محمد حسين الداغستاني
صحفي وشاعر وناقد
الحوار المتمدن-العدد: 8390 - 2025 / 7 / 1 - 15:40
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إستقطبت سيرة ومحاكمة اللواء الركن غازي الداغستاني من قبل محكمة الشعب (المهداوي) بعد سقوط الحكم الملكي في العراق في الرابع عشر من تموز في العام 1958 م بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم في سوريا ، جدلاً شعبياً وإقليمياً واسعاً في حينه بسبب نزاهته ومهنيته والمكانة التي كان يشغلها في نفوس ضباط الجيش العراقي آنذاك . فقد شغل عدة مناصب عسكرية مهمة في وزارة الدفاع . وعين في منصب مدير الاشغال العسكرية في العام 1945 ، وفي العام ١٩٤٨ ورئيس ركنٍ للقيادة العراقية في فلسطين في العام 1948 م ، وفي العام ١٩٥٢ عين ملحقاً عسكرياً في السفارة العراقية في لندن ثم عين مديراً للحركات العسكرية وشغل منصب رئيس اركان الجيش. وفي العام ١٩٥٧ عين قائداً للفرقة الثالثة وبقي فيها حتى تموز 1958 . واثناء خدمته العسكرية منح عدة أوسمة كما كانت لسمعة عائلته وشهامة ونخوة والده الفريق الأول الركن محمد فاضل باشا الداغستاني الاثر البالغ في حضوره البارز في المجتمع البغدادي على وجه الخصوص ، فقد كان والده مفتشاً عاماً للجيش العثماني في البلاد العربية ثم عهد إليه بولاية بغداد وكالة ثم ولاية الموصل ومفتشاً عاماً لفيلق العراق وأسس أول حزب سياسي في العراق بإسم (حزب الشورى) في العام 1909 م كما وقاد قوات العشائر العراقية ضد الاحتلال البريطاني للعراق بقيادة (تاونسند) الذي اضطر الى التوقف عن زحفه نحو بغداد واعلانه الانسحاب أمام الداغستاني بعد ان فقد ثلث افراد قواته المحتلة ، إلاَ انه إستشهد في المعركة بموقعة (كوت العمارة) في 12 مارس من العام 1916 ودفن في بغداد وقد رافق جثمانه الى مثواه الالاف من القادة والعسكريين وعامة الشعب .
لقد تناول العديد من المؤرخين والكتاب شخصية غازي الداغستاني ومدى عدالة المحاكمة التي جرت له ، ومن ابرز من كتب عنه وذكره في يومياته قاضي القضاة محمود خالص أمين في العام 1899 ورئيس محكمة التمييز في العراق فيما بعد ، وهو أعلى منصب قضائي في العراق أيامها ، وكان من واجباته تعيين الحكام (القضاة ) والإشراف على أعمالهم ، و كان من أنزه واعدل رؤساء محكمة تمييز العراق . اشتهر بالجرأة والشجاعة والعدل في الحكم ، وقد سببت له اتجاهاته الدقيقة في العمل مشكلات كثيرة كان آخرها مع رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم الذي صادق على إحالته الى التقاعد ولم يصادق على إعارته إلى ليبيا للعمل فيها رئيساً للهيئة القضائية لمواقفه الصلبة في تعزيز استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية وكان هذا سبباً في تنحيته عن 1899 م .
لقد كان المرحوم محمود خالص حريصاً على تسجيل وتدوين يومياته الشخصية بخط يده على مدى ستين عاماً بدأ بها منذ العام 1920 حتى العام 1980 م وقد بادر نجله الدكتور وليد محمود خالص الى جمعها وأشرف على طبعها في جزءين كبيرين تألفا من 1584 صفحة وصدرا تحت عنوان (ذاكرة الورق) من المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت في العام 2010 م . وكانت سجلاً حافلاً لتوثيق الأحداث والوقائع التي عاشها والده في خضم أجندات السياسة والأدب والصداقات ووإبراز مصائر الناس وسلوكهم خلال تلك السنوات الحافلة التي عاصرها ومنها محاكمة غازي الداغستاني وصدور الحكم عليه ووفاته وإنطباعاته عن هذه الشخصية البارزة في التأريخ العراقي الحديث .
محاكمة رموز الحكم الملكي
ففي يومياته ليوم الاثنين ۱۱/ 10/ 1958 كتب القاضي محمود خالص : (بقيت في البيت عصرًا ، جاءني بعض الأصدقاء ، سمعت من الراديو الأحكام التي صدرت بحق كل من فاضل الجمالي ، ورفيق عارف ، وغازي الداغستاني . تلا الكاتب بعد أن قدم لها الرئيس مـقـدمـة طويلة ذاكرا الثورة ومناقبها ، ومثالب المتهمين ، وقرارات التجريم عن كلّ واحد من المتهمين ، ثم اختلت المحكمة للمذاكرة على الحكم – كأن الحكم لم يكن مكتوبًا من قبل - ثم خرجت المحكمة . وأفهم الحكم :
١ بإعدام فاضل الجمالي ، وتضمينه مائة ألف دينار ، وحبسه مددا أخرى بالتداخل .
٢ بإعدام رفيق عارف ، وبحبسه مدداً بالتداخل ، وتضمينه خمسة عشر ألف دينار .
- بإعدام غازي الداغستاني ، وحبسه مدداً أخرى بالتداخل وتضمينه خمسة عشر ألف دينار .كانت الأحكام شديدة ، وغـيـر منـطـقـيـة ...) ص ٥١٧ .
محاكمة غير حيادية
من الواضح تسيس هذه المحكمة ، فالاستنتاج المنطقي (وفق هذه اليومية لقاضٍ تولى منصب رئيس محكمة التمييز في العراق) يقود الى أن المحاكمة كانت صورية ، حيث وكما يبدو له وهو العالم بما يحاك في الخفاء ان القرار كان قد سبق إتخاذه قبل إنعقادها ، كما اختتمها بالقول بأن الاحكام كانت شديدة وغير منطقية .
من الضروري الإقرار اولاً بان المحاكمات السياسية بشكل عام يشوبها الكثير من الشك بعدالتها ونزاهتها ، فهي أداة يجري استغلالها لأدوات السلطة ضد مناويئيها ، وتحويلها الى منبر للمهاترات ونشر الغسيل القذر ، وكانت محكمة المهداوي مثالا سيئاُ للمحاكمات المسيسة التي كانت بعيدة تماماً عن الحيادية والاستقلالية وهي تسوق خلال جلساتها التي كانت تبث مباشرة على شاشة التلفاز العراقي أبشع الصفات والاهانات للمتهمين …
لكن خلال المحاكمة برهن غازي الداغستاني على قدرته الاستثنائية في مجابهة محاولات المهداوي في اذلاله ورفاقه الآخرين والسخرية منهم والنيل من مكانتهم العسكرية والاجتماعية ، فقد ذكر الكاتب المعروف حسن العلوي في كتابه (عبدالكريم قاسم .. رؤية بعد العشرين) الصادر في لندن في العام 1983 ( بأنه عندما حانت محاكمة غازي الداغستاني لاحظنا ان المهداوي كان متهيباً منه ، فما زالت الاعراف العسكرية مسيطرة عليه ، والداغستاني عسكري محترم ومرهوب الجانب ...) .
كما ذكر الكاتب محمد حمدي الجعفري في كتابه (محكمة المهداوي) الصادر في العام 1990 (ص41) بأن ( المحاكمة شهدت صلابة رجل من الطراز الأول فعندما أصدر المحكمة قرارها بإعدام المتهمين سقط كل من فاضل الجمالي (رئيس الوزراء) ورفيق عارف (رئيس أركان الجيش) داخل قفص الاتهام أما غازي الداغستاني فإنه استطاع أن يبقى واقفاً على قدميه ) .
وفي يومياته كتب القاضي محمود خالص في يوم الأحد 27/ 3/ 1959 : (جئت إلى الدائرة . أنجزت الأشغال . أُذيع في الراديو خبر تخفيف عقوبات الإعدام المحكوم بها كل من : أحـمـد مـخـتـار بابان ، وفاضل الجمالي ، وغازي الداغستاني ، وعمر علي ، ورفيق عارف ، وعبد الرحيم الراوي ، ومبدر الكيلاني ، وتخفيف بعض الأحكام على آخرين . ابتهجت جدًا لأن المحكومين كانوا مهددين في كل لحظة. ) ص ٦٠٦ .
بعد انتهاء المحاكمة الصورية يوم 10/ 11/ 1958 أقتيد غازي الداغستاني مع رفاقه الى السجن المركزي في بغداد وبقي فيه لحين صدور قرار إعفائه وإطلاق سراحه في 28/ 3/ 1961 فقرر مغادرة العراق مع إسرته واستقر به المقام في لندن لحين وفاته .
وفي يوم الأربعاء ١/١٢ / ١٩٦٦ يكتب القاضي محمود خالص في يومياته (قرأت الصحف ، وجدت فيها خبرًا عن وفاة غازي الداغستاني في لندن بالسكتة القلبية ، كان أحد المتضررين في ثورة (١٤) تموز ، حكم عليه بالإعدام ، ثم أبدل وعفي عنه ، وهو ابن محمد باشا الداغستاني الذي توفي في الحرب العالمية الأولى في سنة (١٩١٦) وهو يحارب على حصانه ) ص 773.
كلمة وداع لصديقه اللواء الركن عمر علي .
إتخذت أسرة الداغستاني قراراها بنقل جثمان المرحوم غازي الداغستاني الى بغداد ، وفي يوم الأحد 16 / 1/ 1966 كتب محمود خالص : ( تمشيت قليلاً ، وعدت منتظرًا موعد تشيع جثمان غازي الداغستاني رحمه الله ، رافقني عبد الله المجيد إلى بيت الداغستاني غازي ، الساعة الثانية بعد الظهر . حملوا نعشه بعد أن أبّنه صديقه اللواء عمر علي - قائد القوات العراقية في حرب فلسطين في العام 1948 - بكلمة بليغة ، ونعتَ الحكم الذي أصدره عليه المهداوي بالإعدام بأنّه ظالم وعدواني . وعند النادي الأولمبي مشى الناس وراء جنازته التي لم يوافقوا على أن تحمل بالسيارة فسار الناس وراءها مشيا حتى وصلت إلى مقبرة الإمام الأعظم ، صلينا عليها ، وواريناها التراب ، وقد بكيت على الرجل لأنه كان شهما ، شجاعًا ، شريفًا ). ص ٧٧٤ .
لقد كان يوم دفن جثمان اللواء الركن غازي الداغستاني يوماً حزيناً وحدثاً مدويا بكل المقاييس ، فقد تمت مرافقة الجثمان بمشاركة شعبية ومهيبة بحضور جميع قادة صنوف الجيش العراقي وكبار الضباط وجمع غفير من أهالي بغداد ترافقهم فرقة الجيش العراقي للموسيقى العسكرية وقد قام المرحوم مصطفى نجيب بك ونجله عبدالحميد ، وكذلك المرحوم شرف عزت باشا وناصر توفيق السعدون (وهما أبناء أخوات غازي) بإنزال الجثمان إلى مثواه الأخير حيث دفن بجوار قبر والده .
لقد رحل غازي الداغستاني وإنضم الى موكب أولئك الرجال الأوفياء الذين خدموا العراق بإخلاص ونزاهة وشرف ، وسيبقون أحياء في ضمائر وعقول الذين عاصروا تلك الفترة في تاريخ العراق الحديث والأجيال اللاحقة .
#محمد_حسين_الداغستاني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟