|
الكوكبُ والشّهاب : أمّ كلثوم في حكايَة كرديّة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1814 - 2007 / 2 / 2 - 11:32
المحور:
الادب والفن
1 الجيلُ الأقدم ، المنتمي إليه أجدادي الأوائل ، قد نازلته مسألة اللغة المزدوجة . وإذاً ، كان على أسلافنا أولئك ـ كأكراد دمشقيين ، الإنكفاء إلى ذواتهم ومشاغلهم ، متخاطبين فيما بينهم بلغة جبلهم الأول ، راطنين أحياناً بالعربية والتركية ، حينما يكون ذلك في مناسبة لا مناص منها . وكم سعدتُ مرة ، حينما كنت أتحرى من أمي بعض شؤون زمنها ، أن أعلمَ بتعشق والدها لصوت أم كلثوم . هذا الجدّ ، المتوفي قبيل ولادتي ببضعة أشهر ، كان وجيهاً موسراً ، كريماً جواداً ؛ إلا أنه بدد ثروته وأملاكه كلها في المغامرات التجارية ، والغرامية . لا أدري ، ما إذا كان جدّي في محنته تلك ، الأخيرة ، التي أنهى بها حياته عليلاً متوحداً مفلساً ، قد واصلَ الإنصات إلى معبودته ، الكلثومية ، .. وما إذا كان ثمة ، في حجرة منزله الرث ، المتبقي له من عقاراته العديدة ، المبددة ، قد إستعادَ ذكرى سهرة الخميس من أول كل شهر ، حينما كانت الإذاعة المصرية تحافظ على تقليدٍ تليد ، متمثل في تقديم أغنية جديدة لكوكب الشرق : هناك ، أينَ كان الكوكبُ يتألق بصوته في سماء المنزل الأول ، الفاره ، للجدّ الساهر مع ندماء الكأس وخلانه ، والمتمايلون جمعاً على أصدائه ونغماته المرافقة . من جهته ، وفي مناسبة اخرى ، أقدم عهداً ، سردَ لي والدي بعضَ ذكرياته عن معلمه وصديقه ، الأمير جلادت بدرخان ؛ رائد النهضة الكردية في النصف الأول من القرن المنصرم . حيث فجأني الوالد وقتها بتعلق هذا البك الكرديّ ، المنفيّ ، بفن سيدة الغناء العربيّ وحرصه في حياته على الجلوس إلى المذياع ، في حضرة حفلاتها . تلك المعلومة ، عن ولع الأمير جلادت بصوت أم كلثوم ، الخالد ، كنت قد نقلتها بدوري للصديق محمد اوزون ، ( الكاتب المنحدر من كردستان تركية ) ، ومن قام بعدئذٍ بتسجيلها في روايته " بئر القدَر " ، المستعيد فيها سيرة أميرنا ذاك . في هذا المقام ، يتعيّن عليّ ذكر حقيقة متواشجة بموضوعنا ، وهيَ أنه كان للكرد أيضاً " أم كلثومهم " : إنها المطربة عيشة شان ، ذات الصوت الساحر ، الأخاذ ، والتي تعيّن عليها كذلكَ قضاء أكثر عمرها في المنفى . ومن بغداد قاسم ، أينَ إستقرتْ مطربتنا الجميلة إثر ثورة 1958 ، إلى قاهرة ناصر بعدئذٍ مباشرة ً ، حيث سجلت مقطوعات بصوتها للإذاعة المصرية / القسم الكرديّ ، وكانت برفقة أحد عمالقة الطرب من كردستان العراق ؛ حسن الجزراوي : عن هذا الأخير ، ثمة حكاية طريفة ، شائعة بين الكرد ، تزعم أنه حينما تحتم عليه في القاهرة تسجيل أغنيته " كافوكم ليلي " ، الكلاسيكية ، الأكثر شعبية حتى في يومنا الحاضر ، فإنّ مطربات مصريات ، مرموقات ـ مثل شادية وفايزة أحمد وغيرهما ـ إقترحنَ عليه المساعدة في أدائها كـ ( كوْرَس ) ! وعلى كل حال ، فمما لاشك فيه أن أغنية مطربنا تلك ، مؤداة برفقة كادر نسائي من الإذاعة المصرية ، كما يتبينه المرءُ من أصواتهن الراطنة بكرديّة عَسِرَة .
2 وها أنذا ثمة ، في كردستان العراق ، أخيراً . في موطن الجبال الحالقة ، العصيّة ، المحتبية أصواتَ الطرب الأصيل تلك ، التي إحتفيتُ بذكر بعضها آنفاً . في موطن " الأنفال " هذا ، كنتُ أتوقعُ إنعدام أيّ أثر للغة الضاد ، ثقافياً كان أم إجتماعياً ، بعد كل ماعاناه الكردُ من آثار الحكم الصدّامي ، العروبيّ ، الوخيمة . ومما كان يعزز ذاك " اليقين " لديّ ، هوَ دأبُ بعض الفضائيات الخليجية وغيرها ، المُغرض ، على إبراز حقيقة إنحسار ـ أو حتى إنعدام إستعمال اللغة العربية في الإقليم العراقي ، الكردي . في فندق " برج أربيل " ، المحروس بهَولة " القلعة " ، الهائلة ، غفوتُ ليلتي الأولى على وسادة ذلك اليقين ، لأستيقظ صباحاً على كونه وهماً ، لا أكثر : فمنذ وجبة الإفطار ، السخية ، وشهيتي مقبلة على الأصناف المقدّمة ، بفعل الأنغام العربية الصادحة من إستيريو صالة الطعام ، الكبرى ؛ أنغام عراقية ولبنانية وسورية ومصرية ، وخليجية أيضاً . كان مريدو الفندق ، وضيوفه ، خليطاً من شتى الأقاليم العراقية ، إضافة لآخرين من الدول العربية ؛ ثمة كانوا جميعاً على المزاج الطيب نفسه ، الرائق ، في أحاديثهم وضحكاتهم ومهاتفاتهم . الأمر نفسه ، لحظته لدى ركوبنا سيارة الأجرة ، وخلال جولتنا على الأسواق القديمة ( البازار ) أو المستحدثة وفيها محلات التسجيل والإلكترونيات ، حيث صور نجوم الطرب ، العربي والتركي والكردي والآشوري ، متجاورة على هذا الجدار أو هذه الواجهة . وأم كلثوم ، كانت هناك أيضاً ، في كل من تلك الأمكنة التي ساقنا تجوالنا عبرها . مساءً ، لدى إيابنا للنزل ، إنداح صوتُ كوكب الشرق من مسجّل لأحد الباعة على الرصيف المقابل لسيرنا ؛ وكانت أنشودة " رباعيات الخيّام " ، الملحمية الأداء والعبارة والنغم . في اليوم الذي تلا ذلك مباشرة ، كنت على موعد مع حكاية اخرى ، عن أم كلثوم . ففي " قصر الفن " ، بعاصمة الإقليم أربيل ( هولير ، بلفظها المحلي ) ، كان من غريب الإتفاق حقاً ، أن ألتقي يومذاك مع الكاتب جلال خضر حسين ، صاحب كتاب " سيرة حياة شهاب هوليري ( 1891 ـ 1939 ) " ـ الصادر بالكردية / الصورانية ، في طبعة خاصة عام 2002 : كان هذا كتاباً عن الشهاب ، الكرديّ ، الذي قدّر له أن يتلاقى ، في سماء الإبداع ، بكوكب الشرق ، العربيّ .
3 في بغداد عام 1932 ، ( كما راحَ يروي المؤلفُ لي ، نقلاً عن كتابه ) ، جرى إستقبالٌ حافل لأم كلثوم ، شعبيّ ورسميّ ؛ هيَ التي كانت حاضرة للغناء في إحدى صالاتها بدعوة من وزارة الإرشاد العراقية . ثمة في أربيل ، كان الحضورُ الكلثوميّ ، الطاريء ، سبباً في تأليب مزاج أكبر وجهاء المدينة ؛ المدعو " ملا أفندي " . هذا الوجيه المرموق ، بلغ من أهميته الإعتبارية ـ كعالم متصوّف ، أنّ الملك فيصل الأول ، بنفسه ، سبق له أن شرفه بزيارة دارته المنيفة . وإذاً ، فالمشكلة تلك كان سببها أنّ طلباً علياً ، من البلاط ، وصل للوجيه المذكور بإرسال مطربه ، المفضل ، إلى العاصمة كيما يكون أحد الفنانين المستقبلين لسيّدة الغناء العربي . مطربنا الكرديّ ، كما سيحدس القاريء ، ما كان سوى " الشهاب الهوليري " ؛ هذا الطاغي إسمه وقتئذٍ على جميع الأسماء الفنية ، في تلك البلاد الجبلية . ورفضَ الوجيه قطعياً ، رغم إلحاح المسؤولين ، إطلاق سراح بلبله ، الشجيّ الصوت ، ولو لليلة واحدة حسب : كان في خلده ، يتوجّس من أن يفقد الشهابَ أبداً ، فيما لو داعبتْ هذا خيالاتُ العاصمة ومغرياتها . ولكن إلى النهاية ، تنازل وجيهنا عن عناده ، الكرديّ ، مشترطاً على نديمه قسَماً ، معظماً ، بالعودة إلى أربيل حالما تنتهي ليلة الطرب البغدادية . ولكي يكون أكثر إطمئناناً ، أمَرَ ملا أفندي رجليْن ، عتييْن ، من حراسه بمرافقة الشهاب في رحلته ذهاباً إياباً ! وإلى العاصمة ، إذاً . إلى منتزه " الهلال " ، البغدادي ، الكائن زمنئذٍ في محلة الميدان بشارع الرشيد ، حيث كانت أم كلثوم هناك على المسرح ، بكل جلالها وأناقتها ، فضلاً عن شخصيتها ، المفعمة معاً بالقوة والثقة والرقة . فما لبثت الأنغامُ أن تصاعدت ، وراحت مطربتنا تؤدي دوراً من المقام ، يقول مطلعه :
" أكذبُ نفسي عنكَ في كل ما أرى وأسْمِعُ أذني منك ما ليسَ تسمعُ فلا كبدي لكَ تبلى ولا لك الرحمة ولا عنك إقصارٌ ولا فيك مطمعُ "
كان الشهابُ ثمة في مقعده ، على الصف الأمامي ، منصتاً للدور بكل كيانه . فما أن إختتمت أم كلثوم وصلتها تلك ، وكانت بسبيلها للإخلاد لبرهة راحة ، وإذ يأتيها على حين فجأةٍ صوتٌ خافت ، شجن ، راحَ يصّاعدُ رويداً مردداً المقطع نفسه ، الذي إنتهت هيَ للتو من إنشاده : كان هذا صوتُ شهابنا ، الأربيليّ ، المُصدي مسحوراً كلماتِ ذلك الدور ، الكلثوميّ . إثر الإنتهاء من حفلتها ، أرادت كوكبُ الشرق التعرّف بهذا الرجل الموهوب ، الجريء . فتولى التعريفَ الفنانُ العراقي علي فليح ؛ الذي قدّم لها الرجلَ قائلاً : " الشهاب الهوليري ، أكبر ملحني ومطربي المقام " . في تلك الليلة البغدادية ، المشهودة ، وبطلب من الضيفة الكبيرة ، غنى فناننا الأربيليّ مقامات عراقية ، صعبة ؛ من قبيل الـ " راست " . ومن ثمّ إنتقل إلى مقامات اخرى على التوالي ـ كإبراهيمي وحكيمي وناري واوج وخناباد ـ وكأنما لكي يبهرَ سيّدة الطرب العربي بمقدرته الصوتية ومراتبها . ثمّ ما عتمَ الشهابُ أن عادَ إلى المقام الأول ، الراست ، منشداً دوراً موشىً بكلمات المتنبي ، العظيم :
" كم قتيل كما قتلتِ شهيد لبياض الطلا وورد الخدودِ وعيونُ المَهى ولا كعيون فتكتْ بالمتيّم المعمودِ "
يتضرج إذاكَ وجهُ أم كلثوم تأثراً ، كما روى شهود اللقاء ، ولا تتمالك هيَ إلا أن تهتف بلهجتها المصرية ، المحببة : " إيه ده ، ده شيء عظيم ! " . وبلغ إحتفائها بالشهاب ، أنها نادته بتواضع وإلفة : " أستاذي " ، ملحة عليه في مرافقتها إلى القاهرة ، ضامنة له أن يُصبحَ ملحنها الخاص . ولكنّ فناننا الكرديّ ، بخلقه السويّ النبيل ، يعتذر عن تلبية طلبها ، بسبب القسَم الذي قطعه لراعيه ، ملا أفندي ، بالعودة إليه في أربيل . هكذا خسرَ الإبداعُ فناناً أصيلاً ، بشخص الشهاب الهوليري ، كان من الممكن أن يُضافرَ عبقرية أم كلثوم بألحانه وثقافته ، المتنوعة ؛ هوَ الذي كان ينشد المقامات بالكردية والعربية والتركية والفارسية ، على المستوى نفسه من التمكن والجودة وحسن الأداء . لكأنما إسم فناننا قد تقمّص مصيره ، وعمره المنقضي مبكراً في سنّ الثامنة والأربعين : كان كالنجم الشهاب ، المندلع في حياته مضيئاً متوهجاً ، والمتهاوي من ثمّ ، سريعاً ، مخترقاً عتمة الأبدية .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النغمُ والمشهَد : زمنُ السينما الرومانسيّة
-
تاريخٌ تركيّ ، بلا عِبْرة
-
شيطانُ بازوليني 2 / 2
-
الطاغية والطفولة
-
أفلامُ عطلةِ الأعياد ، المفضّلة
-
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية / 2
-
شيطانُ بازوليني 1 / 2
-
نفوق الوحش ونفاق الإنسان
-
نوتوريوس : هيتشكوك وتأسيس الأدب السينمائي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 3
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 2
-
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية
-
النبي ؛ هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟
-
الهولوكوست اليهودي والهلوَسة الإسلاموية
-
سياحات : دمشق بأقلام الرحّالة 2 / 2
-
نادية : نهاية زمن الرومانسية
-
العتبات الممنوعة
-
العصابة البعثية والتفجير الطائفي
-
سياحَات : دمشق بأقلام الرحّالة 1 / 2
-
جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|