|
ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غسان كنفاني وما زال متوهج الحضور
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 8396 - 2025 / 7 / 7 - 22:58
المحور:
القضية الفلسطينية
في ضو نتائج العدوان الهمجي النازي التدميري لقطاع غزة وعدوانه اليومي في الضفة الغربية ، واستشهاد وفقد ما يزيد عن 77 ألف وما يزيد عن 134 ألف جريح ، ما يعني أن شعبنا امام امتحان نهاية مرحلة كاملة من تاريخه، أي انه امام امتحان بداية جديدة، لكن البداية "هذه المرة لن تكون في فراغ، فلقد سال دم كثير وحبر كثير، ومن مزيج الدم والحبر ولدت حكاية رسمت صورة وتشكلت هوية ، هي الهوية الوطنية في وحدتها مع هويتها القومية العربية التقدمية الديمقراطية.. ذلك هو المستقبل ولا شيء سواه . في الذكرى الثالثة والخمسين لاستشهاد المناضل الاديب المبدع والقائد الجب..هاوي غسان ، وفي رحاب هذا اللقاء في ظروف العدوان التدميري الصهيوني المتواصل منذ تسعة عشر شهرا في ظل صمت عربي إسلامي عالمي أخرس أو متواطؤ، سأبدأ كلمتي بهذا السؤال .. ماذا لو كان غسان كنفاني لا يزال على قيد الحياة ؟ "يعتكز عصا عادية ويحدق في خيبة غير عادية"، ماذا لو عاد إلى الوطن وهو على هذه الحالة من استمرار الانقسام والتفكك وتشتت الهوية والشعب والقضية ، وألقى كلمة في جمع لا يعترف بأعماله ولا يستلهمها أو يهتدي بها حتى لو عرفها..!؟ . إن الحديثُ عن غسانَ الكاتبِ الروائي المناضلِ والمثقفِ الجب..هاوي –كما الحديثِ عن الحكيمِ ووديع وأبو علي مصطفى ومحمد الأسود وأحمد سعدات وكلِ الثوريين- لا معنىً له ولا قيمة إن لم يكن تحريضا ثوريا ًوديمقراطيا من أجل تغيير وتجاوز هذا الواقع الفلسطيني والعربي المنحط والمرتهن للتحالف الامبريالي الصهيوني في هذه المرحلة الأخطر من كل مراحل تطور نضال شعبنا منذ بداية القرن العشرين ومنذ نكبة 1948 حتى اللحظة. أعودُ للحديث عن المثقف غسان كنفاني ، وهو حديث يحملُنا إلى رؤية ِالجبهة منذ تأسيسها للثقافة والمثقف، التي ترى أن الثقافةَ َهي بالمعنى العام إنتاجٌ اجتماعي ، وهي بالمعنى الخاص القدرُ من المعرفةِ الذي يتسلح به الإنسان عموماً – وعضوُ الحزب الثوري خصوصاً- في مواجهةِ كلٍ من الطبيعةِ والمجتمع من أجلِ تطوير قواهُ المنتجةُ وعلاقاتُه الإنتاجيةُ و تطويرِ وعيُه هو نفسه. وفي ضوء هذا التعريف ، فإن الثقافةَ بالنسبة لرفاقِنا في الجبهةِ هي : جملةُ ما يستوعبُه ويراكمُه ويبدعُه هذا الرفيقُ او ذاك على صعيدِ مواثيقها وبرامجها السياسية من ناحية ، وعلى صعيد الوعي المعمق بالفلسفةِ الماركسية ومنهجِها ، والتاريخِ الوطني والقومي ، وعلى صعيدِ العلم ِوالأدبِ والفنِ بالارتباط ِالوثيقِ بمجالاتِ الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية ِوكافةِ مجالاتِ الحياةِ المادية والروحية من ناحيةٍ ثانية ، من اجل استخدامِها للإجابةِ على أسئلةِ الجماهير الشعبية المطروحة على الجبهة في كل مرحلة ٍمن مراحل مسيرتِها الثوريةِ من أجل التحررِ والعودة والديمقراطيةِ والتقدم ، في إطار العلاقة الجدليةِ بين الأهدافِ الوطنيةِ والقومية . وهنا تتجلى خصوصيةُ الواقعِ العربي وتخلفِه التاريخي ، واستتباعِه وخضوعِه الراهن عبر الشرائح الكومبرادورية البيروقراطية للنظام الامبريالي ، كما تتجلى أيضا في دروسِ وعبرِ الشهيد غسان كنفاني الذي أدرك وناضل من أجلِ تغيير هذا الواقع من خلال استلهامِه الخلاّقِ للثقافة الثورية التقدمية بكل أبعادِها ومكوناتِها العلمية، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وأهميةِ تكريسِها في صفوف رفاقِه الجبهاويين. إن رؤية الرفيق الشهيد غسان هذه للثقافة تبلورت في إطار التزام الجبهة بالثقافة العضوية وبالمثقف العضوي دون تجاوزِ الإبداعِ الأدبي أو الفكري أو الفني لدى هذا المثقفِ الحزبي أو ذاك، وهنا بالضبط ترسخت العلاقةُ الجدليةُ التبادلية بين شهيدِنا غسان وجبهتِه الشعبية على قاعدة الفهم المشترك لدور المثقف العضوي الذي يمكننا تعريفَه وتحديد َمعالمِه وفقَ رؤية الجبهة ، بأنه : العضوُ المنتمي للحزب الماركسي الثوري ، هو الحامل ُلرسالةٍ، لموقفٍ، لرؤيةٍ نظرية مستقبلية من ناحية وهو أيضاً ، "الداعيةُ" "الاختصاصيُ" "المٌحَرِّضُ" "صاحبُ الايدولوجيا" أو حاملُها، المدافعُ عن قضايا وتطلعاتِ الجماهير الشعبية ، الملتزمُ بالدفاعِ عن قضيةٍ سياسية، أو قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، هذه صفتُه ومنهجيتُه، بل هذه مشروعيتُه ومسئوليتُه تجاه عملية التغيير التي يدعو إليها. لذلك فإن الجبه..ةَ الشع..بيةَ حينما تقدم غسان كنفاني ، لا ترى أي انفصام بين غسان المثقف المبدع حاملِ الرسالة، وغسان المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً بمبادئِها وأهدافِها، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطةِ التقاءٍ هامةٍ، وهي الوظيفةُ النقديةُ للمثقف، والوظيفةُ النقدية هنا تتخطى التبشيرَ أو الرسالةَ إلى الثورة والتغيير وتجاوز الواقع عبر محددين رئيسيين هما : قوةُ رسوخِ ووضوحِ الهويةِ الفكريةِ ، الماركسية ومنهجِها المادي الجدلي من ناحية ، وقوة ِرسوخ ووضوح الانحياز الطبقي للكادحين وكل المستغَلين والمضطهدين من ناحيةٍ ثانية. وبهذا المعنى لابد من أن أشير إلى انحسار دور هذا المثقف العضوي الماركسي في بلادِنا بصورةٍ مريعةٍ ومقلقة، في هذه المرحلة التي تغيرت فيها مراتبُ القيم ِ"فتقدمت قيمُ النفاقِ السياسي والتلفيقِ الفكري اليميني وبالمصالح الشخصية الانتهازية والفردانية، حتى أصبح لها مُنظّروها ومشرّعوها الذين صنعتهم انساقُ وآلاتُ السلطة أو النظام الرسمي ، أو أولئك الذين صنعتهُم وأفسدتهُم منظمات NGO S كما هو الحالُ في وضعِنا الراهن في فلسطين –على سبيل المثال وليس الحصر- عبر مروجي ما يسمى بثقافةِ السلام والسلام الاجتماعي والسلام الاقتصادي والحكم الصالح ، إلى آخر هذه المفاهيم التي تم تصنيعُها وتركيبُها – منذ سنوات - خصيصا للتداول في بلادنا وغيرها من البلدان المتخلفة من اجل التشكيك في صحةِ أفكارِ فصائل وأحزاب اليسار وتفكيكها وتخريبها من داخلِها بما يضمن تكريسَ تبعيةِ هذه البلدان واستمرارِ تخلفِها وخضوعِها للنظام الامبريالي . ولذلك أقول لكلِ من يرفع شعارَ الليبرالية الجديدة في بلادِنا: إن النيو - ليبرالي ليس ديمقراطياً ولا حتى ليبرالياً بل تختزلُه التجربة ويختزلُ ذاتَه إلى مجردِ ممسوسٍ بلوثةِ عداءٍ فَقَد بريقَه لكل ما هو تقدمي او ديمقراطي ثوري. لقد كان غسان – وما زال– تجسيداً للمثقف العضوي الحداثي والعقلاني التنويري والوطني والقومي الماركسي في آن واحد ، لكنه لم يكن صاحب رؤية أحادية معرفية يقينية ، قومية أو ماركسية يلتزم بجمود نصوصها بقدر ما كان مبدعاً في أدبه الثوري عبر تأويله للنصوص وتفسيره لها بما يقترب أو يتناسب أو يتطابق مع الواقع المعاش، فلم يكن ناطقاً باسم النص بل كان ثورياً يسعى إلى تغيير الواقع عبر وعيه له واستخدامه للمنهج المادي الجدلي في اكتشافه من جهة وعبر قناعته الموضوعية الثورية بمبادئ وأهداف الج..بهة الشع..بية الوطنية والقومية والأممية من جهة ثانية. هكذا أدرك غسان مهمة المثقف العضوي التي جسدها في انتماءه للجب..هة والتزامه الخلاق بهويتها ومبادئها ومواقفها الوطنية والقومية والأممية ، مدركاً أن مهمة المثقف هي ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاماً بما ينبغي أن يكون عبر وظيفته النقدية بالمعنى الموضوعي ، وهي تتناقض كلياً مع وظيفة التبرير ، أو الاعتراف بالأمر الواقع ، هنا يتداخل عضويا مفهوم المثقف مع مفهوم الطليعة بالمعنى المعرفي والسياسي التي ترى الالتزام بأهداف النضال الوطني ضمن الإطار القومي تجسيداً لرؤيتها . ولعل ذلك ما دفع "جرامشي" إلى التأكيد على دور "المثقف المتمرد" ، أو المثقف العضوي الملتزم، فالمثقف بالمعنى الحقيقي هو الذي لا يرتضي بالأفكار السائدة أو المألوفة، هذا هو المبدأ الذي جسده غسان حتى لحظة استشهاده . لذلك كله ، ينبغي علينا في الجب..هة الشعب..ية، التمييز بين من يمارسون الفكر من أجل تغيير الواقع والثورة عليه، وبين من يمارسون تحطيم الفكر والوعي حفاظاً على مصالحهم وتبريراً للنظام أو السلطة أو الواقع البائس الذي يحتضنهم . فما قيمة الثقافة التي لا تتعاطى وتتفاعل مع الهموم الوطنية والطبقية للجماهير الشعبية، وما قيمة المثقف الذي لا ينخرط في العملية التغييرية ؟ فإذا ما تفككت وتآكلت أو تراجعت جبهتنا الثقافية وأقصد بذلك بوضوح ، هوية حزبنا الفكرية ، الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، فإننا لا محاله سنخسر كل الجبهات الأخرى ، السياسية والتنظيمية والعسكرية الكفاحية .. تلك هي كلمات القائد الراحل جورج حبش الذي أدرك أهمية الجبهة الثقافية في الواقع العربي المهزوم ، ليس كجبهة أخيرة فحسب ، بل أيضا كمنطلق لرفاقه ولكل الماركسيين القوميين العرب في مواصلة نضالهم واستعادة دورهم من اجل الثورة على هذا الواقع المهزوم وتغييره ، استجابة لنداء وتطلعات شعبنا وشعوبنا العربية وشوقها الكامن من اجل الحرية والنهوض والوحدة في ظروف تحولت فيها هذه الأمة إلى نعاج تنتظر الذبح..! أليس هذا ما آلت إليه هذه الأمة بسبب أنظمة فقدت معظمها وعيها الوطني والقومي بعد أن تحولت –بحكم مصالحها الطبقية- إلى أداة في خدمة التحالف الامبريالي الصهيوني ..؟ . إن رفضنا في الجب..هة الشعب..ية لهذا الواقع لن يجد مصداقيته إلا في الممارسة الثورية المدركة – وبوعي عميق- بمبادئ وهوية ودور حزبنا الطليعي في هذه المرحلة تأسيساً للمستقبل، شرط أن نعمل بعزيمة وثبات على الخروج من حالة الأزمة التي تعيشها الجبهة اليوم صوب النهوض الذي يتطلع إليه كل رفاقنا، فبالرغم من التجربة الطويلة والغنية، وما جسدته الجب..هة الشعب..ية من نهج ثوري مميز، إلا أنها تعرضت للعديد من الاهتزازات الداخلية والخارجية التي لا يتسع المجال هنا للاستفاضة بها، ولكن أهم هذه الاهتزازات هو حالة التراجع الفكري والسياسي والتنظيمي الذي تشهده راهنا ، لكننا واثقين بإمكانات وقدرات رفاقنا وإيمانهم بهويتهم الفكرية ومنطلقاتهم الوطنية والقومية من الخروج من هذه الأزمة صوب النهوض ، فلا مستقبل لهم سوى ذلك. ولذلك نحن مع غسان حينما يقول ما معناه : لن يكون الكفاح الفلسطيني مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم، ولن يكون القائد الوطني الماركسي جديراً باسمه إلا إذا كان واجبه التحريض على هذه الإرادة وخلق أشكال سياسية بلا مراتب وبلا رعية وأعيان أو محاسيب أو شلل داخل الحزب ، إذ أن استمرار هذا الوضع لن ينتج سوى قيادة رخوة عاجزة وغير متجانسة ستدفع بالحزب إلى مزيد من التفكك والخراب . وهنا أود التأكيد على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة، إذ أن هذا الانحياز الواعي والمسئول هو الأساس الأول في تحديد ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية. وفي هذا السياق أشير إلى ما اسميه الهوّة أو الفجوة التي اتسعت بصورة غير مسبوقة بين أحزاب اليسار من جهة والجماهير الفقيرة من العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة من جهة ثانية، في مقابل نشاط وتوسع أحزاب الأنظمة الحاكمة عموماً وأحزاب التيار الديني، الإخوان المسلمين ً، وهي ظاهرة تستدعي التأمل، خاصة وان حركات وأحزاب الإسلام السياسي رغم إقرارنا بتناقضها مع العدو الصهيوني ورفضها الاعتراف بدولته ، إلا انها -كما هو حال الأنظمة الحاكمة- لا تتناقض جوهرياً مع النظام الرأسمالي ، بل إن منطلقاتها السلفية ورفضها الاحتكام إلى العقل والاستنارة الدينية ، يخدم –بصورة مباشرة وغير مباشرة- في استمرار حالة احتجاز التطور والتبعية والتخلف في إطار الصراع مع قوى ومفاهيم النهضة و العقلانية والحداثة العلمانية في بلادنا، الأمر الذي يفرض –كضرورة تاريخية راهنة ومستقبلية – أن تتحمل قوى وأحزاب اليسار مسئولياتها في المجابهة الديمقراطية الرافضة لكل مظاهر وأدوات التخلف والتبعية ، وإعادة بناء أحزابها وفق منطلقات سياسية قومية وأيدلوجية ماركسية، كمدخل وحيد لاستعادة دورها وقيادتها لحركة التحرر القومي والديمقراطي من أجل تجاوز وتغيير هذا الواقع المهزوم صوب مستقبل النهوض القومي والتحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية . على أي حال لا بد أن أتدارك إصراري على مركزية الموقع الطبقي وأهميته في صوغ المثقف وتحديد ماهيته ، لأقول أو أتقاطع مع شمولية مفهوم المثقف التي تتضمن الموقع الطبقي بالإضافة إلى مواقع أو رؤى إبداعية أخرى .. مثل المثقف المتخصص في مجال العلم أو المجتمع والعلوم الإنسانية، لكنني في كل الأحوال أرى نفسي منحازاً للمثقف وفق ارتباطه بالموقع الطبقي... فهذا هو الأصل عندي رغم أي خلاف بيني وبين الآخرين في هذا الجانب . أما بالنسبة لاجتهادي المنحاز لشمولية مفهوم المثقف، فإن الشمولية التي أقصدها هنا لا تتناقض مع التعريفات التي عبّر عنها مجموعة من المفكرين في تعريفهم للمثقف بأنه " هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع" أو هو المفكر المتميز المسلح بالبصيرة ، أو هو الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي أو هو المفكر المتخصص المنتج للمعرفة، وهي تعريفات عامة لا تحرص على تحديد الزاوية أو الموقع الذي ينطلق منه ذلك المثقف في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير .. والزاوية التي اقصدها هي الموقع الطبقي بالتحديد (عبر الالتزام التنظيمي بالحزب الماركسي) ، فهو الغاية والقاعدة المنتجة والمحددة لكل رؤية فكرية ثقافية أو لكل ممارسة نقدية ديمقراطية . وعلى ضوء ذلك ، فإننا نتفق تماماً مع جرامشي –كمفكر رائد- الذي ميز بين نوعين من المثقف وهما : المثقف العضوي، والمثقف التقليدي . فالمثقف العضوي (أو الحزب بالمعنى الجمعي) عند "جرامشي" هو الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المٌشَكّلة من العمال والفلاحين الفقراء ، وهذا ما أدركه غسان ورفاقه في الجبهة منذ تأسيسها ، أما المثقف التقليدي فهو الذي يوظف أدواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الطبقة أو الكتلة التاريخية السائدة منذ (العبودية والإقطاعية) أو عصر البرجوازية كما في البلدان الرأسمالية الحديثة، أو في البلدان التابعة والمتخلفة حيث يحتدم الصراع على السلطة والمصالح ، بين جناحي البورجوازية الرئيسيين ، وكلاهما يحمل نفس المواصفات والسمات الجوهرية التي تؤكد على تبعية وتخلف ورثاثة هذه البورجوازية في بلادنا ، ولذلك فإن الصراع القائم بين هذين الجناحين ليس جوهريا او نقيضا للرأسمالية او النظام الامبريالي ، بل هو صراع شكلي بين الجناح الليبرالي الرث –في السلطة والانظمة الحاكمة- المتواطئ والخاضع للشروط الامريكية ، وبين الجناح الآخر المحمول برؤية تراثية دينية نقيضه لليبرالية والديمقراطية دون ان تشكل خطرا او نقيضا لجوهر النظام الرأسمالي وحرية السوق والتجارة او الاقتصاد الحر كما هو الحال في بلادنا في إطار الصراع على السلطة والمصالح بين فتح وحماس ضمن هويتين متناقضتين وبرنامجين متناقضين من حيث الشكل ، لكنهما من حيث الجوهر ليس هناك ثمة تناقض أساسي مع النظام الرأسمالي العالمي وأدواته في بلادنا ، ويبدو أن السبب في ذلك يعود بدرجة أساسية إلى التفكك البنيوي الداخلي للحركة الوطنية عموما ولأحزاب وفصائل اليسار خصوصا التي تعيش اليوم حالة من غياب الدافعية الذاتية وغياب الوعي بالواقع وبالنظرية الثورية من ناحية وعجز وفشل هذه الفصائل والأحزاب بسبب أزماتها الفكرية والتنظيمية والقيادية وضحالة الوعي في صفوف كوادرها وقواعدها من ناحية ثانية، الأمر الذي أدى إلى تراكم متغيرات طبقية وانتهازية معاً في صفوفها ، وإلى الإسهام في تكريس التبعية والتخلف والفساد السياسي الاقتصادي والإداري الذي خلق بدوره – في ظل تراجع قوى اليسار - مناخاً ملائماً لاتساع وتضخم دور تيارات الإسلام السياسي في معظم بلدان الوطن العربي. ولذلك نرى أن أعمال غسان كنفاني تضمنت رؤية استشرافية وواقعية استدعت التحريض على هذا الواقع المأزوم بمثل دعوتها الصريحة إلى المقاومة ، فهي رؤية ثورية مختلفة عن تلك التي تضمنتها العديد من أعمال الروائيين العرب الذين نقدر دورهم في تشخيص الواقع الاجتماعي دون الدعوة الصريحة إلى التغيير والثورة كما هو الحال عند محمود تيمور وتوفيق الحكيم و نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله على سبيل المثال ، ذلك إن روايات غسان كانت مسكونة بروح التحريض والتغيير الثوري، وهي بالتالي تقاطعت مع روائيين تقدميين من أمثال حنا مينا وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس ويوسف القعيد وعبد الرحمن منيف وحيدر حيدر وإلياس خوري بناحيتين أساسيتين : هناك أولاً وحدة المعاناة الشخصية والوطنية والمجتمعية بحيث نشهد كما يقول – حليم بركات- توجهاً نحو الدمج بين هوية الفرد وهوية المجتمع ، فتصبح الأماني والأزمات والانتصارات والهزائم والآلام والأفراح واحدة ، لان قضية المجتمع هي قضية الإنسان، والعكس صحيح ، فيصبح خلاص الأول هو خلاص الآخر، وهنا بالضبط تأثر غسان بالثورة كما عبرت عنها مبادئ الجب.هة الشعب..ية وقبلها حركة القوميين العرب ، وكان إبداعه الأدبي نتاجاً لذلك التأثير . وهناك ثانياً : مسألة المشاركة الفعلية والخوض في المعارك الوطنية الحقيقية التي يعيشها الشعب إلى جانب المعارك التي يعيشها المجتمع ، مما يؤدي لحصول تحول في المضمون وليس في الأسلوب فحسب، وفي مثل هذه الحالة تنبثق الأفكار والمشاعر من صميم الواقع المعيش ، وليس من مفاهيم مجردة، فقد شدد غسان في دراسته " العمل الفدائي ومأزقه الراهن عام 1970 " على ضرورة الترابط العضوي بين النظرية والممارسة والتنظيم وبين البعد القومي والبعد الطبقي، وكل منهما مسألة محورية ، كما انتقد التنظيمات الفلسطينية قائلاً – بحق - بأنها " أضحت بعد سنوات قليلة من نشوئها مكتبية بيروقراطية". من هذه الناحية ، تشترك رواية التغيير الثوري –لدى غسان- مع رواية التمرد الفردي برفضها الثقافة السائدة وبتشديدها على أهمية الإبداع الفني في الكتابة الروائية. غير انها تختلف في الوقت ذاته عن رواية التمرد الفردي بالتشديد على القضايا السياسية والخلاص المجتمعي والوقوف إلى جانب الطبقات المسحوقة ، ما يعني أن الدعوة للنفير الثوري عنده ، انطلقت من اهتماماته الذاتية التي توحدت مع رؤية الجب..هة الشع..بية السياسية التحررية ، الوطنية والقومية من ناحية والاجتماعية الطبقية من ناحية ثانية . فقد تناول غسان الواقع الفلسطيني ، بمختلف جوانبه وتناقضاته وتعقيداته ، والتزام في نصوصه الروائية بتشخيص وتفكيك معظم جوانب المعاناة السياسية، والاجتماعية ، والإنسانية، للفلسطيني، دونما أن يشكل ذلك الالتزام الجبهاوي لديه قيداً على حريته الإبداعية وتعامله النقدي والتحريضي للواقع حيث اتخذت مضامين رواياته أشكالاً وصوراً جديدة وفريدة عكست مخيلته التي جسدت فنياً مبادئه السياسية التي عاش واستشهد في سبيلها . هكذا كانت رواياته صورة خلاقة عن قراره الذاتي ربط مصيره الشخصي –بشكل مباشر وغير مباشر - بمصير شعبه كتابة وعملاً ، فتوحدت معاناة شعبه بمعاناته الخاصة، وتمثل في صوته ، صوت الفلسطينيين المقتلعين – المنفيين – المسحوقين – المكافحين . لقد تمثل في صوت القائد الشهيد غسان خاصة ، صوت الجماهير الذين دفعوا غالياً ثمن الهزائم بحياتهم قبل ممتلكاتهم القليلة، وليس غريباً ، إذاً ، أن نكتشف في كتاباته المكونات المغفلة في المعاناة الفلسطينية، ففي روايته "رجال في الشمس" يظهر بشكل فريد كيف ان الفلسطيني مهدد في صلب حياته بالموت من دون أن يسمع له صوت مهما دق ناقوس الخطر، لأنه مقتلع وبلا وطن لا يستطيع أن يكون عزيزاً في أي بلد آخر ، حتى ولو كان بلداً عربياً ، بل خاصة في البلدان العربية في ظل الأنظمة السائدة بما فيها النظام الفلسطيني نفسه . وبعد حوالي عامين على هزيمة حزيران 1967 ، ينشر غسان روايته " أم سعد" التي يحرض فيها الفلسطيني مجدداً على التحرر الذاتي الداخلي بما يمكنه من التحرر من السجن الكبير الذي فرضه النظام العربي على الفلسطينيين بعد النكبة ، ففي هذه الرواية نلاحظ وعي غسان لحياته بأنها سجن في حد ذاتها ، فيتساءل : " أتحسب أننا لا نعيش في الحبس ؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب ؟ الحبوس أنواع .. المخيم حبس ، وبيتك حبس ، والجريدة حبس والراديو حبس .. أعمارنا حبس ، والعشرون سنة الماضية حبس ... أنت نفسك حبس ...إن بداية مثل هذا الوعي هي بداية الدعوة من أجل التغيير الثوري، في ضوء إدراك الفلسطيني "أن التخلص من الوحل في المخيم لا يكون بجرفه كلما هطل المطر ، بل بسد مزراب السماء، ذلك أن الاكتفاء بجرف الوحل هو تكيف مع الواقع التعس وتصرف خضوعي انسجامي ، أما سد مزراب السماء فتحول راديكالي باتجاه التعامل مع مصادر المشكلة التي لا تحل من دون تغيير الواقع الذي نشأت عنه . إن أعمال غسان كنفاني ورواياته التي حرصت على إعادة صياغة الواقع ، لم تكن مجرد عمل فني قائم بذاته، أو انعكاس للبنية الاجتماعية والنشاطات والقيم والمعتقدات فحسب، بل هي أيضاً نتاج فني فريد لعملية الدمج الخلاق بين إبداعه والتزامه وانتمائه الحزبي للجبهة حيث تجلى هنا المعنى الثوري لمفهوم الالتزام في الرواية الأدبية كما هو حال غسان في كتاباته السياسية الأخرى ، حيث استطاع أن يكيف موهبته وإبداعه الذاتي مع قناعاته الثورية كما عبرت عنها وجسدتها الجب..هة الشع..بية، فجاءت رواياته تعبيراً عن مكنوناته الإبداعية التي حملت في نصوصها خطاباً متنوع المضامين والمفاهيم الثورية والتحريض المتفاعلة مع معاناة شعبه والتي شكلت في نفس الوقت "نوعاً من التنفيس أو التطهر الذاتي والمعرفي العام". إن الرواية كعمل فني أدبي -عن غسان وغيره من رواد الأدب المفهوم- لا تعترف بتجزئة المعرفة والفصل بين الفن والفلسفة والعلم. انها منظور معرفي ثوري يقوم على البحث في طبيعة المجتمع والإنسان كبقية الاختصاصات المعرفية، فلا تقل عن العلم والفلسفة دقة وعمقاً واكتناهاً لأسرار الحياة وأقانيمها . لكن غسان – كما هو حال الروائيين العرب التقدميين الثوريين – كان مدركاً لسمات وتعقيدات المجتمع العربي المعاصر من حيث تخلفه وتبعيته وعجزه عن مواجهة تحديات تاريخية مهمة ، فهو مجتمع محكوم لأنظمة طبقية لا هم لها سوى مصالحها المتماهية مع مصالح المشروع الإمبريالي بما يجعل من الشرائح الاجتماعية الفقيرة حائرة بين الخوف والقلق واليأس والاستسلام أو التمرد والثورة ، من هنا كانت روايات غسان نوعاً من تحدي مظاهر القلق واليأس ، محرضة على التغيير والثورة ، وفي هذه النقطة بالذات تتجلى الدلالات الثورية لرواياته التي كانت وما زالت – بمثابة بيانات ثورية إبداعية تداولها قراءه من المثقفين والجمهور عموماً ورفاقه خصوصاً في حياته بمثل احرازهم على الاحتفاء بها وبه كل عام بعد استشهاده . فبمثل ما حملت رواياته روحاً نقدية وتحريضية على الواقع المعاش ، فقد التحمت عبر نصوصها – بصورة مباشرة أو غير مباشرة- مع روح مبادئ ووثائق حزبه الثوري .. الجب..هة الشع..بية لتح..رير فلسطين ، في إطار التحديات والأحداث التاريخية التي مر بها والتي أدت إلى ولادة روايات غسان وأدب وشعر المقاومة، شعبنا الذي انشغل بموضوعات وقضايا الثورة والتحرر والتحرير والصراع الطبقي والتمرد ، كانت بالنسبة لغسان كنفاني نوعاً من العلاقة الجدلية الرائعة بين أيديولوجيا الجبهة وهويتها الماركسية القومية من ناحية وبين تحديات الواقع بكل مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية من ناحية ثانية، ولم يكن ذلك غريباً على الروائي المناضل الحزبي غسان ، فلم يكن بإمكانه ان يكون جزءاً من هذه الصورة الاجتماعية المحكومة بالمعاناة والظلم والتشرد دون أن يهتم ومن ثم يلتزم جبهاوياً بقضية التحول الثوري وانحيازه الواضح إلى جانب المضطهدين وكل الكادحين الفقراء من أبناء شعبه ليس ضد العدو الصهيوني أو ضد القوى الرجعية الحاكمة فحسب، بل أيضاً ضد الثقافة الرجعية الرخيصة السائدة وضد التيارات التقليدية السلفية ، مؤكداً بذلك انحيازه الواعي مع ثقافة التنوير والحداثة والعقلانية والثورة على كل مظاهر التبعية والتخلف . وهو ما يجعلنا نؤكد أن غسان أسهم في الثورة عبر التحاقه بالجبهة ، بمثل ما أسهمت الجبهة ومفاهيمها ومبادئها الثورية في تحويله وبلورة اهتماماته بحيث كان هذا الإسهام جزءاً لا يتجزأ من موهبته الذاتية، وقد كان لهذين العنصرين: موهبته الخلاقة أولاً وانتماؤه لحركة القوميين العرب ثم الجب..هة الشعب..ية ثانياً، الفضل الأكبر في ان يصبح غسان مبدعاً متميزاً وكبيراً ، مشغولاً وملتزماً بقضايا شعبه وأمته وفق رؤية ثورية تحررية ونهضوية ، فلم يكن روائياً توفيقاً أو خاضعاً لهذه السلطة أو تلك ، بل كان روائياً محرضاً على التغيير والثورة، والخلاص من أشكال الاضطهاد والظلم الوطني والطبقي . وفي هذا الجانب ، يجدر بنا أن نميز بين مصدرين من مصادر رواية التغيير الثوري، وإن كان من الصعب الفصل بينهما ، فيتمثل المصدر الأول بأعمال روائية تنطلق في الأساس من منظور نفدي اجتماعي إنساني وحس حدسي فني إبداعي ، ويتمثل المصدر الثاني بالانطلاق من مواقف أيديولوجية ، وقد يجتمع المصدران معاً في تلاحم عضوي. وأشير بالروايات الثورية إلى تلك الأعمال التي كتبها يوسف إدريس وعبد الرحمن منيف وغسان كنفاني وإميل حبيبي وإدوار الخراط وصنع الله إبراهيم ولطيفة الزيات وعبد الرحمن الشرقاوي ورضوى عاشور ورشيد بوجدرة والطاهر وطار ومحمد برادة وإلياس خوري وحيدر حيدر وبهاء طاهر وهاني الراهب . إن تجربتنا مع العدو الإسرائيلي أكدت بوضوح رفضه لإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة ، وليست في جدول أعماله كما هو الحال بالنسبة لحق العودة ، ولا معنى لكل النضال بدون حق العودة. وفي هذا السياق يقول الروائي الياس خوري " إذا حللنا عملية التسوية منذ مدريد حتى الآن ؛ نكتشف أن الإسرائيليين لا يريدون تسوية بل استسلاماً كما نلحظ بوضوح شروطهم ومواقفهم واهدافهم العنصرية النازيه المدعومة امريكيا في ما يسمى بالتفاوض من أجل صفقة سياسية لوقف الحرب على قطاع غزة ، حيث تبين للجميع ان تلك الأهداف تستهدف المزيد من تدمير بنيان قطاع غزة والضفة ومزيد من القتل والحصار والتجويع تمهيدا لتنفيذ مخططهم لتهجير ابناء شعبنا. إن الشعب الفلسطيني هو اليوم أمام امتحان نهاية مرحلة كاملة من تاريخه ، أي انه أمام امتحان بداية جديدة ، كما يقول الياس خوري ، لكن البداية "هذه المرة لن تكون في فراغ ، فلقد سال دم كثير وحبر كثير، ومن مزيج الدم والحبر ولدت حكاية رسمت صورة وتشكلت هوية" ، هي الهوية الوطنية في وحدتها مع هويتها القومية العربية .. ذلك هو المستقبل ولا شيء سواه . لذلك لا بد من استعادة البعد القومي ليصبح النواة المحركة للنضال الفلسطيني ، بالقطيعة عن "القرار الوطني المستقل" وعبر استعادة روح ونصوص الميثاق القومي الذي تأسست م.ت.ف بموجبه عام 1964 ليكون المحدد الأول في بنيتها يحررها من نتائج وآثار الاعتراف بدولة العدو ، ومن الخضوع للهبوط السياسي الذي يرى اصحابه في جدول الأعمال الأمريكي الإسرائيلي مخرجهم الوحيد . فإذا ما تأملنا مسيرتنا الوطنية من أجل التحرير والحرية والعودة نكتشف أننا نسينا أو تناسينا في غمرة تفاؤلنا، التوقف أمام قضايا أساسية : ما هي طبيعة الكيان الصهيوني الذي نحاربه ؟ ما هو دور ووظيفة هذا الكيان في إعاقة تحرر واستنهاض ووحدة شعوب الأمة العربية ؟ وما هي العلاقة بين الكفاح المسلح والعمل السياسي ، وهل يتكاملان ويتفاعلان ، أم أن لكل منهما قناة منعزلة عن الأخرى، ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولا عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني ... باختصار نستذكر كلمات الشهيد غسان ومأثوراته وانتاجه الادبي والسياسي . فعلى الرغم من استشهاد رفيقنا غسان عن عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين ، فقد ترك لرفاقه وأبناء شعبه وأمته العربية عموماً والفقراء والكادحين خصوصاً، أضعاف ما تستوعبه تلك السنين القليلة، عبر مشاعل مضيئة ما زالت تغوص في معانيها مشاعر المناضلين، وعقول وأقلام المثقفين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف العضوي المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع هالته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه رفاقه في الجب..هة الشعب..ية الموزعين على مساحة الوطن الفلسطيني كما في الشتات والمنافي وفي كل أرجاء هذا الكوكب ، يناضلون اليوم من أجل تحقيق الأهداف الوطنية والقومية ، التحررية والديمقراطية ، دون القفز عن المتغيرات التي أصابت القضية والمنطقة منذ استشهاده إلى اليوم . في ذكراه الثالثة والخمسون ، ربما نسأل أنفسنا ، ترى لماذا لا زال يُكتَب حتى اليوم عن غسان كنفاني وكأنه اغتيل أمس أو كان أدبه كتب قبل لحظة، والجواب بسيط ، غسان كنفاني مبدع متعدد الأوجه والدلالات والأفكار وعمق الرؤية ، فمع كل مرة تقرؤه تكتشف جديداً، كلما رأيته اكتشفت في وجهه ملامح جديدة ، المؤسف أننا نستطيع الزعم بان العدو اكتشف مواهب الرجل قبل أن يكتشفها كثير من الفلسطينيين والعرب، فحسم أمره في حين لا زال البعض في الساحة الثقافية الفلسطينية والعربية غير منتبه إلى ذلك الكائن السري الساكن بين حروف كنفاني . اغتاله الأعداء لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في سلاح الوعي بالنظرية الثورية والواقع وفي صيرورة بناء الحزب الثوري – الجبهة – ضمانة رئيسية ووحيدة للمقاومة بكل أشكالها. لقد كان ثوريا من حيث هو كاتب ثوري ، كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب ، كان ممتلئا بحيوية نادرة ، كان مسكوناً بكهرباء لا تنضب –كما يقول محمود درويش- . ولم يترك لنشاطه الواعي مجالاً واحداً للراحة ، كان يجدد وقوده الإبداعي بتبذير قواه، كان يتزود بالطاقة تلقائياً ، فهل كان هاجس الموت يستدرجه لصب طاقاته في وقت قصير ؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية – البداية دافعاً لتناول كل أشكال التعبير من قصة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث ونقد، ليسجل دمه على أصابعنا وذاكرتنا ؟ وهل كان يسبق الموت إلى الحياة في الكتابة ؟ ربما ، وربما كان هذا السياق أحد أجمل تجليات "الأنانية " الخلاقة والتفاني في آن واحد . كان أكثر من كاتب .. لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف ( للتمييز ) بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا : كان كاتباً ومناضلاً. ليس الأمر في مثل هذا التفصيل فقد كان غسان كنفاني كاتباً مناضلاً . كثيراً ما يجابه الكاتب الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام : هل أنت كاتب أم مناضل؟ وقد بقي غسان كنفاني مطارداً بهذا السؤال إلى أن بلغ الشهادة ، فهزم السؤال وانتصرت كتابة غسان . هذا هو غسان الذي لم يكن مبدعاً أو روائياً فحسب بل كان مناضلاً وكاتباً سياسياً ملتزماً بأهداف ورسالة الحزب والجبهة واستشهد في سبيلها.
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حاجة المثقف العربي إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة
-
كيف يمكن للعرب أن يبحروا في خضم المجتمع العالمي الزاخر بالتغ
...
-
في حضرة ليلى خالد
-
لماذا أخفقنا كيساريين ماركسيين في الوطن العربي ونجح غيرنا ؟
...
-
بمناسبة الأول من أيار 2025: رؤية وموقف معزز بالبيانات والأرق
...
-
غزة المنكوبة بالقصف والموت والجوع والمرض تستغيث وتستجير باخو
...
-
وجهة نظر حول استمرار انسداد الوحدة القومية في الوطن العربي
-
عن الهوية القومية العربية وفق المضمون الحداثي كشرط لتفاعل ال
...
-
غزة لم تعد قادرة على صراخ الاستغاثة امام القصف والتجويع ومحا
...
-
في الذكرى التاسعة والاربعين ليوم الأرض
-
من وحي العدوان الهمجي على قطاع غزة ... رؤية استراتيجية حاملة
...
-
باختصار، عن العلاقة بين التخلف المعرفي والتخلف الاجتماعي.
-
تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل
-
نحو تشكيل حكومة توافق وطني أو حكومة وحدة وطنية
-
ما هي المعرفة ، وما هو دور الممارسة في عملية المعرفة وأساسها
...
-
وجهة نظر وموقف حامل لدعوة عاجلة لعقد مؤتمر وطني
-
اليهود ليسوا شعبا وليسوا أمة
-
عام 2024 كان عاما حاملا لكل أشكال القتل والارهاب والموت ودمو
...
-
اسباب عجز الفكر العربي المعاصر عن التطور الفلسفي وسبل النهوض
...
-
خاطرة عن أحزاب وفصائل اليسار في بلداننا
المزيد.....
-
تحليل: هل تؤثر كلمات ترامب على تصرفات بوتين وما يقوم به في أ
...
-
فساتين تُجسّد الملكية في عرض إيلي صعب الباريسي
-
سيُمنعون من المغادرة.. وزير دفاع إسرائيل يطلب تجهيز -مدينة إ
...
-
صور أقمار صناعية تكشف: الهجوم الإيران على قاعدة العديد بقطر
...
-
من السجن إلى قيادة فصيل مسلح مناهض لحركة حماس في غزة.. ماذا
...
-
-حرمان الأطفال من الجنسية ضرر لا يُصلح-: قاضٍ فدرالي يجمّد ق
...
-
ما الذي فعلته -غارة إسرائيلية- بـ 8 أطفال في دير البلح؟
-
تدابير أوروبية للضغط على إسرائيل حال فشل اتفاق المساعدات
-
البوسنة و الهرسك: ثلاثون عاماً مرت.. مجزرة سريبرينيتسا لا تز
...
-
ما صفات الإله مردوخ؟ في العراق، فك لغز نشيد بابل القديم بفضل
...
المزيد.....
-
ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ
...
/ غازي الصوراني
-
1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت
...
/ كمال احمد هماش
-
في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية
/ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
-
الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها
/ محمود خلف
-
الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها
/ فتحي الكليب
-
سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية
...
/ سمير أبو مدللة
-
تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل
/ غازي الصوراني
-
حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية
/ فتحي كليب و محمود خلف
-
اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني
/ غازي الصوراني
-
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|