أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مؤمل محمد الحسيني - الصراع الطبقي - بين النظرية الماركسية والواقع العراقي المعاصر















المزيد.....

الصراع الطبقي - بين النظرية الماركسية والواقع العراقي المعاصر


مؤمل محمد الحسيني

الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 03:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


انطلق ماركس من مقولة شهيرة باتت المدخل الأساسي لفهم التاريخ البشري في نظرية المادية التاريخية ) إن تاريخ أي مجتمع موجود حتى يومنا هذا ليس سوى تاريخ صراع بين الطبقات ( بهذا الإعلان الواضح في مستهلّ البيان الشيوعي (1848)، يؤكد ماركس وإنجلز أن الصراع بين الطبقات الاجتماعية المتعارضة هو المحرّك الجوهري للتاريخ. فقد عرف التاريخ الإنساني مواجهات دائمة بين مستَغِلين ومستَغَلين: بين الحرّ والعبد، النبيل والعامي، الإقطاعي والقنّ، والصانع ومعلمه. وعلى امتداد العصور، تبلورت كل مرحلة تاريخية في ظل بنية طبقية محددة وصراع بين طبقاتها المتناحرة، حتى بلغت ذروتها في المجتمع الرأسمالي الحديث بصراع بين البرجوازية (الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج) والبروليتاريا (الطبقة العاملة التي لا تملك سوى قوة عملها).
ينظر ماركس إلى الطبقات على أنها علاقات اجتماعية مرتبطة مباشرة بمنظومة الإنتاج الاقتصادي. فالطبقة عنده ليست مجرد تصنيف إحصائي لأصحاب دخول مختلفة أو أنماط استهلاك متباينة، بل هي موقع محدد ضمن عملية الإنتاج يتحدد وضع الطبقة بالعلاقة بوسائل الإنتاج: من يملك هذه الوسائل ومن يضطر لبيع قوة عمله؛ من الذي يراكم فائض القيمة ومن يُنتَزَع منه هذا الفائض. بهذا المعنى، الاستغلال الاقتصادي هو جوهر العلاقة الطبقية. وكما يوضح أحد النصوص الماركسية: "الطبقات ليست نتاج تصنيف إحصائي، بل نتاج علاقة اجتماعية حيّة تقوم على الاستغلال." وعليه فإن انقسام المجتمع إلى طبقات هو حصيلة بنى الإنتاج نفسها؛ حيث تستحوذ طبقة مالكة على الثروة الناتجة من عمل طبقة أخرى كادحة. ففي مؤلَّفه الأكبر "رأس المال" (1867)، حلّل ماركس آليات استحواذ الرأسمالي على فائض القيمة الناتج عن عمل العامل المأجور، مما يؤسس لعلاقة صراع مستمرة بينهما، مهما حاولت الأيديولوجيات السائدة إخفاء طبيعتها الاستغلالية.

الجذور التاريخية للصراع الطبقي: من الإقطاع إلى الرأسمالية

يؤكد المنظور الماركسي أن الصراع الطبقي ظاهرة ممتدة عبر التاريخ كلّه، وإن لبست أشكالًا مختلفة باختلاف أنماط الإنتاج. في المجتمعات العبودية القديمة كان الصراع دائرًا بين السادة والعبيد؛ وفي العصور الإقطاعية تجلّى بين طبقة كبار الملاّك الإقطاعيين وأتباعهم من الأقنان والفلاحين. ومع نشوء المجتمع الرأسمالي الحديث عبر الثورات البرجوازية في أوروبا، انقلبت المعادلة لتصبح المواجهة الرئيسية بين البرجوازية الصاعدة التي أطاحت بالنظام الإقطاعي، وبين البروليتاريا الناشئة في المصانع والمدن وقد شرح ماركس في البيان الشيوعي كيف قضت البرجوازية على العلاقات الإقطاعية لتحل محلها علاقات رأسمالية، وكيف وحّدت العالم تحت نمط إنتاجها، لكنها في الوقت نفسه أوجدت حفّاري قبرها: الطبقة العاملة الحديثة. هكذا فإن الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية لم يُنهِ الصراع الطبقي، بل نقله إلى مرحلة جديدة تتسم بطابع استغلالي صناعي أكثر شمولًا وديناميكية، تتركز فيه الثروة بأيدي أقلية من أصحاب رأس المال مقابل تفقير واستلاب أوسع للجماهير العاملة.من المهم التشديد على أن ماركس رأى في تطور الصراع الطبقي مفتاحًا لفهم التغيير الاجتماعي برمّته. فالثورات الكبرى – كالثورة الفرنسية 1789 – يمكن فهمها بوصفها انفجارًا لصراع طبقي مكبوت (بين بورجوازية مدينية طامحة وأرستقراطية إقطاعية متكلسة)، أدى إلى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي على أسس جديدة. وعلى هذا الأساس تنبأ ماركس بأن الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا سيبلغ حتمًا نقطة تؤدي إلى ثورة اجتماعية شاملة تنتصر فيها الطبقة العاملة وتقيم مجتمعًا بلا طبقات. ورغم أن تحقق هذه النبوءة أخذ مسارات أعقد تاريخيًا مما افترضه ماركس، إلا أن المنهج الذي قدّمه – أي التركيز على تناقض المصالح بين من يملك الثروة والإنتاج ومن لا يملك – أثبت جدواه التفسيرية في شتى المراحل التاريخية.

الصراع الطبقي في العصر الحديث: العولمة والنيوليبرالية

شهد القرن العشرون تطورات جديدة أثرت على شكل الصراع الطبقي دون أن تلغيه. فمنذ منتصف القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، برزت بعض التحولات في بنى الاقتصاد الرأسمالي – كصعود دولة الرفاه في الغرب، وظهور الطبقة الوسطى الكبيرة في بعض البلدان – مما دفع البعض إلى الادعاء بأن الصراع الطبقي قد تراجع أو فقد حدّته. بيد أن موجة العولمة الاقتصادية والسياسات النيوليبرالية منذ الثمانينيات أعادت إنتاج الانقسامات الطبقية على نطاق عالمي. فقد أدت سياسات التحرير الاقتصادي، وخصخصة القطاع العام، وإضعاف النقابات، إلى تركيز الثروة أكثر فأكثر في أيدي قلة من الأثرياء مقابل تآكل المكتسبات الاجتماعية للطبقات العاملة والمتوسطة. إن النظام العالمي المعولم اليوم يتيح لرأس المال التنقّل بحرية عبر الحدود بحثًا عن اليد العاملة الأرخص والأرباح الأكبر، فيما تُركت القوى العاملة في سباق عالمي نحو القاع من حيث الأجور والحماية الاجتماعية والنتيجة هي فجوة هائلة غير مسبوقة في الثروة على الصعيد العالمي. تشير التقارير الحديثة إلى أن 1% فقط من سكان العالم يملكون أكثر من ضعف ثروة بقية البشرية مجتمعة ، في دلالة صارخة على تعمّق الاستقطاب الطبقي دوليًا. هذه الهوّة الطبقية العالمية تعني عمليًا أن ما حذّر منه ماركس من تركّز متزايد لرأس المال أصبح حقيقة ملموسة في عصرنا، إذ برزت أقلية أوليغارشية تهيمن على جزء كبير من مقدرات العالم الاقتصادية وتؤثر في رسم السياسات على حساب الأغلبية. ولعلّ الأزمات المالية المتتالية – من أزمة 2008 إلى أزمات جائحة كورونا – كشفت أن منطق الصراع الطبقي لم يختفِ: فحين تتعثر الأسواق، نجد الحكومات تسارع إلى دعم كبار الرأسماليين وإنقاذ البنوك، بينما تُلقى التبعات على كاهل العمال وصغار الكسبة من خلال برامج التقشف وارتفاع تكاليف المعيشة. وفي المقابل، شهدنا في العقود الأخيرة عودة روح النضال الطبقي بأشكال جديدة، من حركات احتلوا وول ستريت التي رفعت شعار "نحن الـ99%"، إلى موجات الإضرابات العمالية المتجددة في العديد من البلدان رفضًا لظروف العمل غير العادلة. كل ذلك يؤكد أن الصراع بين من يملكون الثروة والسلطة ومن يفتقرون إليهما لا يزال واقعًا حيًا وإن اتخذ صورًا معاصرة.

الصراع الطبقي في السياق العراقي المعاصر

يعدّ العراق حالة دراسية ثرية لفهم تحولات الصراع الطبقي في حقبة ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003. فخلال العقود الماضية انتقل العراق من نموذج الدولة الريعية المركزية في ظل نظام الحزب الواحد، إلى اقتصاد منفتح نسبيًا تحت تأثير قوى الاحتلال والسوق الحرة ونظام المحاصصة الطائفية. هذا الانتقال أفرز بنية طبقية جديدة مختلفة في الشكل عن المجتمعات الرأسمالية التقليدية، لكنها حافظت على جوهر الانقسام بين قلة تستحوذ على الثروة والسلطة، وأغلبية تعاني التهميش الاقتصادي والاجتماعي و يمكن القول إن الطبقة الحاكمة في عراق ما بعد 2003 تمثل طغمة ريعية تستند في ثرائها ونفوذها إلى السيطرة على موارد الدولة، خصوصًا عائدات النفط، أكثر من اعتمادها على الإنتاج الصناعي أو المبادرة الرأسمالية الوطنية. وقد وصف بعض الباحثين هذه الطبقة بأنها أقرب إلى "البرجوازية الكومبرادورية التابعة" بالمعنى الماركسي، إذ ترتبط مصالحها عضويًا برأس المال العالمي وتعيش على الريع وليس على الإنتاج الحقيق . ما يميز هذه الطغمة في العراق أنها تتلحّف برداء الهويات الطائفية لتضفي شرعية زائفة على هيمنتها؛ فالمحاصصة الطائفية لم تكن سوى آلية لتقاسم الدولة بين النخب، بحيث توزِّع الغنائم في ما بينها تحت شعار تمثيل المكوّنات. بهذا المعنى، أصبحت الطائفية ذاتها أداة لتنظيم السيطرة الطبقية على المجتمع – أي أن الانقسام الطائفي يُستخدم لإخفاء حقيقة الانقسام الطبقي بين أقلية تستحوذ على السلطة والثروة وأكثرية محرومة. النتيجة أن نظام ما بعد 2003 قام على توزيع الريع النفطي عبر شبكات الزبائنية والمحسوبية، بدلًا من بناء اقتصاد إنتاجي يوفر فرص عمل حقيقية للناس. ومع غياب الإنتاج وضعف القطاع الخاص المستقل، برزت الدولة الريعية كحلبة أساسية لاستحواذ الثروة، وأصبحت المنافسة السياسية تدور عمليًا حول السيطرة على مؤسسات الدولة ومواردها بين أجنحة النخبة ذاتها.
تتكوّن الطبقة المهيمنة في العراق اليوم من ائتلاف معقد يجمع رؤوسًا متعددة: زعماء الأحزاب والتيارات السياسية (كثيرٌ منهم يرتكزون على ولاءات ما دون وطنية)، كبار المسؤولين والبيروقراطيين المتحكّمين في الموازنة العامة، رجال أعمال ومقاولين حصلوا على عقود الدولة الضخمة، إضافة إلى شبكة من الشخصيات النافذة في الإعلام والمؤسسات الدينية والأمنية تعمل على حماية نفوذ هذه الفئات وإعادة إنتاج خطابها. أدوات هذه الطبقة في الهيمنة متعددة، تبدأ من التحكم بالتعيينات والوظائف الحكومية لاستمالة الموالين، وتمرّ عبر الفساد المنظّم المتمثل في نهب المال العام عبر العقود الوهمية وتهريب العملة وغسيل الأموال، ولا تنتهي عند إنتاج خطاب الكراهية والانقسام الطائفي لتبرير هيمنتها وإشغال الناس عن حقوقهم المعيشية. بعبارة أخرى، يجري توظيف الانقسامات الهوياتية لتعزيز الاصطفاف الطبقي القائم: حيث تُقنع كل طائفةٍ أتباعَها بأن الخطر على حقوقهم يأتي من الطوائف الأخرى، بينما الحقيقة أن عموم أبناء الطوائف محرومون على حد سواء من ثمار الثروة الوطنية المحتكَرَة بيد قلّة من المنتفعين في كافة المعسكرات.

مظاهر الانقسام الطبقي

على أرض الواقع العراقي، تبدو تفاوتات الثروة والفرص صارخة للعيان منذ تغيير 2003 حتى اليوم. فخلال العقدين الماضيين، تدفقت مئات مليارات الدولارات من عائدات النفط إلى خزائن الدولة، وارتفعت الموازنات الحكومية الاتحادية إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ البلاد. غير أن هذه الثروة الضخمة لم تنعكس ازدهارًا على عامة الشعب، بل أدّت في كثير من الأحيان إلى إعادة إنتاج طبقة جديدة من الأثرياء المرتبطين بالسلطة. تشير التحليلات إلى أنه في السنوات الأولى بعد 2003 بدأت بالظهور طبقة من الأثرياء لم تكن موجودة من قبل، راكمت ثرواتها الهائلة عبر وسائل ريعية وغير إنتاجية كعمولات العقود الحكومية والتهريب والفساد، من دون مساهمة حقيقية في تطوير الاقتصاد وبالمقابل تفاقمت مستويات الفقر والحرمان بين شرائح واسعة من السكان نتيجة البطالة وإهمال البنية التحتية والخدمات الأساسية. فبحسب بعض التقديرات، تراوحت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر خلال سنوات ما بعد الاحتلال بين خمس إلى ربع العراقيين في بعض الفترات، رغم الموارد النفطية الوافرة. كما ارتفعت معدلات البطالة، خصوصًا بين الشباب، إلى مستويات مقلقة تجاوزت 30% في بعض المناطق والسنوات. هذه الأرقام تعكس خللًا بنيويًا في توزيع عائدات التنمية، حيث تتركز المنافع في يد فئة محدودة فيما يتسرب الفتات لبقية المجتمع.
من أبرز مشاهد الانقسام الطبقي في العراق اليوم تلك الفجوة العمرانية والخدمية بين أماكن سكن ونشاط النخبة الغنية ومناطق عموم الناس. فثمّة أحياء ومجمعات سكنية راقية في بغداد وغيرها – كثير منها محاط بحواجز أمنية وأسوار عالية – يعيش فيها أصحاب النفوذ في رفاهية وخدمات خاصة، تقابلها أحياء شعبية مكتظة تعاني من ضعف الخدمات الأساسية وانقطاع الكهرباء والمياه وانتشار البطالة بين شبابها. وكما وصف أحد الباحثين: أصبحت بعض مناطق العاصمة مجرد "جُزُر منعزلة من الغنى في محيط كبير من الفقر والحرمان. هذه الصورة المجازية تجسّد واقع "مدن مسوّرة" بحكم الأمر الواقع، تفصل بين عوالم اجتماعية شديدة التباين داخل البلد الواحد. كذلك الحال في إقليم كردستان العراق، حيث نجد نهضة عمرانية في أربيل ودهوك مثلًا، بتمويل من الطبقة الأوليغارشية المحلية المستفيدة من النفط والسلطة، مقابل بلدات وأرياف مهمّشة يعيش أهلها بالكاد على الفتات. إن اقتصاد الريع النفطي، حين يقترن بغياب العدالة في التوزيع، يفرز حتمًا هذا النمط من الاستقطاب: قلة تتمتع بالثراء الظاهر في الفيلات الفخمة والمراكز التجارية الحديثة، وأكثرية تكابد ظروف العيش الصعبة وتدهور المرافق العامة من تعليم وصحة ونقل.
ولم تقتصر التفاوتات الطبقية في العراق على الفجوة في الدخل والثروة فحسب، بل انسحبت أيضًا على فرص الوصول إلى النفوذ والقرار. فعبر نظام المحاصصة، تكرّست امتيازات وظائف عليا ومناصب حكومية لفئة معينة ذات ارتباطات حزبية أو عائلية، بينما حُرمت الكفاءات الشابة غير المحسوبة على جماعات نافذة من المساهمة في قيادة بلدهم أو الحصول حتى على وظائف لائقة. أضف إلى ذلك أن موجات الخصخصة المحدودة التي جرت في بعض القطاعات بعد 2003 – كخصخصة جزئية لخدمات الكهرباء مثلًا – أدت إلى إحالة المزيد من العمال إلى البطالة أو العقود المؤقتة، فيما استفاد من هذه العمليات مستثمرون مقرّبون من دوائر الحكم. هكذا تكوّنت طبقة من الرأسماليين الطفيليين الذين أثروا عبر عقد الصفقات الحكومية والاستيراد الريعي بدل الاستثمار المنتج، وازداد نفوذهم ليتقاطع مع النفوذ السياسي. إن هذه الصورة تؤكد أن الصراع الطبقي في العراق ليس مجرد تجريد نظري، بل يتبدى واقعًا في تناقض المصالح المادية بين عامة العراقيين الساعين إلى العيش الكريم من جهة، وتحالف الأقوياء من ساسة ومتنفذين وأثرياء جدد من جهة أخرى. وما الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي شهدتها البلاد – لا سيما انتفاضة تشرين 2019 – إلا تعبير عن انفجار الغضب الطبقي المكبوت تحت عناوين ظاهرية متعددة. فلقد خرج عشرات الآلاف من الشبان آنذاك إلى الشوارع في بغداد وجنوب العراق يهتفون ضد البطالة والفساد وسوء الخدمات، في مواجهة مباشرة مع طبقة سياسية-اقتصادية وصفوها بأنها فاسدة تحتكر ثروات الوطن. ورأينا الشعارات ترفع مطالبةً بـ"وطن" عادل لكل أبنائه، وبمحاكمة الحيتان التي نهبت المال العام. هذا الحراك العفوي العابر للطوائف أكد أن التمايز الحقيقي القابع وراء الإحباط الشعبي ليس طائفيًا أو إثنيًا بقدر ما هو تمايز طبقي بين حاكم ومحكوم، غني وفقير.

الرد على مزاعم تلاشي الصراع الطبقي

أمام ما تقدم، تتهافت الطروحات التي تدعي أن مفهوم الصراع الطبقي لم يعد ذا صلة بعصرنا. أصحاب هذه المزاعم يطرحون حججًا متعددة، منها أن المجتمعات الحديثة باتت أكثر تجانسًا بفضل توسع الطبقة الوسطى، أو أن التركيز يجب أن ينصبّ على صراعات الهويات القومية والطائفية بدلًا من الاقتصاد، أو أن اقتصاد السوق الحرة يوفر فرصًا للجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية. بيد أن الوقائع تدحض هذه الادعاءات. صحيح أن بنى المجتمعات أصبحت أكثر تعقيدًا من زمن ماركس، وأن عوامل كالعرق والقومية والجنس قد تتداخل مع العامل الطبقي، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن الانقسام الأغنى/الأفقر يظل المحور الكامن وراء الكثير من مظاهر الظلم وعدم الاستقرار. فالفوارق الطبقية اليوم تمتد داخل كل دولة وبين الدول كذلك، وتنعكس في التفاوت الصارخ في الدخول ونوعية الحياة وحتى متوسط العمر المتوقع بين الأغنياء والفقراء. إن الصراعات التي تبدو على السطح سياسية أو طائفية كثيرًا ما يكون محرّكها الخفي اقتصاديًا-طبقيًا، حيث تتنافس نخب على السيطرة وتنشئ استقطابات هوياتية لحشد التأييد الجماهيري، بينما جوهر الصراع هو على توزيع السلطة والثروة كما رأينا في الحالة العراقية ومن زاوية أخرى، فإن التحديات العالمية الكبرى اليوم – مثل أزمة التغير المناخي وأزمات الغذاء والطاقة – تفاقم آثارها الطبقية أيضًا، إذ يكتوي بنارها الفقراء أكثر من غيرهم فيما تجد الطبقات الميسورة سبلًا للحماية. كل ذلك يعيد تذكيرنا بأن تحليل من يربح ومن يخسر في أي وضع قائم يظل تحليلًا طبقيًا في جوهره.
قد يجادل البعض بأن سردية ماركس حول البروليتاريا الثورية لم تتحقق عالميًا، وأن العمال أنفسهم اندمجوا في المنظومة الرأسمالية دون ثورة. لكن حتى لو تكيّفت الرأسمالية عبر تقديم بعض التنازلات في دولة الرفاه هنا أو هناك، فإن العقود الأخيرة شهدت تراجع تلك التنازلات تحت ضربات النيوليبرالية، ما أعاد إحياء التناقضات الكامنة. إن مشهد العمال وهم ينظمون الإضرابات مجددًا في قطاعات عديدة حول العالم للمطالبة برفع الأجور أو تحسين ظروف العمل، ومشهد الشباب العاطلين وهم يقودون انتفاضات شعبية ضد فساد النخب كما في العراق ولبنان وتشيلي وغيرها، لدليلٌ على أن الصراع الطبقي لم يمت. ولعل اعتراف بعض كبار الرأسماليين أنفسهم بهذه الحقيقة أوضح برهان: فقد قال المستثمر الملياردير وارِن بافيت قبل سنوات مقولته الشهيرة: «هناك حرب طبقية جارية فعلًا – لكن طبقتي (الطبقة الغنية) هي التي تشن هذه الحرب، ونحن المنتصرون». إذا كان أغنى الأغنياء يقرّ صراحةً بوجود حرب بين الطبقات وبانتصار طبقة الأثرياء فيها، فكيف يمكن بعد ذلك الادعاء بأن الحديث عن الصراع الطبقي ضربٌ من الماضي أو الأيديولوجيا البائدة؟ إن هذا الإقرار يكشف جوهر النظام العالمي القائم، حيث تستخدم الطبقات المهيمنة نفوذها السياسي والاقتصادي لخدمة مصالحها على حساب بقية فئات المجتمع.



#مؤمل_محمد_الحسيني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التنمية البشرية .. أسرع طريق الى الفشل


المزيد.....




- حفل زفاف بيزوس وسانشيز..فعاليات تبلغ كلفتها أكثر من 50 مليون ...
- كشف نسبة صواريخ إيران التي ضربت داخل إسرائيل من العدد الإجما ...
- هل يمهد وقف الحرب بين إيران وإسرائيل الطريق لحل في غزة؟ مصطف ...
- محادثات في الظلّ: عروض -مغرية- لإيران لوقف تخصيب اليورانيوم ...
- هآرتس عن جنود إسرائيليين: مراكز المساعدات في غزة تُعامل كأهد ...
- هل يصمد النظام الإيراني في وجه التصعيد؟
- هآرتس: الدعوة لإلغاء محاكمة نتنياهو ربما تورطه في قضية جديدة ...
- مخاوف أوروبية من انسحاب إيران من معاهدة حظر انتشار النووي
- جون نويل بارو وزير الخارجية الفرنسي
- ملفات ساخنة على طاولة القادة الأوروبيين في بروكسل


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مؤمل محمد الحسيني - الصراع الطبقي - بين النظرية الماركسية والواقع العراقي المعاصر