رام الله المحتلة
ملاحظة من "كنعان": صدر للدكتورعادل سمارة حديثا كراسا بعنوان "بيان اشتراكي عربي ... نحو حركة عربية موحدة" (رام الله، تمّوز (يوليو) 2003). ويهدف الكراس التوجيه نحو دراسة طبقية اجتماعية للمسألة القومية "بهدف الوصول الى مشروع سياسي تنظيمي ليكون حامل مطالب وطموحات وهموم الطبقات الشعبية في الوطن العربي". ويعالج الكراس، من ضمن ما يعالج، تجربة الحركات القومية العربية واخفاقاتها. وقد رأت "كنعان"، بمناسبة حلول الذكرى الحادية والخمسين لثورة 23 يوليو في مصر، ان تقدم للقارئ الاجزاء التالية حول التجربة الناصرية.
***
يقتضي العمل على خلق تيار جديد رجعة تقييمية للوراء باعتبار ذلك مقدمة لما نصبو اليه. فبغض النظر عن الجدل الدائر فيما اذا كانت الناصرية مجرد نظام حكم صمد لفترة معينة وانتهى بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، أو انها حركة سياسية او تيار سياسي،. هي على ألارجح إحدى فروع الحركات القومية التقدمية في الوطن العربي، بل انها تيار شعبي لم تتمكن قيادته، أي الناصرية، من توظيفه عبر علاقة ديمقراطية تبادلية بما يبلور او يتبلور في حركة كما يجب ان يكون الامر. من جهة ثانية، ليس صحيحاً الافتراض ان نجاحات واخفاقات الناصرية لم تدرس من قبل العرب وغيرهم. لكن ربما ما لم يدرس هو الناصرية والمستقبل بمعنى هل هناك قوة دفع فكري في الناصرية تسمح لها بأن تتحول من تيار الى حركة مبلورة قوميا، وهل تحوي في داخلها ديناميات تسمح لها بالتطور الى حركة سياسية قادرة على تجنيد وتحريك الطبقات الشعبية العربية في حقبة العولمة دولياً والكمبرادور محلياً. وهل بامكان التيار القومي العريض نفسه ان يتبنى الناصرية ويطورها بما يواكب روح العصر، بمعنى اعتبار الناصرية إحدى روافد الحركة القومية. والهدف هنا هو تحرر التيارات القومية المتناكفة واحيانا المتصارعة والمتناقضة الى فرقاء حوار وعمل مشترك (انظر لاحقاً). أما السؤال الأهم من هذه كلها، فهل بوسع الناصرية ان تنحاز الى قومية الطبقات الشعبية العربية؟
بناء على اطروحاتها وطموحاتها وسياساتها، فقد مثلت الناصرية او لعبت دور حركة شعبية اكثر مما هي مجرد نظام حكم. وربما بوسعنا القول انه كان هناك توتر دائم بين الناصرية كنظام حكم له سياساته العسكرية والبوليسية ضد اليمين واليسار على حد سواء، وبين الناصرية كحركة طموحة ومحبوبة قومياً من الطبقات الشعبية العربية. كان التوتر بين ناصر الحاكم وناصر البطل الشعبي القومي. وهو التوتر الذي لم يتم حله، للاسف، في حياة ناصر التي لم تستمر طويلا. ولم يتم ارساء اسس نظرية لحله مستقبلا. فلم تتطور الناصرية الى نظرية متكاملة لتكون الفيصل بين المواقف والاجراءات من جهة وبين المحددات النظرية التي تقاس عليها السياسات من جهة ثانية. وقد تنسحب معظم المعايير على نظام الرئيس العراقي صدام حسين، باستثناء كونه ديكتاتورياً.
والحقيقة ان احد اهم اسباب عدم حل هذا التوتر هو حالة النضال لمواجهة العدوان المتواصل، لدرجة منع التقاط الانفاس، التي عاشتها مصر الناصرية ضد العدوين الصهيوني والامبريالي-الراسمالي الغربي والرجعية العربية الحاكمة والمتحكمة او حلفائهما داخل الوطن. وهي الحالة التي نعيشها اليوم مطورة الى طبعة العولمة خارجيا والكمبرادور داخلياً. ان رفض البنك الدولي في السنوات المبكرة من حكم ناصر، تمويل السد العالي، ورفض الغرب الراسمالي الاستمرار في تسليح مصر كما كان الامر في العهد الملكي، دفعت الناصرية للتوجه الى الكتلة الاشتراكية. وهذا يعني ان محاولة الخروج على إسار الغرب الراسمالي كانت رد فعل على عدوانية الغرب وليست حالة نضوج وتحليل وقناعات داخلية . ان قرار تجاوز العلاقة مع الغرب الراسمالي هو قرار يليق بحركة قومية شعبية اكثر مما يليق بقرار نخبة حاكمة حتى لو لم تستمد بقاءها من ارتباطها بالمركز الامبريالي ورضاه عنها. ويمكننا القول ان قرار بناء السد العالي هو سياسة تنموية انتاجية وقرار كسر احتكار السلاح هو قرار دفاعي عن الوطن الذي تحتاج تنميته الى دفاع عنها. فالتنمية لا تستقيم او لا تصمد على الاقل دون قوة دفاعية تحميها لا سيما في حقبة العولمة وتفرد دولة واحدة في الساحة الدولية بما تمثله من فلتان جشع راس المال. وهذا يعني سواء كانت الامور مبلورة لدى الناصرية هكذا ام لا، يعني ان توجهها كان طبقاً للمتطلبات الموضوعية والضرورية لمشروع تنموي متكامل. لكن المشروع ظل مقطوعاً فكريا حيث إتخذ شكل سياسات واجراءات بدل ان ينجم عن تبلور فكري تنموي وهذا ما جعل الارتداد امرا قليل الصعوبة.
كما لم يكن العدوان الثلاثي على مصر مجرد انتقام لتأميم قناة السويس بقدر ما كان بهدف تقويض المشروع القومي الذي كانت تحمله الناصرية. وعليه، فإن المحطات الرئيسة في العدوان الامبريالي الراسمالي الغربي والصهيوني ايضا هي التي استهدفت الجوانب الوحدوية في المشروع الناصري اكثر مما استهدفت الجوانب التنموية. وهذا ليس تقليل من اهمية التنمية، ولكن ربما لادراك المعتدين بأن الوحدة هي اقرب منزلة عشرية الى التنمية الحقيقية، أي تنمية بالحماية الشعبية وعلى صعيد قومي لا قطري. لذا تمثلت الضربات الحقيقية ضد الناصرية في عدوان 1956 الثلاثي وفك الوحدة المصرية السورية بمشاركة انظمة عربية وفي عدوان 1967 الذي لم يكن له ما يبرره بالمعنى السياسي الشكلي المباشر، ولكنه كان بالنسبة للعدو ضرورياً لأن الجيش المصري وصل اليمن وهو ما اوصل التيار القومي العربي الى حواف مخزون النفط. بعبارة اخرى، فإن مصدر القلق لدى المركز الامبريالي، آنذاك، كان من أي مشروع وحدوي وخاصة اذا اقترن بتنمية جذرية حتى وإن كانت لا تزال ضمن قطر واحد. فالمركز يخشى بالطبع ان تسعى لتجاوز حدود القطر، وهو ما دفعت الناصرية ثمنه. ولا ندري إن كان اهتمام المركز بتدمير هذه الظاهرة لأنها كانت جذرية جدا مهددة له ام لأن المركز حساس لأي تطور مهما كان بسيطا . ولذا يفضل الضرب والتدمير المبكرين. من هنا يتضح خطأ الاطروحات التي اعتقدت ان القومية العربية اخذت فرصتها في التحقق عندما تمت الوحدة المصرية السورية، لكنها فشلت. ونقصد بالتحديد، ان الامة العربية لم تأخذ فرصتها في الوحدة، أي ان الطبقات الشعبية العربية لم تأخذ حقها في التعبير عن آمالها في الوحدة. كما لم يكن للطبقات الشعبية العربية تنظيمها الذي يفترض ان يكون المدافع الفعلي عن الوحدة والقائد لها. من هنا وجوب التفريق بين جدية النظام الناصري في تحقيق الوحدة وبين عجزه عن التقاطع مع الطبقات الشعبية والانتماء اليها كليا، بدل الانتماء الى الطبقة الوسطى ومحاولة تحقيق شرهها الاستهلاكي عبر سياسة إحلال الواردات.
ومرة ثانية، لا شك ان عدوان 1956 (وهو نموذج مبكر لعودة الاستعمار) قد تمت دراسته، ولكن هناك جانباً مركزياً واساسياً ربما لم نتطرق له كعرب، وهو ان هذا العدوان اعتبر الدولة الناصرية دولة تنمية ووحدة واشتراكية، وبالتالي يجب تحطيمها، بغض النظر عن الطريقة. المهم ان تدمر قبل ان تصل مرحلة الاقلاع التنموي والوحدوي. لعل ما أعاق التدمير حتى العام 1967، هو وجود الاتحاد السوفييتي كرافض لعودة الاستعمار. أما موقف الولايات المتحدة آنذاك التي عارضت العدوان الثلاثي فلم يكن لأنها ترفض عودة الاستعمار. كانت ترفض عودة اي استعمار غير استعمارها. كانت تريد بقاء بريطانيا وفرنسا على ضعفهما لكي تتمكن من وراثتهما. وقد ورثتهما حقا في اماكن وباساليب معينة (الاستعمار الجديد) وها هي تقوم اليوم بممارسة عودة الاستعمار بشكله القديم. فلو درسنا هذا الجانب في اسباب وملابسات عدوان 1956 لكنا قد بنينا وعيا عربيا شاملا ومبكرا ضد االراسمالية الامبريالية الاميركية، ولكنا قد وصلنا الى حقيقة ان الدولة القطرية عدوة للامة ولا بد من اسقاطها لصالح دولة الوحدة.
*********************
وهذه برأينا نقطة ضعف لا قوة في الناصرية، والانظمة القومية البرجوازية العربية ومثيلاتها في بلدان العالم الثالث (المحيط) و لنقل بشكل خاص في حركة عدم الانحياز. ان عدم جذرية انظمة الحكم الوطنية في بلدان المحيط بعد التحرر الوطني قد لعبت دورا كبيراً لصالح المركز الراسمالي الغربي. فقد ابقت هذه الانظمة على روابطها التجارية مع المركز الراسمالي مما زوده باستمرار بفوائض مالية سمحت له بالتفوق على المعسكر الاشتراكي حيث وظف هذه الفوائض في البحث والتطوير ليسبق المعسكر الاشتراكي ويطفىء بها ازماته الاقتصادية الداخلية. وعليه، كانت السياسات الاقتصادية الاجتماعية لبلدان عدم الانحياز راسمالية في جوهرها، أي مضادة للثورة. ولا نقصد هنا انها كان يجب ان تنفتح على المعسكر الاشتراكي، لا سيما خلال تحريفيته، بشكل أعمى، ولكن ان تقيم قطيعة مع المركز الراسمالي كحد ادنى. انظر حول هذه السياسات كتاب، عادل سمارة الذي سيصدر قريباً:
Beyond De-Linking: Developmemt By Popular Protection, State vs Development.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فالدولة الطرية العربية التي شاركت في فك الوحدة المصرية السورية، هي نفس الدولة العربية القطرية التي شاركت في عدوان 1991 على العراق وعدوان 2003 على العراق ايضاً.
كنعان