|
إلى من سيضرم النار سريعا في هشيم العالم!!
عبدو أبو يامن
الحوار المتمدن-العدد: 1813 - 2007 / 2 / 1 - 09:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أظنه آن الأوان أن نلتفت جادين إلى تراث الصوفية العظيم، ننهل منه غيوثا وفيوضا نسقي بها العالم الميت، الجامد الهامد، الجامد العواطف والهامد الإنسانية، في وقت طغت فيه المادية واكتسحت في طريقها كل شريف وعفيف، وقضت على كل مقدس في حياة الإنسان، وأماتت القيم والمبادئ والأخلاق، والتي لولاها _ أي هذه المبادئ _ لم تتقدم الإنسانية في معارج الحضارة قيد أنملة. آن الأوان أن نغترف من الصوفية ينابيع الحب والرحمة والإنسانية لكي نسترجع من خلالها بقايا حب ورحمة وإنسانية كانت للبشرية يوما ما، ولعلنا إن تقاعسنا أو تهاونا سنفقدها إلى الأبد. في وقت أصبح فيها الحب سلعة تباع وتشترى، وأضحت العواطف الإنسانية الصادقة عملة نادرة، ومعدنا نادرا كالكبريت الأحمر. وفي وقت فقدت فيه الأشياء وكل الشعائر وكل العادات والتقاليد الإنسانية العريقة كل معنى، إذ أضحى العالم بلا معنى، كل القيم الإنسانية بلا معنى، الحب بلا معنى، الصداقة بلا معنى، الدين بلا معنى، الأخلاق بلا معنى، كلها أسماء بلا مسميات، العرف والخداع والرياء الإنساني هو الذي أبقى عليها للمحافظة على شيء من المظاهر، ولكي لا يفقد الإنسان توازنه، ولكيلا يرتد إلى حالة الهمجية والوحشية التي كان عليها أسلافه حين كانوا يأكل بعضهم بعضا، وحين كانوا يقيمون الطقوس والعبادات احتفالا بضحية بشرية يرشفون دماءها ويشوون لحمها... ولكن كل محاولات الإنسان المعاصر باءت بالفشل، وورقة التوت سقطت وبانت سوءته، وانكشف الغطاء وبرح الخفاء.... ولكن الإنسان أخذ يفقد توازنه وارتد إلى الوراء يقتل بلا رحمة، ويستغل بلا ضمير، ويعذب بلا شفقة، ويكتنز بلا إنسانية، ويكذب ويكذب ويداهن ويرائي ويحاول التستر والتجمل ولكن هيهات!! فالإنسان المتوحش إن كان يقتل أفرادا فهو قد أصبح يقتل جماعات، وإن كان الإنسان المتوحش يأكل ليعيش فهو يعيش ليأكل، وإن كان الإنسان المتوحش يموت جوعا فهو يموت تخمة!! بل إن من حوله من فقراء العالم في آسيا وأفريقيا يموت جوعا فيا لسخرية الأقدار، ويا لعبث المصير!! ومهما حاول هذا الإنسان أن يتستر بأشيائه التي صنعها، ويموه بمنجزاته التي أنجزها، ومهما حاول أن ينفخ في أبواقه التي أطلقها، والتي تنبح صباح مساء، ومهما طلى وجهه بالمساحيق وغطى بها على التجاعيد فلن ولن ينطلي خداعه على من كان في قلبه ذرة إنسانية أو ألقى السمع وهو شهيد!! وامتد هذا ( اللا معنى ) إلى كل شيء حتى العبادات والشعائر والطقوس أصبحت شكليات، مظاهر، خاوية من المضامين، فاقدة للمعنى، طبولا جوفاء حشوها نفاق وخداع، وسائل لجذب الدنيا إلى الرؤساء كما يقول أبو العلاء، ومطايا للفوز بالمال والمتع. وإلا كيف يغش التاجر وهو يصلي، وينافق العالم وهو يصلي، ويرتشي الموظف وهو يصلي، ويرابي رجل الأعمال وهو يصلي... ؟!! في وقت يحدث فيه كل هذا وما هو أعظم من هذا أظنه آن الأوان للعودة مرة أخرى إلى التصوف، التصوف الحقيقي، لكي نجد بعد هزل، ونزهد بعد تكالب، ونخلص بعد خيانة، ونصلح بعد فساد، ونحب بعد كره، ونعطف بعد قسوة، ونرحم بعد وحشية.. ولكي نتلافى مصيرا مأساويا أسود نصبح فيه أثرا بعد عين وخبرا من أخبار التاريخ، يا أمة ضحكت من جهلها الكائنات سفليها وعلويها!!! ولكن عن أي صوفية أتحدث؟؟ عن أي صوفية أتحدث وقد أشرعت في وجهها الرماح من كل حدب وصوب، وتناوشتها الأقلام من كل ناحية، من العقلانيين الغالين والإسلاميين المتزمتين، يصمونها بالدروشة والجهل والخرافة، ويعيبونها بالاتكالية والجبرية والتسليم الأعمى، ويرمونها بالمروق عن الدين والخروج عن جادة الحق والصواب؟ ولعلهم في بعض ما يقولون محقون، ولكن حنانيك ورويدك لا تعجل علينا، وإياي وإياك والتعميم، ولبس الحق بالباطل، فليس كل الصوفية شرا محضا، كما أن المادية ليست كلها شرا محضا، ولو علم الناس ما للصوفية الحقة من قيم ومبادئ ومن إشراقات وإلهامات وفيوض روحانية لهرولوا إليها سعيا، ولكن غلبت عليهم الشقوة وغرتهم الدنيا بزخرفها، وطغت عليهم شهواتهم، وغلظت منهم الأكباد وتبلدت منهم الأحاسيس فقليلا ما يشعرون!! وللصوفية وجه قبيح يتبدى في الانهزامية والاستسلامية وهجر الدنيا وتعطيل حكمة الخالق في عمران الأرض والاستخلاف فيها، ولكن ما ذا لو تلافينا كل هذا العيوب بأن جمعنا بين روح وعقل، ومادية وروحية، وسماء وأرض، للقلب عالمه وللعقل عالمه وبينهما برزخ لا يبغيان! والإنسان في المحصلة مكون من هذا وذاك، فالعلم للعقل والروح للقلب، والعقل ببرودته المشهورة عنه يحكم الحياة المادية والقلب بحرارته المعروفة عنه ينظم العلاقات الإنسانية، وبهذا يتسنى للإنسان أن يعيش في توازن مع نفسه وخالقه والناس أجمعين، ويعيش حياته طولا وعرضا، وقلبا وقالبا، وروحا وجسدا، وظاهرا وباطنا، فهذا – في نظري – أجدى عليه من هذا الحياة التي يتكالبون فيها، ويفترس فيها بعضهم بعضا بالناب والمخلب، ويفسد حياته وحياة الآخرين، وحياة كل الكائنات من حوله بصلفه وغروره وأنانيته. والصوفية في حقيقتها ولمن يحسنون النظر بعيونهم ويعون السمع بأسماعهم ويفقهون القول بعقولهم، الصوفية قبل أن تكون فرقا وجماعات، وطرقا ومسميات، وطقوسا وشعارات، هي حالة وجودية قلبية فردية، هي نظرة مستوعبة شاملة للوجود بكل ما فيه، من واجب الوجود في ذاته إلى أصغر موجود، نظرة ملؤها الرحمة الغامرة، والعطف الشامل، والحب الكامل.. نظرة خير من يعبر عنها ( محي الدين بن عربي ) في أبياته المشهورة : لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف ، وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني فلعل هذا الحب الغامر والعطف الشامل الذي يبشر به الصوفية أن يخفف من هذا التوتر الذي يهيمن على العالم، ولعله كذلك يلطف من حدة الوحشية والتكالب والصراع المادي الذي زلزل أركان المعمورة، وقسم الإخوة في الإنسانية إلى أنا وآخر ومع وضد، مع أنهم كلهم إخوة من التراب نشأوا وإليه يعودون، ومع أن الرب واحد، والخالق واحد، والرازق واحد، والأب آدم والأم حواء.. ولكن عودا إلى عنوان المقالة ( من سيضرم النار سريعا في هشيم العالم ) من قالها وفيمن قالها وما ذا تعني؟ أما من قالها فهو : فريد الدين العطار الشاعر الكبير والصوفي العظيم، وقد قالها في سلطان العلماء وتاج المتصوفة مولانا ( جلال الدين الرومي ) شاعر الصوفية الأكبر، وصاحب ( المثنويات ) و ( فيه ما فيه ) هذان العملان الخالدان التي تفنى الدنيا ولا يفنيان، قالها لوالده حين رأى من ذكاء مولانا وألمعيته : إن ابنك سيضرم النار في هشيم العالم!! ولكن سامحك الله يا عطار وهل العالم في حاجة إلى إضرام حتى تزيده اشتعالا سريعا؟!! هذا ما يقوله من يخطف النظر خطفا، ويلقي الكلام على عواهنه بلا إجالة فكر ولا إنعام نظر.. ألا إن العالم في حاجة وحاجة ماسة وسريعة لمن يضرم في جنباته الأربع النار، نار الحب والرحمة والإنسانية، يضرم النار في القلوب البشرية الهامدة، والمشاعر الإنسانية الجامدة، يضرم النار في هذا الرماد الإنساني بقايا الإنسان التي توشك أن تنطفئ!!
#عبدو_أبو_يامن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كليلة ودمنة في أراب ستان -7-
-
ديكتاتور.. وغباء .. وقمر
-
الظاهرة المحفوظية
-
ومن العشق ما قتل!!
-
ليس بالجبن وحده يحيا الإنسان
-
متعلمون ولكن!!
-
دلالة المقاطعة والبحث عن معنى
-
فلسفة السؤال، والثقافة المفقودة
-
فرنسا شيراك، والبحث عن دور
-
متى أكتب؟!
-
كليلة ودمنة في أراب ستان -6-
-
كليلة ودمنة في أراب ستان -5-
-
رسالة تداعي الحيوانات على الإنسان، الملحمة الإنسانية الخالدة
-
قديس
-
كليلة ودمنة في أراب ستان – 4 –
-
كليلة ودمنة في أراب ستان – 3 –
-
كليلة ودمنة في أراب استان -2-
-
كليلة ودمنة في أراب ستان -1-
-
هذا بوش أم هتلر.. لا أستطيع التمييز بينهما؟!! - 2-
-
هذا بوش أم هتلر.. لا أستطيع التمييز بينهما؟!! - 1-
المزيد.....
-
تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س
...
-
كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م
...
-
أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
-
ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو
...
-
ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار
...
-
بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
-
-من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في
...
-
مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس-
...
-
حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال
...
-
فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|