محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 06:59
المحور:
القضية الفلسطينية
-الصراع كما هو: ما بعد سقوط الرواية السهلة
أزاح التصعيد الحالي بين إيران وإسرائيل أقنعة تواطؤ وسرديات قديمة، طالما تغنى فيها الكثير منذ نحو نصف قرن، تزعم وجود "تنسيق سري" و"مسرحية متقنة" أو "تبادل أدوار" بين خصمين متفاهمين، وكأن ما يحدث مجرد نزاع مصطنع لخدمة أهداف مشتركة.
فهل ما يجري على الأرض يثبت ذلك، أم يدحضه ؟
تدفع الوقائع المتراكمة، وامتداد ميادين الحرب إلى ساحات إقليمية، باتجاه تحليل أكثر واقعية، يُسقط الغطاء عن تلك التفسيرات الساذجة، ويفتح الباب أمام فهم أدق لما يجري فعلاً.
ورغم الانتشار الشعبي الواسع لنظرية المؤامرة، إلا أن سلوك كلا الطرفين يؤكد تجاوز ما نراه فعلياً أي مظهر من مظاهر "التنسيق الخفي"، بل هو صراع حقيقي، بالمعنى التفصيلي والدقيق لمعنى الصراع في القاموس السياسي والعسكري.
فمنذ سنوات عدة سابقة تبنت إيران مشروعاً إقليمياً ارتكز على دعم الجماعات المسلحة الحليفة، وتثبيت وجودها العسكري في سوريا والعراق ولبنان واليمن، قابلته إسرائيل بأفعال أكثر حدية من طبيعة تراكمية ومتسارعة، عبر عمليات "جز عشب" متواصلة، جوهرها عمل استخباراتي دقيق، إلى جانب ضربات جوية تستهدف مواقع إيرانية أو حليفة لإيران، داخل الأراضي السورية واللبنانية. كان أحدثها قبل الحرب الأخيرة قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي تلاه رد مباشر من طهران عبر إطلاق مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة على أهداف داخل إسرائيل. لترد تل أبيب بدورها بقصف مواقع في أصفهان، بالقرب من منشآت نووية حساسة.
ومثل هذه المعادلة لا يمكن تفسيرها بتفاهم ضمني، بل بتصعيد مفتوح ومحسوب تتداخل فيه الاعتبارات الأمنية مع الرسائل الاستراتيجية.
كما أن واحدة من أبرز المحطات التي تكشف عمق هذا الصراع كانت حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله، حيث قُتل ما يزيد عن 1200 شخص في لبنان، و160 إسرائيلياً، ودمّرت آلاف المنازل والبنى التحتية. هذه الحرب، التي ما زالت آثارها حاضرة في الذاكرة الجماعية، تُظهر أن حجم الكلفة لا يتناسب مع فكرة "التفاهم الخفي"، بل يتناسب أكثر مع صراع فعلي لتحقيق أهداف غير مقيدة.
وعلى الجبهة الاقتصادية، يُمثّل مضيق هرمز نقطة ضغط إضافية في هذا الصراع. فما يقارب 30% من صادرات النفط العالمي تمرّ عبره، مما يجعل أي توتر في الخليج قابلاً لتحويل أزمة محلية إلى أزمة عالمية. وقد شهدنا خلال الأشهر الماضية ارتفاعاً في أسعار الطاقة بمجرد تصاعد التهديدات في هذه المنطقة.
أما من الناحية الجيوسياسية، فسوف يزيد تشابك التحالفات الإقليمية، وحتى الدولية، من خطورة المشهد. حيث تقف روسيا إلى جانب إيران والنظام السوري، فيما تنحاز الولايات المتحدة ودول أوروبية إلى إسرائيل وتحالفاتها.
تحيلنا هذه المعطيات إلى قراءة كلاسيكية لصراع بسط نفوذ إقليمي مدعوم دولياً، بدلاً من تفسير واقع هذا الانقسام بأي "سيناريو مؤامرة" محتمل، على أن نضع في تصوراتنا طريقة عمل نظرية المؤامرة، في هذا السياق، كأداة راحة فكرية. فهي تُجنّب أصحابها مواجهة تعقيدات الواقع، وتستبدل التحليل بالحكم المسبق، والوقائع بالتفسيرات الكلية السهلة. وتقدم إجابات سطحية ذات طابع غيبي مطلق تعبر عن نمط تفكير مرغوب فيه، وذلك حين تعجز السلطة -بالأحرى لا ترغب في تقديم الإجابات الشافية.
واستمرار تبني هذه السرديات لا يساعد على فهم ما يجري، ولا على تشكيل موقف سياسي ناضج. بل يُعيد إنتاج خطاب العجز، والهروب للأمام، ويُغلق منافذ التفكير العملي لاحتواء الأزمة.
لا أرى فيما يجري اليوم بين إيران وإسرائيل بصفته نتاج تفاهمات خلف الأبواب، بل هو ،حسبما تظهره الوقائع، صراع متعدد الطبقات، بل حرب تتقاطع فيها الدوافع الإيديولوجية مع المصالح السياسية، وإنجازات الميدان العسكري مع التوازنات الدولية.
ورغم انتشار مقولات "نظرية المؤامرة"، غير أنها تخفق في تفسير الواقع المعقد، أو حتى تأويله بالحد الأدنى. بل الأوضح من ذلك، أنها تحجب فهم الواقع (الذي هو أعند من أي طموح) وتستبدل التحليل باليقين المريح.
فالصراع بين طهران وتل أبيب ليس تمثيلية سياسية، بل اقتتال فعلي، يتمحور حول بسط النفوذ، وتحركه مصالح استراتيجية، كما تغذّيه معادلات إقليمية ودولية متشابكة. والتعامل معه بمنطق الشك المجرد أو التبسيط المعرفي لا يخدم سوى إعادة إنتاج العجز السياسي والفكري.
لا يعني إسقاط نظرية المؤامرة -هنا- تبني رواية أي طرف، بل يعني فتح المجال أمام فهم نقدي وواقعي يحترم عقولنا، ويضع الوقائع في سياقها، وليس كما نتمناها في مخيلتنا .
فما نحتاجه ، مهما كانت دوافعنا ومواقفنا ورؤيتنا، هو تحليل واقعي، يعترف بتعقيدات الصراع، ويبحث في إمكانية تفكيكه من خلال فهم ديناميات القوة والتأثير في المنطقة، وليس من خلال سرديات شعبوية ساذجة كافية لدغدغة مشاعر أرنب لكنها غير كافية لإقناعه.
ففي زمن يسقط فيه الضحايا وتُدمر فيه العواصم، لا مكان للتمثيل... بل للحرب، بكل وضوحها ودمويتها.
- ترمب والحرب في الشرق الأوسط
فعل ترمب ما أقسم أنه لن يفعله: إشراك الولايات المتحدة في حرب في الشرق الأوسط. فما الذي سيأتي بعد ذلك؟
هل انتهى الصراع فعلاً عند قوله الإيرانيون "لطفاء جداً"... إلى حد أنهم أبلغوني بموعد ضربتهم مسبقاً، وسألوا إن كانت الساعة الواحدة مناسبة أم لا!.
لنفكر في الأمر بهدوء وروية: كم هو سهل على العقل الإيمان بنظرية المؤامرة، فهذا مريح ويعفي من مسؤولية الفهم. ومن الاعتراف بأن العالم أكثر تعقيداً مما نحب أن نراه.
إن تبني رؤية تُبنى على منظور وظيفي صرف، أمر شائع في تحليلات "ما وراء السطح"، ويقوم على فكرة أن الأطراف الكبرى تدير الصراعات وتوظف الكيانات الدينية أو السياسية لخدمة أهدافها، حتى وإن بدا المشهد دموياً أو مكلفاً.
لكن هذا النوع من التحليل، رغم ما فيه من إثارة، يعاني من مشكلات بنيوية في منهجيته.
صحيح أن الشراكات والتحالفات والمصالح لا تقوم على الانسجام الأبدي، وأن "الاختلاف لا ينفي التفاهم"، ولكن لنتوقف أمام هذا المفهوم: "هل وجود تناقض أو تصادم بين طرفين يعني بالضرورة أنهما متفقان سرّاً؟"
القول بأن "النظام الإيراني نظام وظيفي"، يعكس حكماً مسبقاً يحتاج إلى دليل بنيوي، وليس إلى ظنّ مبني على نماذج تاريخية مختلفة السياق، تنتمي إلى وقائع لها تعقيدات هائلة ولا تشكل نمطاً واحداً يمكن إسقاطه آلياً على كل أزمة راهنة.
وحتى لو افترضنا جدلاً بصحة أمثلة صناعة الذريعة، (وهي موجودة بالفعل في تاريخ الحروب والسياسة)، يبقى السؤال هنا هو: هل تمتلك إيران أو إسرائيل ترف افتعال هذه الكلفة الثقيلة في ظل ما يحاصر كلا النظامين من أزمات داخلية وضغوط إقليمية ودولية؟
حين تطلق إيران مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة، وتغامر برد فعل قد يؤدي إلى حرب إقليمية شاملة، فهل هذا مجرد "مسرح مقصود"؟ وحين تردّ إسرائيل بقصف منشآت قرب مواقع نووية، هل هذا ضمن لعبة محسوبة بدقة مع طهران؟
لو كان الأمر كذلك، فهل بإمكان أي طرف ضمان ضبط الإيقاع إلى هذا الحد في منطقة تمور بالتوترات والانفجارات غير المتوقعة؟
ثم لنتأمل منطق "الوظيفية".
أن يكون النظام الإيراني قد استفاد من أحداث معينة، أو أن بعض القوى الغربية تغاضت عن توسعه لفترات، لا يعني أن هناك تنسيقاً دائماً أو عميقاً. فالرؤية الوظيفية تختزل الفاعل المحلي وتفترض أنه لا يملك قراره، وهذا تجاهل لطبيعة النظام الإيراني ذاته، الذي بَنَى مشروعه على منطق العقيدة والامتداد الإيديولوجي، وليس على عقد وظيفي مبرم مع أحد.
بعض الأمثلة التاريخية ربما تكون معبرة لكنها ستخفق في تأكيد عموميتها حين يكون تأويلها مشحوناَ برمزية عاطفية عالية لا تكفي لتفسير الواقع المعقد. لأننا حين نقرأ كل حدث بوصفه "مخططاً مسبقاً"، فإننا نعمل على إعفاء أنفسنا من محاولة فهم كيف تتصرف الأنظمة تحت ضغط الداخل، وكيف تحكمها تحولات الميدان والمفاجآت.
إن كان ثمة طرف يخسر جنوده، ومواقعه، وعناصره الأمنية والاستخباراتية، ويعيش تحت التهديد اليومي، فهل هذا "متفق عليه"؟
وإن كانت الجبهات مشتعلة، والردود متصاعدة، والاقتصادات متأثرة، فهل هذه أعراض تفاهم سري... أم علامات على صراع حقيقي يتصاعد ضمن حدود محكومة؟
على حد علمي المتواضع؛ لا يكفي في التحليل السياسي، أن نُسقِط الأمثلة، بل يجب أن نبني الاستنتاجات على الوقائع، ونفسر التفاعل بين القوى، لا أن نستبدل هذا كله بـ"يقين المؤامرة".
بكل وضوح، الصراع بين إيران وإسرائيل ليس مجرد تبادل أدوار أو تفاهم سري كما توحي بعض الروايات الشعبوية. حجم الخسائر، وضخامة الردود، وتوسع الجبهات لا تُفسر بمنطق "اللعبة المتفق عليها"، بل تدل على صراع فعلي متعدد المستويات.
التضحية لصناعة الذريعة، ممكنة نظرياً، لكنها لا تُفسر تصعيداً بهذا الحجم والخطورة، في منطقة مليئة باللاعبين غير القابلين للضبط. فحين تتعرض منشآت نووية للقصف، وتطلق مئات الصواريخ، ويتدخل وكلاء إقليميون من أطراف متعددة، لا نتحدث عن مسرحية بل عن صدام حقيقي.
أما تشبيه النظام الإيراني بـ"النظام الوظيفي"، فهو اختزال يُغفل استقلالية القرار الإيراني، ويُسقط عليه تجارب تاريخية مختلفة لا يمكن نسخها آلياً على واقع متغير. ما يجري ليس نتيجة تفاهم خلفي، بل نتاج تنافس على النفوذ، وتحركه دوافع أيديولوجية ومصالح استراتيجية متشابكة.
نظرية المؤامرة تريح الذهن، لكنها تحجب الفهم، وتستبدل التحليل باليقين الكسول، ومثل هذا التنافر اليقيني سيتسبب، بلا شك، بخدش النرجسية الجمعية "السنيّة"
باختصار: الصراع القائم هو صراع متعدد الطبقات، ومن العبث اختزاله في كونه مجرد لعبة مدبرة.
نعم، ربما تسعى بعض الأطراف إلى الاستثمار في الأزمات، لكن هذا الاستثمار لا يعني أن الأزمة من صُنعه بالكامل.
ومثلما قالت العرب: "قد يصدق الكاذب"، لكن ذلك لا يجعل كل الصادقين كاذبين أيضاً.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟