه مساءلة شعبية منظمة، حين تَحَوَّلَ المُجَيًشُ لحاجبٍ بين سماء القيادة وارض الشعب. وإنفصل الجهد التحرري المبذول بسخاء عن هدفه في إكتساب "الحرية من" وإفاضة وتجسيد "الحرية الى" في صورة بناء اجتماعي اقتصادي ديموقراطي. لقد انفصل هذا الجهد التحرري وإغترب متجسدا في صنمِ تعاظمِ سيطرةٍ سلطوية، تقف شاحبة حتى قبل منجز "الحرية من"، وتتسلط على اكوامِ جهدٍ جماعي تعاوني مبذول يزيد مُشَخَّصهُ عن مئةٍ الف من الشهداء، ونصف مليون من الاسرى، واضعاف اضعافهم من الجرحى والمشردين، لتنفصل بذلك السياسةُ التحرريةُ عن مضمون برنامجها الإجتماعي الإقتصادي الديموقراطي.
ظاهرة "الفعل لذياب إبن غانم المُضَحِي" و "الصيت لأبي زيد المدير":
حينما لم يعد بمقدور الإنسان إنتاج كل ما يحتاجه بمفرده تنطفيء اطلاقية حرية "الإعتماد على الذات" للافراد والجماعات. وتلد ضرورة "الإعتماد المتزايد على الآخر". هكذا كانت مسيرة تاريخ النوع الإنساني. بهذه الحقيقة التاريخية غدا التعاون كعلاقة بين البشر حاجة إنسانية مفروضة وليست طوعية،ما دامت رغبة الانتصار على المَضطَّهِد الاقوى والإستمرار في البقاء باقيه. وعليه فقد غدا المزيد من التقسيم الإجتماعي للعمل ضرورة لا مناص منها، واصبح مدى هذا التقسيم كَمًاً ونَوْعاً مؤشرا ومعيارا لتقدم الجماعات البشرية. الامر الذي احال لثقافة التنظيم الإنساني العقلاني المبني على التعاون، وتجاوزت هذه الثقافة الحقل الإقتصادي الذي انتجها، باعتباره الحيز الذي يوفر الحاجات الانسانية المادية الضرورية للبقاء، وإمْتَدًت لتشمل كافة مناحي الحياة الأُخرى السياسية والإجتماعية، اي الى حيث توفير الحاجات الانسانية المعنوية. هذا علما ان كلا الطرازين من الحاجات (المادي والمعنوي) في حالة ترابط وتنامٍ دائم ومستمر، بما يعني ان حاجة المزيد من الاعتماد المتبادل سواء بين اجزاء النوع الانساني المنقسم لهويات مختلفة، او بين مكونات هوية واحدة منه، هي حاجة دائمة وفي حالة تزايد مستمر. وعليه فان المزيد من التعاون بين هذه الاجزاء هو ايضا مطلب دائم ومتنامي ومفتوح. هكذا قرأَ الفكر التحرري مقولة تقسيم العمل، وبالتالي الاعتماد المتبادل وضرورة التعاون، اي بإعتباره حاجة إنسانية لتلبية الحاجات المتنامية وتفعيل ومضاعفة الجهد البشري المبذول لانتاجها. هذه الحاجات التي يجب (والحاله هذه) ان تكون لصالح المجموع الإنساني الذي انتجها وفي خدمتة. وعليه فان اي نزوع للتملك الخاص لهذه الحاجات المنتجة جماعيا بالتعاون، سيقود لإغتراب الجهد البشري الذي انتجها وفصله عن هدفه. والتنظيم السياسي التحرري المبني على التقسيم التعاوني للعمل الجماعي ألمُنَظَّمْ كسلاح ناجع للتغلب على نقيضه الإستغلالي الأقوى في إمكانياته، والذي بدون علاقة التعاون داخل التحرري تستحيل هزيمته، هو مثال بارز على كيفية تعاون وتعاضد الطاقات البشرية المختلفة لإحراز هدف جماعي مشترك. إنه هدف نفي الإستغلال وبناء الحرية والتحرر. وعليه فإن اي إستخدام بائس لثقافة تقسيم العمل الجماعي التعاوني في التنظيم السياسي التحرري، عبر تحويله من تقسيم تعاوني، إلى تقسيم إستغلالي ثابت بين "مُدير" و"مُنْتِج"، وفق قاعدة " الصيت للمدير" و" الفعل للمنتج" غير العادله، سيقود لذات النتيجة التي حَوًلَ فيها نظام التملك الخاص في الحقل الاقتصادي علاقة التعاون للعمل البشري الجماعي الى ثقسيم غير عادل بين الابيض والاسود من العمل، وتكثف في صيغة الياقتين الزرقاء والبيضاء.
وفي حالة حركة التحرر الفلسطيني، يبدو ان سيادة ظاهرتي " المُجَيَّش المُسْتَخْدَم" بدل "المُنَظًم المُشارك" وولوج "الحداثة بختم المخترة"، لم تحرم هذه الحركة فقط من بلوغ هذا الفهم الانساني الارقى للتعاون الجماعي في تقسيم العمل النضالي داخل التنظيم السياسي التحرري، بل جعلته حتى دون مستوى منظور ماكس فيبر للتنظيم العقلاني الرأسمالي، الذي دعا لتقسيم تراتبي مُقنون يتيح الحراك في تحديد الصلاحيات والمكانه بناء على الكفاءة والإنجاز المكتسب، خلافا للتقسيم الإقطاعي التقليدي الثابت التراتب وفقا لوراثة ثبات المكانه والصلاحيه.إذ كثيرا ما كانت صلة القرابه والقرب من المسؤول ومركز القرار هي مُحَدٍدْ المكانه والصلاحيات في التنظيم السياسي التحرري الفلسطيني. ولم تقتصر مقولة صلة القرابه والقرب على رابطة الدم بالطبع، بل توسعت لتشمل الموالي سياسيا، والمطواع تنظيميا، والقريب عشائريا وجهويا، والمدير والسكرتير/ة مكتبيا، و"المرافق" امنيا، والمتملق المداهن لقلة الكفاءه والإنجاز، والكاتم للعيوب والنواقص، والقادر بالتزلف على الوصول لمركز القرار، والمتنفذ إقتصاديا وعشائريا ...ألخ من معايير التقييم خارج معيار الكفاءه والإنجاز، التي غيبت معيار مستوى الإستعداد للتضحيه والكفاءه كمعيار اساس مُفْتَرَضْ في حركة تحرر. ولقد ساهم في إستشراء هذه الظاهرة قلة وتباعد وصورية إنعقاد محطات التقييم والإنتخاب الجماعي. فتحول التعبير عن الرفض لهذه الظاهرة الى حالات من التذمر والتشكي والتشظي والإنقسام والتكتل المعلن منه والمستتر، كما تجلى هذا الرفض في حالات هجر التنظيم الى تنظيم آخر او الى خارج السياسه والنضال. وبهذا الحال انخلق طفح بيروقراطي من "المدراء" لعملية التحرر على جلد جهد المنتجين المباشرين الاكثر تضحية، فغدت الساحة الفلسطينية بوعي او بدون امام التضاد المر لقاعدة: " الفعل لذياب بن غانم المُضَحٍي" و "الصيت لابي زيد المدير". فإغترب الجُهد النضالي للمِضَحِّي، وانفصل عنه وعن هدفه التعاوني، وتجسد صنما يسيطر عليه في صورة المدير، يضطر المُضَحِّي لتوسله والتزلف اليه كواسطة لتلبية حاجة له. انها ذات الصورة لحالة علاقة الياقه الزرقاء المنتجه بالبيضاء المديرة في النظام الرأسمالي، وان تجلت خلافا لها في الحقل السياسي، لا بل والتحرري من هذا السياسي على وجه التحديد. فإنفصلت بذلك السياسة التحرريه الفلسطينية عن قيم فكرها النضالي ومعاييره، وفي هذا الحضن الثقافي البائس للتحرر ولدت مفرخة مضمونة لكل صنوف التشظي والانقسام والاعتكاف والاحباط والتذمر والاشكالات التنظيمية التي كان لها اول ولكن بدون آخر. بهذا المستوى الفلسطيني من مرارة المقدمات على صعيد غياب مباديء الحداثة والعدالة والمساواة (ولو بحدود معقولة) كمعيار للسلوك السياسي التحرري ، وما عكسه ذلك من تدنٍ لوعي الثقافة السياسية الفلسطينية لضرورة التلازم بين "من" و "الى" الحرية، وبالتالي من علو الفصل بين (السياسي) و (الاجتماعي- الاقتصادي) من الديموقراطية. اجل بهذا الحِمْل الثقيل من بؤس الوعي والممارسة في مرحلة ما قبل نشوء السلطة الوطنية، ولج السلوك السياسي السائد كصيغة لبناء السلطة الوطنية، فهل كان غريبا ان يكون الحصاد لهذا البناء اشد بؤسا من مقدماته؟
بالتاكيد لا فجدل قانون ارتباط المقدمات بالنتائج (فعلا وانفعالا) امر لا مراء فيه، والحالة الفلسطينية لم تكُ ولا كان يمكن لها ان تكون استثناء لجدل هذا القانون العام. وعليه فان ما سقنا آنفا من ظواهر بائسة في مرحلة المقدمات (ما قبل السلطة)، كان سيلد بالضرورة ظواهر اقسى واشد بؤسا في مرحلة النتائج (بناء السلطة)، مع فارق اساسي، ويتمثل في ان مرارة هذا البؤس لم تعد تعانيها مباشرة العضوية المنظمة والمنتجة للتنظيم السياسي التحرري فقط، بل ذاقها الشعب بعمومه واحس بها بشكل مباشر. اجل لقد انكشف الطابق على نطاق المجموع الشعبي المُغَيَّب في السياسات الاجتماعية الاقتصادية، وتكشفت للعلن مظاهر الفساد السياسي والمالي والاداري، وعَمَّقَ الازمة إتضاح معالم انسداد الافق امام احتمال تطور السلطة الانتقالية الى دولة سيادية. فتكثف الاحتجاج والسخط وتجلى في اندلاع الانتفاضة الثانية كنشاط نقدي سياسي شعبي عام. والتي وإن جاءت وجهتها العامة ضد الاحتلال، الا انها لم تخلُ من احتجاج على واقع السلطة الوطنية وسياساتها وطرائق ادارتها ومضامين برامجها. ولم ينتهِ السخط الشعبي بخفوت اوار الانتفاضة ومشاركة اجهزة السلطة فيها، بل تفاقم بفعل جسامة ما قدمه هذا الشعبي من تضحيات وقلة ما احرزه من انجازات بالمعنيين الوطني السياسي الخارجي ضد الاحتلال (مستوى الحرية من)، والديموقراطي الداخلي الاجتماعي الاقتصادي تجاه السلطة الوطنية (مستوى الحرية الى)، فتفاقم التناقض (الازمة) بين الشعبي المُضَحِّي المنتج وبين البيروقراطي المدير المالك، وكان لا بد من اقرار الاحتكام لصندوق الاقتراع كمخرج بصرف النظر عن تقاطع المطالبة الداخلية بهذا المخرج مع محاولات خارجية لاستثمار هذه الازمة لاغراض سياسية ابتزازية جلية. وحصلت الانتخابات بعد جدل بين من يريد ومن لا يريد اجرائها. ولقد جاءت النتائج مذهلة ومفاجئة حتى لمن حقق فيها فوزا ساحقا، أي تنظيم الاسلام السياسي ممثلا بحركة حماس. لقد عكست نتائج الانتخابات سخط الارادة الشعبية المهمشة ورغبتها في التغيير ونزوعها الجارف لاحداثه. وقد وجدت هذه الرغبة في التصويت لحركة حماس ضالتها بصرف النظر عن مدى تعبير البرنامج الاجتماعي الاقتصادي لهذه الحركة عن مصالح وهموم وحاجات الكتلة الشعبية المُغَيَّبَة في برنامج السلطة، فقد كان لافتا وذو مغزى استجابة هذه الكتلة الشعبية لمناداة حركة حماس بشعار "الاصلاح والتغيير"، أي الاستجابة للشعار المنادي بالتغيير على الصعيد الداخلي. انه الحصاد المر للزرع الاكثر مرارة من الفصل بين "الحرية من" و "الحرية الى" في تجربة التنظيم السياسي التحرري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وللاتجاه السائد فيها كعقلية وليس كتنظيم. وكخلاصة انها تجربة معبرة لكيفية تحول نضال "الحرية من" الى حالة لاعاقة التحرر.
#علي_جرادات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|