قاسم محمد داود
كاتب
(Qasim Mohamed Dawod)
الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 16:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في قلب صراعات الشرق الأوسط، تتقاطع مشروعات إقليمية كبرى تتجاوز حدود الدول، أبرزها المشروع الإيراني والمشروع الصهيوني. ورغم تعارض أهدافهما المباشرة، إلا أن كليهما يسعى لترسيخ نفوذه على حساب الفراغ العربي، مستفيداً من الانقسامات، وغياب مشروع عربي موحد. ففي دهاليز السياسة المعقدة بالشرق الأوسط، تتشابك خيوط المصالح وتتضارب الأجندات. وبينما القوى الإقليمية على النفوذ، يجد العرب أنفسهم غالبًا بين مطرقة المشروعين الطموحين، ويبدو أن كلاً منهما يسعى لتحقيق أهدافه على حساب استقرار وازدهار المنطقة العربية.
المشروع الصهيوني يقوم على تأمين تفوق إسرائيل العسكري والاقتصادي في بيئة إقليمية تتصارع تعتبرها معادية أو غير مستقرة. ومن أدواته تطبيع العلاقات مع دول عربية، وتهميش القضية الفلسطينية، وإضعاف الجبهات المجاورة التي كانت تمثل تهديداً مباشراً. كما تحرص الدولة الصهيونية على بناء تحالفات أمنية مع دول تخشى من النفوذ الإيراني، ما يخلق محوراً مضاداً لطهران لكنه لا يخدم بالضرورة المصلحة العربية العامة.
المشروع الصهيوني: الأمن أولاً والتوسع مستمر.
ترتكز الاستراتيجية الإسرائيلية على ضمان أمنها القومي وتفوقها العسكري، ولكنها لا تخلو من أبعاد تتجاوز ذلك:
التفوق العسكري المطلق: تضع الدولة الصهيونية الحفاظ على تفوقها العسكري النوعي والكمي على دول المنطقة في صدارة أولوياتها، مع تنفيذ عمليات استباقية ضد أي تهديد يُحتمل أن يمس أمنها.
التوسع والاستيطان: تتبنى تيارات قوية داخل الدولة الصهيونية، لا سيما في اليمين المتطرف، أيديولوجية "أرض إسرائيل الكاملة"، والتي تدعم الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتؤثر على ترسيم الحدود المستقبلية، مما يقضم المزيد من الأراضي العربية.
تطبيع العلاقات لكسر العزلة: تسعى الدولة الصهيونية جاهدة لكسر عزلتها الإقليمية من خلال تطبيع العلاقات مع الدول العربية. ولا يهدف ذلك فقط إلى تحقيق مكاسب اقتصادية ودبلوماسية، بل أيضًا لبناء تحالفات إقليمية لمواجهة التهديدات المشتركة، وفي مقدمتها إيران.
تهميش القضية الفلسطينية: تسعى الاستراتيجية الصهيونية إلى إضعاف المقاومة الفلسطينية، وتقليص أهمية القضية الفلسطينية على الأجندتين الإقليمية والدولية، لضمان السيطرة الكاملة على الأراضي المحتلة.
الثمن العربي: تستمر دولة الاحتلال الصهيوني في احتلال الأراضي العربية وتهجير سكانها، مما يؤجج الصراعات ويزيد من عدم الاستقرار. كما أن سياسات دولة الاحتلال تجاه القضية الفلسطينية تواصل استنزاف طاقات المنطقة وتحويل الموارد التي يمكن أن تُوظف للتنمية إلى جهود الدفاع والصراع. علاوة على ذلك، قد تستغل الدولة الصهيونية الخلافات العربية لمزيد من التغلغل وتقسيم الصف العربي، مما يضعف موقف العرب ككل في قضاياهم المصيرية.
أما المشروع الإيراني، فيرتكز على بناء ما يُعرف بـ"الهلال الشيعي"، من طهران إلى بيروت، عبر تمكين جماعات مسلحة وكيانات موازية للدولة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تستغل إيران هشاشة الأنظمة والانقسامات الطائفية لفرض نفوذها، وتُحوّل قضايا العرب، مثل فلسطين، إلى أوراق ضغط تفاوضية في صراعاتها مع الغرب وإسرائيل. صرح مسؤولون إيرانيون بارزون مثل علي يونس (مستشار الرئيس الإيراني الأسبق) بإن إيران "أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ"، ووصف بغداد بإنها "عاصمة الإمبراطورية الإيرانية الحديثة" كما أعلن وزير الدفاع الإيراني الأسبق حسين دهقان أن العراق "أصبح جزءاً من الإمبراطورية الفارسية ولن يعود إلى المحيط العربي". كما يلاحظ أن الخطاب الرسمي الإيراني يدمج بين الهوية الشيعية والقومية الفارسية، حيث تستخدم المذهبية كغطاء للتوسع القومي.
المشروع الإيراني: تصدير الثورة وتوسيع النفوذ
منذ الثورة الإسلامية عام 1979، تبنت إيران استراتيجية واضحة المعالم تهدف إلى ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية مهيمنة. لا يقتصر "المشروع الإيراني" على الحفاظ على أمنها القومي، بل يتجاوز ذلك إلى:
تصدير الأيديولوجيا وبناء المحاور: عبر دعم وتمويل جماعات مسلحة غير حكومية ووكلاء في دول عربية كـ"حزب الله" في لبنان، و"الحوثيين" في اليمن، وفصائل الحشد الشعبي في العراق، ودعم نظام الأسد في سوريا قبل سقوطه. الهدف الواضح هو بناء "محور مقاومة" يمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، ويمنح إيران نفوذًا سياسيًا وعسكريًا واسعًا. تنشر إيران التشيع عبر مراكز ثقافية ومدارس وجمعيات خيرية في دول مثل العراق وسوريا ولبنان وأفريقيا بهدف كسب الولاءات وخلق مجتمعات موالية. وتستثمر إيران في مشاريع بنية تحتية واتفاقيات تجارية لتعزيز نفوذها. تستند إيران إلى تاريخ الإمبراطوريتين الفارسية القديمة (الساسانية والأخمينية) لتبرير مطامعها التوسعية. على سبيل المثال تظهر خرائط في متاحف إيرانية حدود الإمبراطورية القديمة التي شملت العراق وسوريا ومصر.
القوة النووية والصاروخية: تُعد برامج إيران النووية والصاروخية الباليستية حجر الزاوية في استراتيجيتها الرامية لفرض هيمنتها الإقليمية، وتوفير قوة ردع في وجه أي خصوم.
التحكم في الممرات الحيوية: تسعى إيران لتعزيز سيطرتها على الممرات المائية الاستراتيجية كمضيق هرمز، عاملاً محورياً مما يمنحها ورقة ضغط قوية على حركة التجارة العالمية للنفط.
الثمن العربي: تُترجم هذه الأجندة الإيرانية إلى زعزعة استقرار الدول العربية عبر التدخلات السافرة والصراعات بالوكالة التي تستنزف الموارد وتغذي الانقسامات الطائفية. فمن اليمن المنكوب إلى العراق ولبنان وسوريا التي تعاني من الانهيار، يجد العرب أنفسهم وقودًا لصراعات لا تنتهي، وميدانًا لتحقيق أهداف إقليمية بعيدة عن مصالح شعوبهم. ينظر إلى المشروع الإيراني كجزء من صراع أوسع مع القوى الإقليمية (مثل تركيا وإسرائيل) والدولية (الولايات المتحدة). بعض التحليلات تشير إلى أن إيران تستغل الفراغات السياسية في المنطق، كما حدث بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
وبالمحصلة النهائية لما سبق فإن المشروع الإيراني يبدو مزيجاً من القومية الفارسية والمذهبية الشيعية مع تركيز واضح على إعادة رسم النفوذ الإقليمي رغم إن الجانب الديني يستخدم كأداة، في الجوهر يبقى قومياً توسعياً مدعوماً بأدوات عسكرية ودعائية. ومع ذلك فإن نجاح هذا المشروع يعتمد على موازين الإقليمية والدولية المتغيرة.
النتيجة واحدة: تمدد على حساب السيادة العربية، وتفكك للدولة الوطنية، وتغذية للصراعات الطائفية والمذهبية. وبين هذين المشروعين، يقف العالم العربي عاجزاً، ممزقاً، تائهاً بين احتواء خطر هنا ومهادنة نفوذ هناك، دون امتلاك مشروعه الإقليمي الخاص. إن لم يستفق العرب من غفوتهم السياسية، فسيظلّون مجرد ساحة لتصفية الحسابات، لا طرفاً فاعلاً في تحديد مستقبلهم.
هل يدفع العرب ثمن مشاريع الآخرين؟
بين مطرقة المشروع الإيراني وسندان المشروع الصهيوني، يجد العرب أنفسهم غالبًا ساحة للصراعات بالوكالة أو أهدافًا لسياسات توسعية لا تخدم مصالحهم. فكلا المشروعين، وإن كانا يتصارعان فيما بينهما، إلا أن آثارهما غالبًا ما تصب في تعميق الانقسامات العربية، واستنزاف الموارد، وزعزعة الاستقرار.
يبقى السؤال مطروحًا: متى يتمكن العرب من تجاوز هذه الدوامة، وصياغة مشروعهم الخاص الذي يركز على التنمية والاستقرار، بعيدًا عن أثمان مشاريع الهيمنة الإقليمية؟
في مواجهة المشاريع الإقليمية: ماذا على العرب أن يفعلوا؟
بين مشروعين متصارعين على أرضهم— المشروع الإيراني القومي المذهبي والمشروع الصهيوني التوسعي— يجد العرب أنفسهم في موقع المتلقي، لا الفاعل. فكلا الطرفين يسعى لترسيخ نفوذه على حساب ضعف الدولة العربية، مستغلاً الانقسامات والفراغ الاستراتيجي.
في ظل هذا الواقع، لم يعد الاكتفاء بالمواقف الإعلامية كافياً. ما يحتاجه العرب هو مشروع نهوض حقيقي، يبدأ أولاً بإعادة بناء الدولة الوطنية على أساس المواطنة، وسيادة القانون، والمؤسسات القوية التي تُغلق الأبواب أمام التدخلات الخارجية.
ثانياً، على العرب أن يتحركوا نحو صياغة مشروع عربي مشترك، لا يقوم بالضرورة على الوحدة الكاملة، بل على تنسيق المصالح والمواقف في القضايا الإقليمية الكبرى، وفي مقدمتها فلسطين والأمن القومي. فغياب هذا المشروع هو ما يفتح الطريق أمام مشاريع الآخرين.
ثالثاً، يجب أن تتحرر السياسات العربية من منطق المحاور والارتهان للخارج. لا ينبغي للعرب أن يكونوا أدوات بيد إيران أو إسرائيل أو أي قوة أخرى، بل شركاء في رسم مستقبلهم من موقع السيادة لا التبعية.
رابعاً، الاستثمار في القوة الذاتية هو السبيل للاستقلال الحقيقي: اقتصادياً، من خلال بناء تكتلات عربية فعالة؛ وعلمياً، بتطوير التعليم والبحث؛ وإعلامياً، بمواجهة خطاب التحريض والانقسام.
وأخيراً، لا بد من استعادة القضية الفلسطينية من المزايدات الإقليمية، وتبنيها كقضية تحرر وكرامة عربية، لا ورقة تفاوض بيد أطراف غير عربية.
إن اللحظة الراهنة تفرض على العرب إما أن يصيغوا مشروعهم، أو أن يستمروا كأرض مفتوحة لمشاريع الآخرين.
#قاسم_محمد_داود (هاشتاغ)
Qasim_Mohamed_Dawod#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟