أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الطبيب الذي خلع عباءته… وصار جزارًا في معطفٍ أبيض .














المزيد.....

الطبيب الذي خلع عباءته… وصار جزارًا في معطفٍ أبيض .


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 14:13
المحور: قضايا ثقافية
    


لم يكن الطبُّ يومًا مهنةً عادية، ولا الطبيبُ عاملًا مأجورًا كبقية المهن، بل كان أشبه بكاهنٍ في معبد الجسد، يحمل بين يديه حياةً إنسانيةً معلّقةً بين الألم والأمل. كان الطبيب نبيًّا في بيته، وملاكًا في مشفاه، يقف على أعتاب المرضى لا ليقبض ثمن الوجع، بل ليخفف عنهم نزيف الخوف، ويسعفهم بابتسامةٍ تفوق مفعول الدواء. لكننا، ويا للأسى، في زمنٍ مقلوب، أصبح فيه الملاك جزارًا، وراح فيه الطبيب يخلع ثوب الرحمة ويرتدي رداء الجشع، حتى بات كثيرٌ من الأطباء تجارًا للصحة، وسماسرةً للموت المؤجل.
لم تعد العيادة مكانًا للتشخيص، بل صارت صالةً للاتفاقات، تُدار خلف الستار بلغةٍ مشفّرة لا يفهمها إلا أرباب المهنة ومَن تعوّدوا البيع والشراء في سوق الألم. تدخل إلى الطبيب فتراه يكتب لك وصفة لا تُفهم، بحروفٍ لا تقرأ، وما إن تخرج حتى تُوجَّه تلقائيًّا إلى صيدليةٍ بعينها، كأنّ البوصلة مُبرمجة. هناك، تجد السعر أضعافًا مضاعفة، والدواء مؤطّرًا بلغة "الأصلي"، وكأن الصيدلية الأخرى تبيع الزيف والتزوير. إنها لعبة السمسرة التي لا تترك للمريض خيارًا، لعبة الاتفاقات المبطنة، حيث يحصل الطبيب على حصته من كل دواء يُصرف، ومن كل صورةٍ تُؤخذ، ومن كل تحليلٍ يُجرى.
وما أدراك ما المختبر؟ وما أدراك ما الأشعة؟ إنها مصانعٌ للربح تُدار بأسماءٍ علمية، لكنها في حقيقتها غرفُ سحبٍ لجيوب الفقراء، تُحشر فيها النساء والرجال دون مراعاة، وتُطلب فيها فحوصات لا لضرورة طبية، بل لضرورة مالية. ولعلّك تجد المريض يبيع ما يملك كي يُجري تحليلًا لا حاجة له به، ويعود بنتيجة لا يفهمها، ليعود للطبيب الذي ينظر إليه نظر التاجر الذي يقلب البضاعة قبل أن يسوّقها من جديد.
هذا الطبيب الذي أقسم يومًا بقَسَم أبقراط، نسي قسمه، ونسي إنسانيته، وتحوّل إلى كائنٍ بلا ملامح. لم يعد يسأل عن المريض إلا بقدر ما يدرّ عليه من المال، ولم يعد يرى في وجع الفقير سوى فرصةً للاستثمار. صارت زيارات العيادة أقساطًا، والوصفات كتبًا مغلقة لا يقرؤها إلا من رُسِمت له الشفرة، وتحولت مهنة الطب إلى سباقٍ في مراكمة المال، لا في مراكمة الرحمة.
وهنا لا نتحدث عن طبيبٍ أو اثنين، بل عن ظاهرةٍ تتسع، وواقعٍ يزداد بشاعةً في مدنٍ فقدت مستشفياتها الأخلاق، ومستوصفاتها الأمان. في الماضي، كان الطبيب يأتي إلى البيوت، يطرق الأبواب، ويعالج بمبلغٍ لا يكاد يُذكر، ويمضي وقد ترك أثرًا لا يُمحى من الرحمة والرضا. أما اليوم، فإن كثيرًا منهم لا يتحرّكون إلا بدفعٍ مسبق، ولا ينظرون إلى المريض إلا كرقمٍ في حساباتهم البنكية.
كم من فقيرٍ مات لأنه لم يجد مالًا لأشعةٍ طُلبت بلا ضرورة؟ وكم من امرأةٍ ذرفت دموعها في عيادةٍ لم ترحم مرضها ولا فقرها؟ وكم من شيخٍ عجوزٍ تُرك ينتظر دوره أمام بوابة المختبر، لأن المبلغ الذي يملكه لا يكفي سوى لحبةٍ مسكنة؟ وكأن الإنسان في هذا العصر لا يُعامل كروح، بل كفاتورةٍ يجب أن تُسدَّد قبل أن يُنظر إليه.
إننا نعيش في زمنٍ يُختبر فيه الطب لا في جامعاته، بل في ضمائر أطبائه. فليست الشهادات هي المقياس، ولا الألقاب ولا المناصب، بل هو القلب، هو النبض الإنساني الذي يفرّق بين الطبيب الحقيقي، والتاجر الذي سرق المهنة ولبس عباءتها زورًا. كل ما يُقال عن "حقوق الطبيب" و"أجور الطبيب" لا يُبرر الجشع، ولا يُعفي من الإنسانية. الطبيب إن فقد قلبه، فلا خير في علمه، ولا بركة في يده.
في ختام هذا الألم المكتوب، لا بد من أن نعيد صياغة السؤال القديم: من ينقذ الطب من بعض أطبائه؟ من يردّ المهنة إلى أصلها النبيل؟ من يذكّر الطبيب أن المريض ليس مجرد زبون، بل هو إنسانٌ جاء يستنجد به في لحظة ضعف؟ على الأطباء أن يتذكروا أن المشرط الذي بأيديهم قد يُنقذ، وقد يذبح، وأن الضمير هو حبل النجاة الأخير في هذه المهنة العظيمة.
الطب ليس وظيفة… بل رسالة. والرسالة لا تُؤدى إلا بصدقٍ، وإلا تحوّل صاحبها إلى جلّادٍ بقفازٍ أبيض.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ويحَ مَن آذى عائشة... فالعرضُ عرضُ نبيٍ والأذى أذًى للسماء- ...
- -مزرعة البروكرات... حين أُطفئت شموعُ العقل وأُشعلت قناديلُ ا ...
- العلم الذي يُغتال... وأمة تنزف ضوءها .
- العقدة الخالدة: سردية الكراهية المتجذّرة ضد العرب منذ فجر ال ...
- -كمب ديفيد الإيراني: سلام يشبه الهزيمة أم هزيمة تُسوّق كسلام ...
- ترامب وصعود ميزان القوة الجديد: حين تعثّرت التنانين وتاهت ال ...
- في مطلعِ الهجراتِ تبكي السنون
- الفنُّ... رسائلُ الخلود في حضارة الرافدين
- الفزاعة التي لبست عمامة الخلافة
- التحية الأخيرة أمام الكاميرا: عندما يذوب الانضباط في حضرة ال ...
- -سلامٌ على شفرة السكين: حين يبتسم الدخان في الشرق الأوسط-
- ياسين خضر القيسي... طائر الإبداع ووجع الثقافة في زمن التبدّد ...
- ميرفت الخزاعي... فراشة السرد التي حلّقت من شط العرب إلى سماء ...
- بين قيدٍ وركام: المسرح العربي في متاهة الإحباط والفقدان .
- إيران ومضيق هرمز... حين تتدلّى يد الغريق فوق زر الحرب
- -فوردو تحت الجبل وتحت المطرقة: الضربة التي أطاحت بظل إيران ا ...
- -حين تهاوت قم من برج الطاووس... وانكسر قرن المجوس في مرآة ال ...
- حين استيقظَ الألمُ وبكى الخواء
- حين استيقظَ الألمُ وبكى الخواء .
- رماد الفتنة


المزيد.....




- نهاية حقبة.. القطار الملكي البريطاني يقترب من محطته الأخيرة ...
- لحظات بين ترامب وميلانيا على شرفة البيت الأبيض ترصدها العدسا ...
- حكم البكاء على الإمام الحسين في عاشوراء وما الاختلاف بين الس ...
- 24 قتيلاً على الأقل وأكثر من 20 فتاة في عداد المفقودين في في ...
- مظاهرة في الإكوادور دعما لغزة: دعوات لوقف الحرب وإنهاء المعا ...
- حرائق ضخمة في الساحل السوري والألغام تعيق عمليات الإخلاء
- توجه إسرائيلي للبناء العمودي في مستوطنات القدس
- بمسيرات احتجاجية أميركيون يستقبلون عيد الاستقلال
- شهداء بينهم طبيب وأبناؤه بقصف إسرائيلي وأزمة وقود بمستشفيات ...
- الجيش اللبناني يتسلم دعما ماليا من قطر


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الطبيب الذي خلع عباءته… وصار جزارًا في معطفٍ أبيض .