محمد علي عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 8382 - 2025 / 6 / 23 - 02:52
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لا يمكن تصوُّر أيِّ مشروعٍ للتطوير دون مرجعية فكرية واضحة. وأيُّ فِكرٍ لا يتولَّد إلا عبر وسيطٍ جوهري هو اللغة. فاللغة ليست فقط أداةَ تعبير، بل هي أساسُ الفكر وجوهرُه، فهي التي تصنع الفِكر، وتمنحه شكلَه، وتنقله، وتحفظه، وتُطَوِّرُه. ومن هنا تُطرح معضلة فلسفية قديمة : مَن سَبَقَ مَن؟ الفكرُ أَمِ اللغةُ؟ لا نعرف مَن جاءَ قبلُ : «دَجاجةُ اللغةِ»، بِـنَـقِّها ونَقيقِها ونَقنَقَـتِها وقَوقَأَتِها وزُقائها وَقَرِّها، أَمْ «بَيضةُ الفكر»، بِغِناها وقيمتِها ودِفئها وانبثاقِ الحياة والتجدُّد من كَسر قشرتِها؟
في هذا المقال، نحاول سبر العلاقة المعقَّدة بين الفكر واللغة في السياق العربي، وكيف أن اللغة، بوصفها نظامًا رمزيًا واجتماعيًا وفكريًا، قد تكون أحد الأسباب العميقة لجمود الفكر العربي، إن لم تكن سببَه الجوهري.
يتطلَّب تطويرُ الفكر بيئةً حاضنة تُـشَجِّع على الحرية في كل المجالات وفي أقصى حدودِها، حتَّى حرية الإساءة للمقدسات وسبّ الآلهة والأنبياء، لأنَّ أيَّ فِكرٍ يَخاف من النقد ويَخشَى المقدَّس لا يمكنه أن يتحرَّرَ ولا أنْ ينعتِقَ من القوالب القديمة والقيود الأيديولوجية المخدِّرة. إضافةً إلى ذلك فلا يَكفي، لتطوير الفكر، طَرحُ الأفكار الكبرى، بل أيضًا صقل أدوات التفكير الأساسية، وهي الذاكرة، والانتباه، والخيال، والنقد، والمقارنة، والاستقراء، والاستنتاج، والتحليل، والتركيب والتفكيك… وكلُّ هذه العمليات الذهنية لا تتمُّ إلا من خلال اللغة التي هي العِماد الذي ترتكز عليه تلك الأدواتُ، والإطار الذي تنتظم داخلَه. فالفكر لا يمكنه أن يتطوَّر إلا بقدر ما تسمح به اللغةُ من دِقَّة وقدرة على التمييز والتجريد.
عِندَ النظرِ إلى اللغة العربية المعيارية (المُسَمَّاة «الفُصحى»)، يتبيَّـن لنا أنها ليست فقط لغةً بلاغية وشِعرية جميلة، بل أيضًا لغة دِينية ذات طابع غَيبي اتِّكالي، تَـتَّـسِمُ بـالعاطفية والتقريبية وتفتقد غالبًا إلى الدِّقَّـة والصرامة التي تتطلبها العلومُ والفِكرُ العقلاني. هذه اللغةُ «الفُصحَى» التي اشتُقَّ اسمها مِن «فَصُحَ اللَّبنُ» أيْ «خَلُصَ مِمَّا يَشُوبُهُ وأُخِذَتْ رَغْوَتُهُ وَبَقِيَ خَالِصُهُ، أيْ «صار صافيًا»، تبدو في كثير من الأحيان ملبَّدةً بـ«رَغوة دينية» تَمنع مستخدميها مِن الرؤية الواضحة ومن صقل لُغتهم وتحديثها.
يبدو أن هذه اللغة لا تزال واقعةً تحت هيمنة التراث الديني القديم، الذي لا يقبل التحديث إلا بصعوبة شديدة جدًّا ومحفوفة بالمخاطر. فـ«العربيةُ»، المُغَربَلةُ مِن «لُغات العَرَبِ»، يَـحكُمها برنامجٌ لاهوتيٌّ قديمٌ لا يَكاد يَقـبَـل التحديثاتِ. فهي لغة «مهترئة» «مُتَرَهِّلَة» تُـعيق اللاوعي الجمعي العربي وتُكَبِّلُه وتحاصره في بُـنىً ذِهنيةٍ مغلقةٍ. فاللغةُ هنا لا تعكس الواقع تمامًا، بل تهرب منه إلى تصوُّرات ما بعد الموت والآخِرة، وتعجز عن تمثيله بدقة، وتكتفي بالتقريب والعمومية. ومن هنا تظهر المقولةُ الشعبية الساخرة : «كُلُّه عِند العَرَب صابون»، تعبيرًا عن عدم التمييز والتعميم المفرط، الذي يعكس بِدَورِه عجزًا لغويًا أو بتعبير أدَقّ عجزًا فكريًا وثقافيًا في فهم التفاصيل والفروقات. فالعربية، رَغمَ جَمالِها، تُقيّدنا بمعانيها فلا نستطيع تجاوُزَها.
تَغلِب على اللغة العربية اليومية والتقليدية عباراتٌ مِثلُ : «إن شاء الله»، و«الحمد لله»، و«سبحان الله»، و«الله أكبر» وغيرها. وهذه العباراتُ، على الرَّغم من وظيفتها الإيمانية المريِّحة وحتَّى المخَدِّرة، ليست مجرَّدَ تعابيرَ عابرةٍ، بل تَـنخُر كالسوس الخافيةَ الجمعية العربية وتعمل – نفسيًا وثقافيًا – على نزع الإرادة الفردية من الإنسان العربي أو إضعافها، فتُحيله إلى كائن سلبي منفعِل يطفو على سطح الأحداث، دون قدرة على الفعل أو التحكّم، كما يطفو القشُّ والأوراقُ والأغصانُ الميتة على سطح ماء السيل. فاللغة ليست مجرَّد وسيلةٍ بسيطة، بل فنّ جماعي، ووظيفة ثقافية لا بيولوجية، ومُكَوِّنة للفكر (ساپـيـر (1884 – 1939)، 1921).
هذه اللغةُ لا تُكرّس مفهومَ المسؤولية الفردية، بل تَجعلُ الإنسانَ صغيرًا ضعيفَ الإرادة متردِّدًا مُعتمِدًا على الغيب؛ فهو صغير لأنه يعتمد علَى «اللهُ أكبرُ»، ومتردِّد لأنه يعتمد علَى «إنْ شاءَ اللهُ»، لا على نفسه. ومن هُنا، يختلط في اللاوعي العربي (أو الخافية الجمعية العربية) «التوكُّلُ» المُشَرعَنُ و«التواكُلُ» الأرعَنُ، فتترسَّخُ نفسيةٌ اتّكالية تَعجَز عن المبادرة والإبداع. فيعيش العربيُّ عمومًا «على السُّبحانيَّة» [ساذَج لا يَعرف سِوَى قولِ «سُبحان الله»]، و«عَ الهِـلِّة» [يعيش في التخبُّط والاختلال والتذبذُب والتزعزُع، (والأصل هو المصروع [المصاب بنوبة صَرَع] من تأثير هِلال القَمَر)]، و«على التجلّي» [مرتجِلاً، مِن دُونِ تخطيط، وبأقلّ تفكير]، «سَـبَهْلَـلاً» [فارغًا، غيرَ مكترِث، يجيء ويَذهبُ في غير شيء]، ينتقل ريشةً في مهبّ رياح القَدَر والمصادفات.
هذا البُعد الاتكالي في الذهنية العربية، والمُغذّى لغويًا ودينيًا («وما رَمَيتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى» [الأنفال، 17])، يؤدِّي في النهاية إلى حالة من السلبية والضعف والتقزّم الوجودي. فبدل أن يَـكونَ الإنسانُ العربي فاعلًا (راميًا)، يصبح مجرَّدَ متلقٍّ (مُنَفِّذ) لما يُقرّره «القَدَر» و«الصُدفة» أو «الله» الرامي الحقيقي من وجهة نظر دينية.
هذِه السلبيةُ والتواكُليةُ العربية والصَّغارُ سببُها الأوَّل، إذَنْ، هو اللغةُ الدينيةُ الاتّكالية الانفعالية المنفعِلة الغَيبيَّة التي تُبرمِج عقلَ العربي والتي تكاد من غيبيَّتِها أنْ تَفقِدَ الياءَ الأولَى في «الغَيبيَّة» (فتكادُ أنْ تُصبِحَ «الغَبيَّة»).
فاتّكالُ العرب على «الله الأكبر» يعني اعتمادَهم على الآخَر لا على أنفُسِهم. وقَولُهم «إن شاء اللهُ» يعني الإعلانَ عن الخوف وعن عدمَ القدرة على تحمُّل المسؤلية.
ومع أن هذه الصورة قد تبدو قاتمةً فإن التراث الديني نفسه يَحمِل في طَيَّـاتِه دعواتٍ خَجولةً إلى التحديث والتجديد، ولو ضمنيًا، بشكل غير مباشر. ففي إنجيل لوقا (5: 37) نقرأ : «وليس أَحَدٌ يَجعَلُ خَمرًا جديدةً في زِقاقٍ عَتيقةٍ، لِـئَـلاَّ تَـشُـقَّ الخَمرُ الجديدةُ الزِقاقَ، فهي تُهرَقُ والزِقاقُ تَـتْـلَفُ». وهُنا تكمن رمزيةٌ بالغة : فالخَمرُ الجديدةُ تُـمَثِّـل الفِكرَ الجديد والوعيَِّ َالمتجدِّد والمعرفة الجديدة و«العِرفان» («الغنوص») والحياة الجديدة، أمَّا الزِقاقُ العتيقةُ [جمعُ «زِقّ» وهو السِقاءُ، وهو وِعاءٌ مِنْ جِلْدٍ يُملأُ بِالماءِ أَوِ اللَّبَنِ أَوِ الخَمرِ وَنَحْوِها] فهي اللغة القديمة والنُظم التقليدية والأذهان المتحجرة. وإنَّ وَضْعَ الجديدِ في أوعية قديمة يؤدّي إلى الفشل والخسارةِ، بل إلى الانفجار.
وفي الإسلام أيضًا، نجد ما يُشير إلى ضرورة التجديد، كما في حديث أبي داود : «إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مِئة سنة مَن يُجَدِّد لها دِينَها». لكن هذا التجديد لا يمكن أن يتمَّ بِلُغةٍ مُحَنَّطة، بل شِبه مَيّتة، ولا بِفكر غيبي، ولا بذهنية اتّكالية. بل لا بُـدَّ من لغة جديدة أكثر دِقّة وأكثر حضورًا تُواكِب العصرَ، وتستوعب المفاهيمَ الحديثة، وتكون قادرةً على توليد فكر نقدي ومسؤول وجديد.
فمِن دون لُغة جديدة، لا يمكن إنتاجُ فِكرٍ جديد. وإنْ لم يتجدَّد الفكرُ فإنَّ الواقع العربي سيظلُّ مأزومًا، وسيظلّ العرب والمسلمون غُثاءً كغُثاء السيل، حسب التعبير النبوي المحمَّدي. فـ«الغُثاءُ» هو ما يحمِلُه السيلُ أو النهر مِن قَش وأوراق ميتة وأغصان يابسة وأتربة وفُتاتٍ وزَبَدٍ وقاذورات. أيْ سيظلّ العرب والمسلمون «زِبالةً» بحسب التعبير العامّيّ الفَجّ الذي قد يَجرَح ولكنْ لعلّه يوقِظ.
سيظَلُّ العربُ والمسلمون هامشيين رَغمَ عددِهم الكبير الذي يقارِبُ المِليارَيْ نَسَمَةٍ، أو رأسٍ، بتعبيرٍ أدَقّ، لأن العدد لا قيمة له بل النوعية. لا بل قد يكون العدد الهائل عقبةً أمام التطور. فلا قيمَةَ للتبجُّحِ بأنَّ عدد المسلمين في العالَم ملياران بل قد يدلُّ ذلك التباهي على أزمة نفسية وفراغ معرفي. وعلَى من يفتخر بأنّ عددَ أبناء دِينه ملياران أنْ نُـذَكِّرَه بأنَّ عدد الكلاب في العالَم ملياران وعدد الخنازير مليار ونِصف. فما بالكم بأعداد الفئران الذي يتجاوز الخمسة مليارات، وأعداد الصراصير الذي يزيد عن تريليونَي حشرة؟ بل إن عدد النمل لا يكاد يتصوّره عقلُ الإنسان إذ يزيد عن 2.5 مليون نملة مقابل كلّ إنسان.
لقد دعا عبد الله العروي (1933 - ) إلى تغيير نظرة المسلم إلى نفسه فقال : «إنَّ إسلام ما بعد الغزو الاستعماري، المغلوب الحزين، مجبور على أن يغير نظرته إلى نفسه» (الإيديولوجيا العربية المعاصرة، 1995، ص 107). ولكن نظرة المسلم إلى الذات تبدو نظرة متناقضة وفُصامية، بين تمجيد الماضي الرافض للحداثة والانبهار بالحداثة نفسِها. واللغةُ أحد أهم أسباب هذه النظرة الفصامية.
ودعا طه عبد الرحمن (1944 - ) (سؤال الأخلاق، 2000) إلى إيجاد توازن بين الحِفاظ على القيم الدينية وتجديد الفكر، أي تجديد الفكر الديني ليناسب العصر، وليس رفضه أو الانفصال عنه.
كما دعا محمد أركون (1928 - 2010) (نقد العقل الإسلامي، 1984) إلى تفكيك البُنى العقلية التي شكَّلَت الفكرَ الإسلامي التقليدي وإلى نَقدِها، وذلك باستخدام أدوات معرفية حديثة مستمدة من الفلسفة وعلم الأديان المقارن والأنثروبولوجيا، ودعا إلى تحرير العقل الإسلامي من سلطة التراث الجامد والانغلاق المذهبي وإلى تأسيس عقل نقدي جديد قادر على التعامل مع الحداثة ومواكبة التحولات الفكرية المعاصرة. واقترحَ أركون توسيعَ نطاق التفكير الإسلامي ليشملَ «ما لا يُفكَّـر فيه» و«ما مُنِـعَ التفكيرُ فيه» داخلَ التراث، من خلال منهج نقدي صارم يعيد قراءة النصوص المؤسِّسة في ضوء العلوم الإنسانية الحديثة.
ولكن جورج طرابيشي (1939 - 2016) (مِن إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، 2009) دعا إلى إعادة الاعتبار للقرآن بوصفه نصًا مفتوحًا يدعو للحرية والضمير والمسؤولية الفردية، ودعا طرابيشي إلى عقلنة الفهم الديني وتحريره من التراكمات التراثية والحديثية التي قيّدَت العقلَ القرآني وعطّلت طاقته التجديدية.
غير أنَّ هذه الدعواتِ إلى تغيير النظرة إلى النفس أو الذات وإلى تجديد الفكر الديني مع الحِفاظ على الأخلاق المستمدَّة من الدين، وإلى تفكيك البُنى العقلية وإلى النقد وعقلنة الدِين وتحريرِه لا تتمّ إلا بتغيير اللغة تغييرًا جذريًا، بِجعلِها لغةً أكثر دِقّة وعِلمية وحضورًا وأكثر بُعدًا عن الغموض والماورائية، لغةً تُحدِث قطيعةً تامّة مع كلّ ما هو ديني، وليس لُغةً تعيد قراءةَ النص الديني المؤسِّس، لأن إعادة قراءتِه، مهما كانت تفكيكيةً وتجديديةً، ستقذفنا على الأرجح إلى الماضي وستربطنا بِـ«نسق معرفي» قديم أو «نظام معرفي» أو «حقل معرفي» أو «أبيستميَّة» (épistémè) سابقة، بحسب تعبير فوكو (الكلمات والأشياء، 1966)، (و«الأبيستميَّة» هي مجموعة الشروط التاريخية لإمكانية المعرفة في عصر معين). وفوكو لا يهاجم الخطابَ الديني، بل يكشف كيف تتشكَّل أنظمة القول والمعنى في لحظة تاريخية محددة وكيف تصبح اللغةُ أداةً لإعادة إنتاج نظام معرفي مغلَق متكامل يخضع للعقل الغيبي أو السلطوي. فاللغة العربية الفُصحَى [اللسان العربي المعياري] ولُغاتُ العرب [لهجات العرب] «مُـبَـلَّـلَة» بالدين و«مُبَلبَلة» بالغيبيات إذْ تخضع لبُنى فكرية موروثة تقوم على الغيبيات والأُخرَويات والمقدَّسات كمرجعية وحيدة (الوحي، والمعجزة، والأعجاز، والعِقاب، والثواب، والإيمان، والكُفر، والجَنَّة، والنار، ووحدانية الله، والحلال، والحرام...)؛ مما قد يؤدّي إلى جمود دلالي، حيث تُستخدم الكلماتُ بصورة ثابتة لا تسمح بإعادة التأويل أو الخروج عن سلطة التفسير التقليدي.
وهذا يؤدّي إلى الإقصاء المعرفي لِـكُـلّ ما هو عقلاني وفلسفي وحداثي. فاللغة ليست فقط وسيلةً لنقل المعنى بل هي مؤسسة سلطوية تُحدِّد ما يمكن قوله وما يُمنع التفكيرُ فيه، كما يَرَى فوكو. والعربيةُ الفُصحَى تحتكر المعنى وتربط كلَّ شيء بثنائيات مثل : «الحلال والحرام»، و«الحق والباطل» بالمفهوم العقائدي، و«المؤمن والكافر»؛ وتجعل التطور تقهقُريًّا فتربط السيرورة التاريخية بالانتقال من «الكمال» في الماضي (« أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » [المائدة، 3]) إلى «النقص» و«الفساد» في الحاضر والمستقبل («لا تَقومُ الساعةُ إلاَّ علَى شِرار الناس» [حديث نبوي]). فتُقاوِمُ اللغةُ هذا التقهقُرَ وتمنع التفكيرَ النقدي لأنها تُصنِّف السؤالَ على أنه شكّ، والشكّ على أنه انحراف، كما تُصنِّف الحداثة على أنها بِدعة وعلى أنّ البِدعة ضلالة مُنكَرة مرفوضة. فتُسكِت العربيةُ العقلَ مِن خلال التكثيف الشعائري لاستخدام الكلمات (كالتكرار، والتلقين، والترتيل الصوتي للنص الديني، والمبالغة في التعظيم) بدلاً من الفهم والنقد.
وقد لاحظْتُ في مهنة التدريس أن هاجسَ أغلب تلاميذ المدارس الإعدادية والثانوية وطلاب الجامعة في فرنسا، وكلُّهم تقريبًا من أبناء الجاليات العربية، هو معرفة دِين المُدَرِّس وأنَّ آلية تفكيرهم العميقة تَحكمُها ثنائيةُ «الحَلالُ والحرام». فترتفع أصواتهم الاحتجاجية لمجرَّد أنْ أَذكُـرَ كلماتٍ مِثل : «خمر» و«نبيذ» و«عَرَق» و«خنزير» و«صليب»…
هذه اللغة المُشَرَّبة بالدين حَدَّ الإشباعِ تعيق «النقدَ» و«التغييرَ» و«التطوير والتحديث»، بالمعنى الحَرفي لا بالمعنى السياسي العربي الغامض والمبتَذَل والخادِع، لأنها تُحارِب التأويلاتِ المخالفةَ لنسقِها المعرفي القديم، وبالتالي تعيد إنتاج الخضوع للسلطة الدينية والسياسية وترتكز على غيبيات لا تسمح بالتجريب والتحقُّق.
ومِن البديهي إن «اللغة العربية»، بحد ذاتها، بوصفها أداةً طبيعية «فِطرية» تعبيرية وسلطوية، ليست هي العائق أمام التحديث، فهي ككل اللغات مِن حَيثُ البنيةُ ليست عاجزةً فكريًا، بل تمتلك قدرة كبيرة على توليد المعاني، ولكن المشكلة في البرنامج الديني القديم الغيبي العاطفي التقريبي [غير الدقيق] الثَنوي [الذي يقسم الوجود إلى ثنائية «الخير والشر»] المتحجِّر في مرحلة زمنية سابقة والذي يحكم هذه اللغة التي تمتلك بالمقابل قدرة اشتقاقية كبيرة. فمن منظور تشومسكي (1928 - ) (اللغة والفكر، 2006)، لا يوجد ما يمنع اللغةَ العربية مِن توليدِ مفاهيمَ عِلميةٍ أو حديثةٍ، فما تحتاجه هو تغيير في الأداء والسياق التعليمي والثقافي.
إن أطروحة بنيامين لي وُورف (Benjamin Lee Whorf) (1897 – 1941) في النسبية اللغوية تشير إلى أن
بُنية اللغة التي نتحدَّث بها تؤثِّـر بشكل عميق على طريقة تفكيرنا وإدراكنا ورؤيتنا للعالم وتنظيم الواقع؛ وبالتالي فإن اللغة العربية، بصيغتها المُـشبَعة بالمفردات الدينية والرموز الغيبية، قد تُعيد إنتاج ذهنية تُعلي من الميتافيزيقي وتُقصي العقلاني والعلمي، وتُقدِّسُ الماضي وتَلعَنُ الحاضر.
إن مشروع نهضة عربية حقيقية يجب أن يبدأَ من تغيير جذري في النفس العربية ومن قطيعة مع الماضي. هذا التغيير النفسي الجذري وتلك القطيعة مع الدين والماضي دعا إليهما سابقًا الفيسلوفُ جِدّو كريشنامورتي (1895 - 1986). كما دَعا من داخل المنظومة العربية الشاعرُ أدونيس (1930 - ) إلى ضرورة إحداث قطيعة مع التراث أو إلى إعادة قراءته قراءةً مختلفة.
مشروع النهضة هذا لا يبدأ فقط من السياسة والاقتصاد والتعليم، بل يبدأ أيضًا من اللغة، تلك الأداة التي تُشكّل وعيَنا ومفاهيمَنا وموقعَنا من العالَم. فإمَّا أن نَصنعَ لغةً تَحمِل وعيَنا إلى الأمام أو نبقى أسرى لِأَوعيةٍ فكرية قديمة مهترئة لا تحتمل نبيذَ هذا العصر.
مراجع :
1. أركون، محمد، نقد العقل الإسلامي، بالفرنسية 1984، وبالعربية : «تاريخية الفكر العربي الإسلامي»، ترجمة هاشم صالح بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، 1986.
2. العروي، عبد الله، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، 1995.
3. طرابيشي، جورج، مِن إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، دار الساقي، 2009.
4. عبد الرحمن، طه، سؤال الأخلاق. مساهَمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، 2000.
5. فوكو، ميشيل، الكلمات والأشياء، فريق ترجمة مؤلَّف من مُطاع صفدي وآخرين، مركز الإنماء القومي، لبنان، 1990.
1. Arkoun, Mohammed, Pour une critique de la raison islamique, Paris, Maisonneuve et Larose, 1984.
2. Chomsky, Noam, Language and Mind, Cambridge University Press, 2006.
3. Foucault, Michel, Les Mots et les Choses, Éditions Gallimard, 1966.
4. Sapir, Edward, Language: An Introduction to the Study of Speech, Harcourt, 1921.
5. Whorf, Benjamin Lee, Language, Thought, and Reality, MIT Press, 1956.
#محمد_علي_عبد_الجليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟