أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمود يوسف بكير - في ذكرى من غير حياتي















المزيد.....

في ذكرى من غير حياتي


محمود يوسف بكير

الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 22:42
المحور: قضايا ثقافية
    


يقال إن الانسان الناجح هو من يستطيع أن يخضع عواطفه ومشاعره لعقله، بمعنى أن يتحول إلى آلة تعمل بدقة ولا تستطيع أي عواطف ان تحوله عن مساره وأهدافه. والإنسان الناجح أيضا يعرف قيمة الوقت وكيف يوزعه بدقة بين ما يصبو إليه وبين هواياته ومعارفه. ويحضرني هنا شخصيات مثل نجيب محفوظ الذي التقيته مرة واحدة في حياتي وأنا في الحادية عشر من عمري ووقتها لم أكن أعرف من هو ولكن ابتسامته وهو يصافحني وحديثه القصير معي بهرني كثيرا وعلمت بعد هذا أنه من كبار كتاب مصر فبدأت أتابعه وأقرأ له. وفي حديث له في جريدة الأهرام قال إنه يقسم وقته بشكل دقيق وصارم بين عمله وبين الكتابة ولقاء الأصدقاء لا يمكن أن يتجاوز الوقت المخصص لأي غرض، وأنه عندما يبدأ في الكتابة في بيته فإنه يجلس لمدة أربع ساعات في غرفته التي لا يستطيع أحد من أسرته الإقتراب منها حتى لو قامت الحرب العالمية الثالثة على حد تعبيره. ويحضرني شخصيات عديدة التقيتها أو برأت عنها عبر العالم وربما أكتب عنها قريباً. أما أنا فقد كنت فوضويا إلى حد ما وأنا تلميذ في المرحلة الثانوية، حيث كنت استذكر دروسي بالقدر الذي أحتاجه للنجاح فقط، ولم يكن التفوق همي فقد كنت أمارس هوايات متعددة مثل القراءة وكتابة القصص القصيرة، وعزف الموسيقى ولعب الشطرنج والكرة. ولم أقتنع يوما بنصائح أمي وأخي الأكبر رحمة الله عليهما بأن أخصص المزيد من وقتي للتفوق الدراسي. وكانت فلسفتي العجيبة وقتها هي؛ لماذا أحرم نفسي من هواياتي الممتعة وماذا سأفعل بالتفوق في المدرسة طالما أنني أنجح! أليس هذا جهدا ضائعا؟

ولكن أخي نجح في تقديمي لأحد أقارب أصدقائه كان معروفا بالتفوق وكان في الصف الثالث الثانوي وكنت أنا في الصف الثاني. التقينا ووجدته مختلفا عن باقي أصدقائي الذين لا حصر لهم. لم يكن له أصدقاء تقريبا وكانت هواياته عدا المذاكرة محصورة في القراءة ولعب الشطرنج مرة واحدة في الأسبوع. سألته مرة ماذا ستفعل بالتفوق؟ قال أمنيتي أن أصبح طبيبا وغنيا ولا سبيل الى هذا سوى العمل والتفوق. سألني وانت؟ قلت له أن أصبح دبلوماسيا كي أسافر الى العالم الخارجي الذي أراه في الأفلام الاجنبية، وأضفت بأنني لا أعتقد أن أنجح في تحقيق أمنيتي هذه لأنني طالب متوسط المستوى ولي هوايات عديدة، ولذلك فربما أصبح موسيقيا جيدا. وذكرته بمثل فرنسي تعلمناه في حصص اللغة الفرنسية يقول ما معناه " إنه من الافضل أن تكون الاول في القرية عن أن تكون الاخير في المدينة" وسألته: أنا لا أدري كيف يمكنك العيش بدون أصدقاء وهوايات؟ فرد بإن معظم زملائه وجيرانه يرغبون في صداقته وكثيرا ما تراوده إغراءات الخروج معهم ولعب الكرة وتعلم الموسيقى في المدرسة، وأضاف رحمة الله عليه مقولة لم انسها من وقتها لأنها غيرت حياتي، وهي أنه علم نفسه أن يضع مشاعره ورغباته في جيبه بمعنى أن عقله هو المسيطر على حياته وبذلك لا يمكن أن تربك عواطفه خيارته العقلية ولا يمكن أن يحيد عن هدفه. وقال لي إذا أردت أن تحقق أمنيتك فما عليك سوى السيطرة على رغباتك وأن تحرص على أن تكون عواطفك ومشاعرك في جيبك وليس في جيوب الأصدقاء..

يومها عدت إلى البيت وأنا أفكر بعمق في كلامه الذي كان له وقع المطرقة على رأسي، كما ذكرتني مقولته بمقطع في أغنية للعملاق محمد عبد الوهاب يقول فيه " أنا من ضيع في الأوهام عمره" واستنكرت أن أكون هكذا وقررت أن أحاول أن أضع رغباتي الجامحة في جيبي كما يقول صديقي الجديد عسى أن أصبح دبلوماسيا وأرى العالم وهذا بالتأكيد أفضل من الموسيقي التي أستطيع أن أعزفها في أي وقت..

وبدأت أقلد صديقي في كل شيء تقريبا ولم أعد أخرج مع أصدقائي كثيرا ولم أعد ألعب الشطرنج إلا مرة واحدة كل أسبوع مع صديقي الجديد ولم أعد أعزف الموسيقى إلا على جيتاري في البيت في وقت محدد كما تعلمت من نجيب محفوظ، وأصبحت المذاكرة محور اهتماماتي..
وفي نهاية العام الدراسي نجح صديقي في دخول كلية الطب بجدارة كما نجحت أنا في الانتقال إلى نهاية المرحلة الثانوية بتفوق لأول مرة في حياتي! وبدأت أستعد في الاجازة الصيفية للعام الدراسي الجديد كما كان يفعل صديقي حتى أحقق أمنيتي. وتحولت بالفعل إلى ما يشبه الآلة المبرمجة. وبدأت أمي تقلق من عزلتي وتلح علي في الترفيه عن نفسي والخروج مع أصدقائي وهي التي كانت تشكو من كثرة تواجدي خارج البيت. .

وفي نهاية العام نجحت بتفوق ودخلت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة والتي لم أتصور أبدا أن أكون واحدا من طلاب العلم فيها وأن أكون تلميذا لأساتذة عظام مثل د. بطرس غالي في العلاقات الدولية ود. رفعت المحجوب في الاقتصاد السياسي ود. حامد ربيع في العلوم السلوكية ود. صليب روفائيل في الرياضيات .....الخ

وكان من المفترض أن التحقق بقسم السياسة في الكلية في العام الثاني كي إسبح سفيرا، أكتشف في السنة العامة الأولى أن عقلي يميل إلى الاقتصاد والرياضيات فتخصصت في الاقتصاد ابتداء من العام الثاني وواصلت اجتهادي حتى أكرمني ربي بعد تخرجي بالدراسة والعمل في الخارج. أما صديقي الذي أدين له بفضل كبير فقد فضل الاستقرار في مصر في عمله كطبيب ناجح وطوال أكثر من ثلاثين عاما لم أنقطع أبدا عن زيارته في مصر وحتى وفاته وكانت صدمة كبيرة لي مثل صدمتي في وفاة أمي وأنا خارج مصر. ولكن ما حدث لكلينا أثناء دراستنا الجامعية كان مفاجئا لنا حيث نضطر في كل جامعات الدنيا إلى الاختلاط بالجنس الآخر وهو زميلاتنا في الجامعة. وكما نعلم جميعا فإن الجامعة ليست محراب علم وأبحاث فقط، ولكنها أيضا ساحة كبيرة للحب الأفلاطوني النبيل بين شباب الطلاب والطالبات. .
وأمام هذا التطور الجديد في حياتنا لم تشفع نظرية الآلة التي وضعها صديقي العزيز في النجاة بنا من مصيدة الحب التي أصابت الآلة التي كانت تعمل بداخل كل منا بعطب شديد. وخرجت مشاعرنا وعواطفنا من جيوبنا ولم تعد بمثل هذه الصرامة من يومها حيث وقع صديقي في قصة حب مع زميلة له جعلت منه شخصا آخر. ولم أكن أفضل حالا حيث أثبت بنفسي نظرية أن الحب ما هو إلا صداقة أو زمالة لا تلبث أن تشتعل فيها النار. وبالإضافة للحب فقد عدت إلى سيرتي الأولى في لعب الموسيقى في الجامعة ولعب الشطرنج والكتابة والذهاب في رحلات مع والزملاء والزميلات....الخ بعد أن خصصت مساحة معقولة في حياتي لهذه الأنشطة.
وبعد التخرج بسنوات تزوج صديقي أولا وكنت أداعب زوجته قائلا: لقد حولت صديقي من آلة الى طفل صغير..
إنه الحب الذي أثبت أن الإنسان لا يمكن أن يتحول إلى آلة، وحتى لو نجحنا في وضع مشاعرنا وعواطفنا في جيوبنا فإنها لا تلبث أن تنفجر وتخرج عن السيطرة عند أول اختبار حقيقي لعواطفنا.
نظرية صديقي صحيحة وقد ساعدتنا على النجاح، ولكنها نظرية هشة وذات أجل قصير ولا تستقيم على الأجل الطويل مع طبيعتنا البشرية المشحونة بالعواطف والمشاعر وحب الحياة..
ومن لا يصدقني عليه أن يحاول وضع عواطفه ومشاعره في جيبه وهو أمام أولاده أو أحفاده وأن يبلغنا بالنتيجة.ومن أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي والذي كان أله شعرية لم أجد لها مثيلا من خلال إنتاجه الشعري الغزير ومن خلال من ذكره موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي تتلمذ على يد شوقي ليتحول هو الآخر لموسيقي لن تشهد له مصر مثيلا ولو بعد قرون كما قال الموزع الموسيقي اللبناني الشهير سليم سحاب. و إليكم أبيات شوقي:

دقات قلب المرء قائلة له. إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني



#محمود_يوسف_بكير (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإيمان والثقافة والقيم والاقتصاد
- هل ستتحول أمريكا ترامب لدولة فاشلة
- العقل الديني والحداثة والديموقراطية
- منوعات من جرائم وعجائب ترامب
- دروس من جائزة نوبل في الاقتصاد
- الأديان والحداثة والفقر الفكري
- مراجعات وأفكار ١٥
- في نقد الاقتصاد الإسلامي
- كيف نحافظ على قيمة مدخراتنا
- مراجعات وأفكار 14
- الجامعات الأمريكية فضحتنا أمام العالم
- معضلتنا الأساسية في عالمنا العربي
- وداعاً للنظام الدولي القديم ومرحبا بالفوضى
- تطورات سياسية واقتصادية محبطة
- غزة وما يمكن أن يفعله الحوار ونحن
- مراجعات لمفاهيم اقتصادية خاطئة
- من المسؤول عن هذه المهزلة؟
- هل ينجح تجمع بريكس أمام الغرب
- مصر عبد الناصر وعراق صدام
- مراجعات وأفكار 13


المزيد.....




- دينيس فيلنوف يقود أولى مغامرات جيمس بوند تحت راية أمازون
- لماذا فشلت إسرائيل في كسر إيران؟
- انقسام في الكونغرس بعد أول إفادة بشأن ضرب إيران
- البيت الأبيض لخامنئي: -عليك أن تحفظ ماء وجهك-
- اثنتا عشر قنبلة على فوردو : كيف أنقذت إيران 400 كغ من اليورا ...
- بعد -نصر- ترامب في الناتو: أي مكانة لأوروبا في ميزان القوى ا ...
- الاتحاد الأوروبي يدعو لـ-وقف فوري- لإطلاق النار في غزة وإسبا ...
- كريستيانو رونالدو يواصل اللعب في النصر حتى 2027
- -نرفض حصول إيران على سلاح نووي-.. القمة الأوروبية: ندعو لفرض ...
- البيت الأبيض يتّهم خامنئي بمحاولة -حفظ ماء الوجه-


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمود يوسف بكير - في ذكرى من غير حياتي