|
المجتمع السياسي الفلسطيني ومشروعه الوطني إلى أين ..؟
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 1812 - 2007 / 1 / 31 - 11:27
المحور:
القضية الفلسطينية
مع تفاقم انتشار مظاهر الموت والاقتتال الدموي في المشهد الفلسطيني الراهن ، إلى جانب الأزمات السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية التي باتت تعصف بمكونات مجتمعنا الفلسطيني وتهدد بالمزيد من مظاهر التفسخ والتفكك لوحدته الوطنية وتماسكه الداخلي، خاصة بعد أن تحول التناقض السياسي بين قطبي الصراع (فتح وحماس) إلى شكل من التناقض التناحري أو الصراع الدموي المسلح بينهما على السلطة والحكم والمصالح، الأمر الذي أدى إلى انتشار مظاهر القلق والإحباط ومؤشرات اليأس في قطاعات واسعة من جماهير شعبنا من ناحية ودفع قضيتنا الوطنية وحقوق شعبنا وآماله في التحرر والبناء والتغيير الديمقراطي إلى شبه طريق مسدود من ناحية ثانية، ومع وصول هذه الحالة من التصعيد في الاقتتال الدموي الداخلي والانهيار المجتمعي والسياسي، إلى حافة الخطر الذي يمكن أن يؤدي إلى تكريس الرؤية والمخطط الصهيوني الأمريكي صوب مزيد من الهيمنة والتحكم بمصير قضيتنا وشعبنا، إلى جانب ما أدت وستؤدي إليه هذه الأوضاع والصراعات غير المبدئية من آثار ضارة تتجلى في المزيد من أشكال المعاناة والبطالة والإفقار التي تهدد أبناء شعبنا الفقراء بحرمانهم من لقمة عيشهم في ظروف بات شعبنا معها ، محبطاً أو فاقداً للأمل من طرح قضاياه المصيرية والأساسية ، بسبب استمرار همجية وغطرسة العدو الصهيوني من جهة وبسبب تفاقم المأزق الداخلي والصراع الدموي بين القطبين (فتح وحماس) من جهة ثانية، وهو صراع لم يعد مشغولاً بالقضايا المصيرية، السياسية منها أو المجتمعية والمطلبية بنفس مقدار انشغاله بالرؤى والمصالح الفئوية والتنظيمية من ناحية أو انشغاله بكيفية التشبث بالسلطة والحكم كهدف في حد ذاته من ناحية ثانية . وفي ضوء هذه التطورات الجارية راهناً، ومن اجل مجابهة ووقف آثارها ومفاعليها الخطيرة على حاضر ومستقبل قضيتنا ونضال شعبنا ، في ظل هذه الحالة من الصراع الداخلي التي تطل فيها عوامل اليأس والقلق والخوف والانحطاط بديلا للآمال الكبرى في التحرر والاستقلال وسيادة القانون والديمقراطية ، الامر الذي يدفعنا إلى التوجه –عبر هذه الورقة- إلى كل ، أو ما تبقى ، من القوى والفعاليات المنضوية في ما يمكن تسميته بالتيار الوطني الديمقراطي العلماني ، لكي تستنهض ذواتها ، وتقوم بدورها المطلوب –كضرورة ملحة في اللحظة كما في المستقبل- شرط ان تتخلص من حالة التراجع والعجز في بنيانها الناجم عن هذه الفجوة –المتزايدة الاتساع- بين ممارسات هذه القوى من ناحية وبين شعاراتها أو افكارها النظرية من ناحية ثانية ، وذلك انطلاقا من أن الحديث عن الحل العادل للمسالة الفلسطينية، أو الحديث عن مستقبل المشروع الوطني أو النظام السياسي والدولة المستقلة، لن يكون له أي معنى ايجابي، دون الارتباط الوثيق للمسألة الفلسطينية وقضيتها بالبرنامج الوطني الديمقراطي العلماني في اطار الرؤية القومية العربية وحراكها السياسي الاجتماعي ومنطلقاتها العقلانية التقدمية، ذلك أن ما نشهده من مؤشرات الصراع الداخلي، ومظاهر التفكك والانهيار السياسي والاجتماعي في قطاع غزة والضفة، سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الراهنة وصولاً إلى مأزق مسدود، إذا لم يتم تدارك هذه الحالة المأزومة وإخضاعها لشروط ومقومات الوعي لعملية التحرر الوطني والديمقراطي وسيادة القانون العادل وحرية المواطن ، كأسس يشكل الالتزام بها ضرورة تاريخية في هذه اللحظة بالذات، ذلك أن عملية الفرز الجارية الآن بين قطب حركة فتح الذي يدعو إلى التسوية الواقعية وسعيه إلى إخضاع المسالة الفلسطينية لموازين القوى المختلة من جهة وقطب حماس الذي لم يتعاطى أبداً مع منطق حركة التحرر الوطني والرؤية والمنطلقات القومية العربية ارتباطاً بانشداده لأصوليته ومنطلقاته الدينية من جهة ثانية، تؤكد على أن هذا الفرز ما هو إلا تأكيد على أن هذين القطبين هما وجهان للمأزق الراهن والمخاطر التي يحملها في مواجهة مشروعنا الوطني التحرري الديمقراطي.
إن حركة فتح بقبولها –بذريعة الواقعية- للتسوية أو الحل المحكوم لموازين القوى المختلة مع العدو راهنا،ً لا يعني سوى القبول بخطة شارون/اولمرت أو بخارطة الطريق بعد تكييفها للشروط الاسرائيلية ، وبالتالي فان هذه التسوية تخرج عن كونها مشروعاً سياسياً، وتتحول إلى نوع من الاستجابة للمشروع الإسرائيلي الأمريكي، وتصبح بالتالي جزءاً من حالة الخضوع العربي الرسمي للسياسات والشروط الأمريكية الإسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة لرؤية وبرنامج حماس المحكوم بمنطق الأصولية والهوية الدينية للأمة الإسلامية بعيداً عن مفهوم التحرر الوطني والقومي أو الهوية الوطنية والقومية، سيظل برنامجاً قابلاً للتكيف مع السياسات الأمريكية ومهادنة العدو الإسرائيلي في لحظة معينة، خاصة وان حركة حماس لم تدخل الانتخابات إلا بعد أن وصلت إلى طريق مسدود لم تجد حلاً له إلا بالمشاركة في سلطة الحكم الإداري الذاتي مع إدراكها الكامل بمنشأ هذه السلطة ومحدداتها، ثم قبلت بتشكيل حكومة عرفت سلفاً أنها ستكون مدعوة إلى التسليم بالاتفاقات المبرمة بين السلطة وإسرائيل، وبالتالي فان برنامجها سيظل عاجزاً عن حمل المشروع السياسي الوطني، الأمر الذي يفسر لنا طبيعة هذه الصراعات الجارية بين القطبين، رغم اقتراب الرؤية السياسية لحماس من اطار الرؤية السياسية لفتح ، بل وتقاطعهما معا بمساحة كبيرة نسبيا ، علاوة على انهما لا يختلفان من حيث الشكل والجوهر حول رؤية وبرنامج النظام الاقتصادي الحر أو الليبرالي "الجديد" ، ولكن يبدو ان الشكل المظهري والمصالح الفئوية والمخاوف المحتمله لدى كل منهما من الآخر ، فرضت –وما تزال- انتقال الحوار بينهما إلى شكله العنيف أو الدموي ، بعد ان بات كل منهما يرى في السلطة هدفاً في ذاتها، رغم إدراكهما لهشاشتها وضعفها وفقدانها لأي شكل من أشكال السيادة أو عناصر الولاية الجغرافية أو القانونية، إلى جانب فقدانها للهيبة أو القدرة على تطبيق الحد الأدنى من استحقاقاتها فيما يتعلق بفرض النظام أو سيادة القانون أو تامين وسائل الحياة، باختصار لقد باتت سلطة لا تستحق الصراع عليها أو من اجلها إلا لدواعي القبول أو التكيف أو المهادنة المقبلة وفق صيغة من التشارك في السلطة والحكومة لدى كلا القطبين، ما يستدعي من كافة القوى والفعاليات الوطنية الديمقراطية العلمانية عموما واليسارية منها خصوصا ، -رغم تراجعها وضعف تأثيرها في اللحظة الراهنة- أن تبادر إلى ممارسة أشكال من الضغط السياسي والجماهيري المتصل في محاولة لوقف هذا الصراع التناحري واشاعة النظام وسيادة القانون كمهمة عاجلة ، ثم البدء بمتطلبات اعادة ترتيب البيت الفلسطيني والاسهام في صياغة أسس تشكيل حكومة الوحدة الوطنية على قاعدة الثوابت الوطنية الديمقراطية الأساسية بما يضمن الحد الادنى من تكريس وبلورة الدور الوطني والمجتمعي لهذه السلطة من ناحية وبما يضمن فرض تنفيذ عملية إعادة إحياء كافة مؤسسات م.ت.ف وفي مقدمتها اعادة تشكيل وانتخاب المجلس الوطني الفلسطيني كمرجعية دستورية للسلطة، واعادة بناء م.ت.ف بمضمون وشكل جديدين انطلاقا من انها الاطار الجامع لكل ابناء شعبنا في الوطن والشتات ، علاوة على انها الضمانة الوحيدة –على قاعدة برنامج الاجماع الوطني- لسيرورة نضالنا الوطني الفلسطيني صوب تحقيق أهدافه الوطنية والديمقراطية على قاعدة ما يجب أن يكون وليس ما هو كائن.
أما في حديثنا عما هو كائن في الوضع الفلسطيني الراهن، فإننا لا ننكر أن في وسع حركة حماس أن تقدم نفسها بوصفها إحدى القوتين السياسيتين الرئيسيتين في الحركة الوطنية الفلسطينية، بل أنها في ضوء نتائج الانتخابات فرضت نفسها كقوة سياسية أولى، نعترف ونقر بشرعيتها وبوجودها ودورها، بمقدار إقرارها ببقاء مرجعية واسس المشروع الوطني الفلسطيني، وثوابته من جهة وبسيرورته كنظام تعددي ديمقراطي من جهة ثانية ، ما يعني أن من واجبنا أن نقطع الطريق على اية توجهات تسعى إلى إعادة إنتاج نظام الحزب الواحد بكل آثاره وعواقبه الخطيرة، وهذه مسئولية كافة الفعاليات والقوى الوطنية لحماية الصيغة التعددية للنظام السياسي، ومنع أي حركة أو فصيل من الانفراد بصناعة القرار وإدارة الشأن العام، اخذين بعين الاعتبار أن أي نقد للأداء السياسي لحركة حماس، لا يستقيم إلا متى ترادف مع نقد مواز لقوتين سياسيتين متضادتين ضدها، هما: الرئاسة وحركة فتح، من ناحية واللجنة التنفيذية ل م.ت.ف من ناحية ثانية وهما فاعلان كبيران في صوغ مشهد السياسة والسلطة صوب الوجهة الأكثر هبوطاً في السياسة الفلسطينية، ما يفرض، علينا أن ندرك، انه مهما كانت الأخطاء التي ارتكبتها حماس وحكومتها في إدارة هذه المرحلة الجديدة، لا يمكن رده إلى حماس وحدها، أو إلى الضغط الأمريكي والأوروبي والصهيوني عليها (وهو العامل الأكبر في المأزق)، وإنما ينبغي الاعتراف بان لفتح والرئاسة و م.ت.ف دوراً فيه غير قابل للإنكار، وهو نفس الدور الذي تتذرع به القوى الدولية والكيان الصهيوني وبعض النظام العربي لتشديد الخناق على حكومة حماس، عبر محاولات شبه يائسه لإفشالها وتأليب الرأي العام الداخلي عليها لتسهيل إسقاطها او ابتزازها ومن ثم تكييفها ، وهي امكانية قابلة للتحقق –أو بدأت بالفعل- ولكن بقرار ذاتي من حركة حماس ارتباطا بمأزقها على الصعيد المحلي والمحيطين العربي والدولي . أما فيما يتعلق بسلوك حركة فتح ، فإن من يقرأ هذه المواقف والأفعال، يلحظ مفارقة حادة تحكم ذلك السلوك ، حيث نلاحظ تأرجح "فتح" بين التصرف كمعارضة فقدت السلطة، وبين التصرف كسلطة لا ترى في الحكومة إلا معارضة في ثوب جديد، إنها لم تستوعب معنى المعارضة في النظام السياسي الحديث بوصفها قوة بناء وتصويب، بل بوصفها اداة لاستخدام القوة الاكراهية لفرض شروطها وسياساتها بوسائل لا تبتعد كثيرا عن اساليب الكيد واقتناص الفرص والثأر ، وفي هذا السياق فإن حركة حماس لم تتورع ابدا عن الاستخدام المتحفز لهذه الاساليب التي تفتقر إلى الحد المقبول من أخلاقيات السياسة والمنافسة، ليس لها من تفسير محدد سوى أنها تعكس قوة المصالح التنظيمية الفئوية والذاتية والطبقية المتراكمة، التي باتت مرجعاً أساسياً لهذا السلوك عند كل من القطبين بهذه الدرجة أو تلك ، دون ان نقفز عن الموضوعية في التحليل التي تفرض علينا الاشارة إلى دور الرئاسة في هذا الجانب وما تحاول ان تمثله من قوة ضغط أو اجراءات وقرارات أو محاولات عزل أو الحد من سلطات الحكومة ، حيث يمكن أن يتحول هذا الضغط غير المستند بوضوح –في قسم منه- إلى القانون والشرعية الدستورية والديمقراطية إلى شكل ما من الانقلاب على النظام الديمقراطي للسلطة وشرعيتها الهشه المبنية اساسا وفق محددات سلطة الحكم الاداري الذاتي المحدود التي يبدو ان طرفي الصراع يحاولان القفز عنها أو تكريسها ، غير مدركين أو مدركين أن ما يسمى بعملية التسوية، قد بدأت في الانحدار تدريجياً إلى قعر لا قرار له، قد يجرف في طريقه سقف المطالب الوطنية، وهكذا فمن "مؤتمر مدريد" إلى اتفاق أوسلو، ومن أوسلو إلى طابا والقاهرة وشرم الشيخ وواي ريفر واتفاق الخليل إلى تقرير ميتشل وخطة جورج تينت إلى خريطة الطريق إلى خطة شارون لفك الارتباط في غزة إلى خطة اولمرت والجدار الفاصل لتحديد حدود إسرائيل من جانب واحد، وصولاً إلى حصار غزة وإغلاق المعابر، وتواصل العدوان اليومي واغتيال المناضلين، وكل هذه العناصر والمعطيات أكدت على أن فكرة وآليات التسوية المرحلية قدمت مساهمة كبيرة في إصابة المشروع الوطني الفلسطيني في الصميم، وفي أخذه بعيداً عن مقدماته وثوابته السياسية، وكان ذلك بسبب عوامل اختلطت فيها المصالح الشخصية والطبقية والسياسية وسوء التقدير والفوضى التي حكمت القيادة الفلسطينية –وحركة فتح تحديداً- منذ إدارتها العمل الوطني وتفردها بعملية التفاوض، طوال العقود الأربعة الماضية عموماً، ومنذ عام 93 حتى بداية عام 2006 خصوصاً وسقوط حركة فتح بدواعي الفشل في السياسة وانتشار الفساد والمحسوبيات في المجتمع ، ومن ثم بداية مخاض المرحلة الجديدة وصراعاتها أو حوارها الدموي الذي جعل من تطبيق "الديمقراطية" في بلادنا صورة ممسوخة تليق بأشد المجتمعات تخلفا وانحطاطا . اذ انه على اثر فوز حركة حماس في الانتخابات وتشكيل حكومتها، اتخذ الصراع بين القطبين أشكالاً جديدة وطارئة، من التحريض والاستفزاز والتربص والقتل والاغتيال مما عزز تراكم العديد من المظاهر السلبية أو الأخطاء من كلا القطبين الرئيسيين رغم تباين الأسباب والدوافع ورغم الذرائع والمبررات التي يقدمها أو يدعيها كل منهما تجاه الآخر أو تجاه الجمهور، إلا أنهما يتحملان معاً مسئولية تلك الأفعال التي لا تندرج بأي حال في إطار الفعل السياسي المتحضر أو الديمقراطي الحديث او التعددية أو سيادة القانون، بل هي نقيض لكل هذه المفاهيم وخروج عليها. ذلك أن هذا النمط من الصراع الدموي الرهيب، يتجاوز المرجعية الدستورية والقانون الاساسي والقوانين والقواعد التنظيمية والسياسية النظيفة، ويهدد بحرف السلاح الوطني الفلسطيني عن أهدافه الوطنية والزج به في تناقضات حزبية ذاتية، وعشائرية ومجتمعية داخلية، في إطار الصراع على المصالح أو الحكم والسلطة كهدف مركزي يُضعف أو يُبهِّت كل الأهداف الوطنية الكبرى وقد يتخطاها. فمن السهل تماماً أن تعزو حركة "حماس" أسباب الطوق الدولي والإقليمي والعربي في مد يد العون لحكومتها، إلى الضغط الأمريكي والصهيوني، لكن هذا التفسير لمأزق الحكومة، وهو صحيح في كثير من جوانبه بغير شك، لا يكفي وحده لتسليط الضوء على مجمل العوامل التي وضعت تجربة "حماس" في السلطة أمام حالة من الضغط القاتل الذي يهدد بإسقاطها تحت مبررات قانونية أو غير قانونية إن لم تبدأ بالتكيف. بالطبع لقد كان بوسع حركة "حماس" أن تظل بعيدة عن هذا النفق السياسي الذي حشرت نفسها فيه اليوم، لو اكتفت بالمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، التي دخلتها بسبب وصولها إلى طريق مسدود –كما اشرنا من قبل- وهو مبرر منطقي ومقبول، لكن سعيها وقبولها بتشكيل حكومة السلطة كان مفاجئا للكثيرين ، خاصة وان ثمن هذه الخطوة (الحكومة) سيكون كبيراً عليها : لا بوصفها حركة مقاومة (لان دخولها المجلس التشريعي لن يمنعها من ممارسة الحق في المقاومة) وإنما بوصفها حركة جنحت إلى العمل السياسي الرسمي في سلطة الحكم الإداري الذاتي وهي مدركة تماماً شروط ومحددات هذه السلطة، وكان بوسع "حماس" –حتى مع مشاركتها في الانتخابات وفوزها بغالبية المقاعد أن تظل قوة تشريعية فحسب، وان تعتذر عن تشكيل الحكومة مكتفية بما لديها من قوة نقض في المجلس، لكنها –مرة أخرى- آثرت القبول وهي تدرك ان ثمنه أفدح من ثمن المشاركة في الانتخابات، وإنها ستقدم التنازل عن برنامجها ثمناً لتلك المشاركة إذا ما أصرت عليها وتمسكت بها. وأخيراً كان بوسع "حماس" –حتى مع قبولها تشكيل حكومة- أن تختار سبيل الحوار الوطني مع الفصائل كافة لتشكيل حكومة ائتلافية، لكنها آثرت أن تذهب وحيدة إلى مشروع الحكومة المتجانسة وبرنامجها الحمساوي، الذي خلق نوعاً من الازدواجية بين متطلبات البرنامج من ناحية وبين متطلبات واستحقاقات السلطة واتفاقاتها ودورها المرسوم من ناحية ثانية، وهي ازدواجية لم تستطع حماس، ولن تقدر، على حلها إلا بالخروج من السلطة والتمسك ببرنامجها أو التكيف والقبول بالمحددات السياسية للسلطة- وتلبية متطلباتها من ناحية والتكيف مع شروط المقرر الخارجي (الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي العربي الرسمي) من ناحية ثانية. ويبدو انه لم يعد بإمكان حماس الاستمرار في التمسك بهذه الازدواجية إلى أمد طويل، بعد أن وصلت أو كادت إلى طريق مسدود بالنسبة لتحقيق الآمال الكبيرة التي عقدها قطاع واسع من المجتمع الفلسطيني عليها ، وعجزت عن تقديم أجوبة مادية عن حاجاته الحياتية واستقراره وأمنه وعن تطلعاته الوطنية إلى الحرية والاستقلال، إذ انه بعد انقضاء عام على حكومتها والتفاف الجمهور حولها وصبره وتحمله لمزيد من أشكال الحصار والمعاناة والفقر، يبدو ان قسما كبيرا منه لم يعد قادراً على الاستمرار في الصبر والتحمل بعد أن استنفذ كل الوسائل وبدأت عوامل القلق والخوف والفلتان الامني واليأس والإحباط تطل برأسها من جديد، بسبب الفشل الذريع في الخروج من المأزق السياسي والمعيشي، المطلبي والديمقراطي من جهة وبسبب إحلال وتكريس حوار الدم والرصاص بين القطبين الرئيسيين من جهة ثانية. إن تسارع المتغيرات والأحداث والصراعات الداخلية بين القطبين، مع استفحال الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الداخلية، والتعقيدات والمخاطر السياسية التي تواجه مشروعنا الوطني، تجعلنا في حالة من الإرباك، التي تفتح بدورها باب الاحتمالات صوب العديد من " المستجدات" المتوقعة لأوضاعنا السياسية المجتمعية التي قد تكون اكثر ايلاما ومراره من الحالة الراهنة على سوداويتها، إذا لم تبادر كافة القوى والفعاليات الوطنية الديمقراطية إلى الإسراع في تشكيل التيار الوطني الديمقراطي العلماني القادر على استيعاب أوسع القطاعات الجماهيرية الشعبية في صفوفه، بما يمكنه من أن يصبح قوة ضغط وطنية يحسب حسابها من كلا القطبين، ذلك إن الفشل في تشكيل حكومة "الوحدة الوطنية" ، واستمرار الحصار والإغلاق مع تزايد أشكال المعاناة والإفقار والتذمر في صفوف الجماهير الشعبية والعاطلين عن العمل والموظفين وجماهير الفقراء عموماً، وما يعنيه ذلك من تزايد احتمالات الصراع أو الحوار التناحري المباشر بين فتح وحماس، سيدفع إلى تزايد الحديث أو المطالبة بحل السلطة، دون أن يملك احد تصوراً عملياً بديلاً لها قابلاً للاستمرار والاستقرار القانوني والأمني من ناحية، وقادراً على تقديم الحد الأدنى من الحلول المطلوبة للموظفين والعاطلين والشرائح الفقيرة، -من ناحية ثانية، مما يعني مزيد من تفاقم الأزمات المجتمعية والفلتان والفوضى والاقتتال الداخلي الدموي بينهما، إلى أن يتم حسم هذا الصراع لمصلحة أحدهما، وبدون أفق سياسي داخلي محدد، إلا ما سيفرضه المقرر الخارجي –الأمريكي الإسرائيلي- على شعبنا، ما سيعني ترسيخ السيطرة السياسية لمجموعات المصالح الطبقية ومشروعها القابل بمعطيات الخارج وشروطه. وفي هذه الوضعية، سينتظر شعبنا طويلاً، في ظروف تفوق في قسوتها نكبة عام 1948، إلى أن تتم الترتيبات الإقليمية والدولية الجديدة التي تضمن تكريس هيمنة العدو الإسرائيلي كقوة رئيسية في المنطقة، ومن ثم احتمال الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي في أجواء هزيمة مركبة لن يكون لشعبنا وقواه الديمقراطية دوراً مركزياً فيها سوى رفض ومقاومة القبول الإكراهي بنتائجها ، وهي خطوة مرهونة بالفعل وبصورة محددة بإحياء دور وتأثير برنامج التيار الديمقراطي الوطني في هذه اللحظة ، وهذا يدفعنا إلى قراءة سريعة ومكثفة للوحة السياسية الفلسطينية الراهنة ومكوناتها واطرافها ، حيث يمكن الاشارة إلى ان القوى المؤثرة للتعاطي مع أو لمواجهة هذه الصيرورة المحتملة، –حسب الرؤية السياسية لكل منها- هي تحديداً فتح وحماس كقطبين رئيسيين في هذه المرحلة، ثم تأتي الجبهة الشعبية وحركة الجهاد وبمسافة بعيدة عنهما، ثم كل من الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب وجبهة النضال، على مسافة أكثر بعداً، أما بقية القوى أو الفصائل الأخرى فهي فاقدة للدور والتأثير. بالنسبة لحركة فتح وكيفية تعاطيها مع هذه الاحتمالات، فإنها قد تتحرك انطلاقا من أن إمكانية عودتها إلى السلطة عبر الطريق الشرعي –الديمقراطي، هي إمكانية شبه مستحيلة من ناحية، إلى جانب أن الانتخابات القادمة تحتاج إلى ثلاث سنوات (يناير 2010)، قد تتعرض فتح خلالها إلى مزيد من الأزمات الداخلية التي يمكن أن تسدل الستار عليها كحركة، إلا إذا استطاعت الخروج من أزماتها، وهذا يحتاج إلى عمليات جراحية متعددة ومعقدة، غير مضمونة النجاح، ما يعني استمرار تمسك حركة فتح بشروطها ومشروعها السياسي كأساس لتشكيل حكومة "الوحدة الوطنية" بشرط ضمان التكيف والتراجع السياسي لدى حركة حماس، أو استمرار تأجيج الصراع الداخلي أو اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ عند لحظة محددة ، في إطار دور مباشر أو غير مباشر من المقرر الخارجي الأمريكي –العربي الرسمي والإسرائيلي. من ناحية أخرى فان حركة حماس التي تدرك جيداً دورها المستقبلي –في المشهد السياسي الإسلامي الذي لم تتحدد معالمه بعد في إطار إدراكها لحجمها السياسي والمجتمعي في أوساط الجمهور، فهي أيضاً تدرك التراجعات –على الصعيد الشعبي- التي أصابت حجمها خلال السنة الماضية بفعل الحصار ونتائجه من جهة وبفعل بعض ممارساتها السلبية من جهة ثانية التي قد تنجح فتح في توظيفها، كما تدرك حماس أيضاً أن الصراع مع العدو الإسرائيلي الأمريكي، واستمرار محاصرته لحكومتها، وللشعب الفلسطيني بالطبع، إنما يهدف إلى تكييفها، ارتباطا بتكييف العديد من القوى الإسلامية في بلدان الوطن العربي، وهي ليست ضد التكيف مبدئياً، إنما هي تبحث عنه بشروط ليست مهينة كلياً، وإذا كان "الاتحاد الأوروبي" عموماً يقدر لحماس هذا التوجه، إلا أن الولايات المتحدة وإسرائيل، تريدان لها التكيف السريع، على الأقل في إطار قبولها العلني والصريح بالاتفاقات المعقودة مع السلطة منذ أوسلو إلى اليوم، والاعتراف المتبادل، لكي تصبح طرفاً في المعادلة السياسية، وهو أمر قد يتحقق في نهاية المطاف، لكن تحققه لن يكون سهلاً، إذ سيسبقه مزيداً من الصراع والإجراءات الإسرائيلية الأمريكية القاسية التي يمكن أن تمهد أو تبرر التكيف فيما بعد، ويبدو أن لا خيار أمام حركة حماس إذا أرادت الاستمرار في حكومة السلطة (وهي حريصة جداً عليها)، إلا التكيف عبر الصراع. وفي كل الأحوال فإننا أمام قطبين رئيسيين سيظل الصراع بينهما قائماً –بصوره السياسية والدموية- إلى أن يتم حسمه لحساب احدهما –وفق موازين القوى- أو لحسابهما معاً، وهذا الأخير يعني استعداد "حماس" للاقتراب من مشروع فتح السياسي في إطار حكومة "الوحدة الوطنية" التي يجري تداولها، أما الخطر الأكبر الذي يواجه شعبنا الفلسطيني اليوم، فهو يتعلق بمسألة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس ومستقبلها، فالدولة الفلسطينية في وضعها الحاضر هي دولة "السلطة" إنها لا تملك أياً من المقومات الأساسية للدولة أو أركانها سوى الأفراد أو السكان أو الشعب المحكوم بقانون الفوضى والفساد، أو بقانون "الصراع الدموي" الجاري الآن، أما الأركان الأخرى الإقليم/ السلطة الفعلية/ السيادة، فهي أركان مستلبة، غير متحققة حتى اللحظة، وبالتالي فان "الدولة الفلسطينية" بشكلها الحاضر ليست دولة ولا يمكن أن تصبح دولة في ظل شروط شارون/ اولمرت أو اتفاقات أوسلو وما ترتب عليها، من ناحية أو شروط "خارطة الطريق" و"الدولة القابلة للحياة" من ناحية أخرى، حتى لو اعترفت بها إسرائيل وأمريكا، ذلك إن قيام دولة حقيقية يتطلب كخطوة أولى ثلاثة شروط أساسية: 1- الانسحاب الإسرائيلي التام. 2- إزالة المستوطنات والجدار . 3- السيطرة الفلسطينية على الأرض والسكان والموارد والحدود والمعابر والموانئ البحرية والجوية علاوة على الاعتراف الدولي الكامل بها في إطار ديمقراطي نيابي بما يؤكد ويرسخ مفهوم السيادة للدولة الفلسطينية. وفي هذا السياق أشير إلى أن الانتفاضتين ، الأولى والثانية ، عززتا الميل داخل المجتمع الإسرائيلي صوب القبول بفكرة الدولة الفلسطينية، إلا أن محددات وسلوكيات الانتفاضة الثانية والممارسات السلبية التي رافقتها أدت إلى كوارث سياسية ومجتمعية...من أبرزها إزاحة المجتمع السياسي الفلسطيني الذي بلورت معالمه الانتفاضة الأولى، لحساب مجتمع الفوضى والمحسوبيات والفساد السياسي والاقتصادي، بحيث صبغت العسكرة الرثة مجتمعنا الفلسطيني، بكل ما تحمله من مخاطر السلوك الفردي، والمصالح الفئوية والعشائرية الخاصة، واطر الشللية أو المجموعات المسلحة التي تفتقر في معظمها للقواعد والسلوكيات الأخلاقية التنظيمية السليمة أو الأهداف السياسية المحددة لها ولممارساتها في الزمان والمكان المناسبين. بالطبع المقاومة بالنسبة لنا ركن أساسي من أركان النضال الفلسطيني والسياسة الفلسطينية، وقد باتت الحاجة أكثر من ملحة من اجل توحيدها (من حيث الخطة والأهداف والمنهجية والظرف المناسب) في مجابهة الحصار العدواني الصهيوني وانسداد أفق الحل العادل والعزلة التي تتعرض لها قضيتنا الوطنية، علاوة على حالة التفكك أو شبه الانهيار الداخلي على الصعيد المجتمعي، وهي عوامل تفرض وحدة المقاومة بمثل ما تفرض صياغة الإستراتيجية السياسية الاجتماعية الاقتصادية لتكون محدداً أساسياً ومرشداً للمقاومة التي آن أوان توحدها ميدانياً وفق ضوابط صارمة –نابعة من الضغط الشعبي المنظم- لوقف كافة مظاهر الخلل والزعرنة والشللية والاستزلام والفساد التي سادتها وتراكمت فيها. فالوضع الراهن يشير إلى أن السياسة باتت فناً للفوضى أو الموت البطيء بدلاً من فن إدارة الصراع الوطني والاجتماعي، وهي حالة يمكن أن تؤدي إلى نكبة أشد خطراً وعمقاً من نكبة 48... معنى ذلك هناك خلل كبير يدفع ثمنه شعبنا الفلسطيني عموماً والجماهير الفقيرة خصوصاً. ذلك أن ما يجري هو شكل من الفوضى السياسية والمجتمعية المحكومة بالطبع بأهداف ومصالح وبرامج محددة بالرغم مما يبدو من تعدد المحاور السياسية والتنظيمية والأمنية، التي تسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني وبلورته في الصيغة المطلوبة وفق مقتضيات الصراع بين القطبين، (فتح وحماس) في إطار فسيفساء متناقضة أو حالة من الفوضى والصراع قد يفقد معها المشروع الوطني عناصره وثوابته الجوهرية ما سيدفع إلى ولادة نظاماً أو مشروعاً وطنياً مشوهاً عاجزاً عن حمل مواصفات وشروط النظام السياسي أو برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني لحساب هوية الإسلام السياسي أو الأمة الإسلامية، حينئذ لن تكون هذه الهوية بديلاً للمشروع الوطني فحسب بل ، "ستمثل" نهاياته لكي تبدأ بالسير في مشروعها ، وهي إمكانية نزعم أنها مستحيلة التحقق في فلسطين راهناً إلا إذا استطاع تيار "الإسلام السياسي" أن يصبح مشهداً رئيسياً في بعض أو معظم بلداننا العربية، وهو أمر لا يمكن تحققه بدون التكيف مع السياسات الأمريكية. فإذا كانت بعض ممارسات الانتفاضة الثانية قد جلبت الكارثة –ولو بالمعنى الجزئي- على الصعيدين المجتمعي الداخلي والسياسي العام، وعززت دور حماس الكفاحي والنضالي الذي نقر به، ونحترمه ، بمثل ما نقر بأنه يحمل مضموناً سياسياً وأيدلوجياً مغايراً يعبر عن نفسه عبر هوية لا نريد لها أن تشكل نقيضاً حاداً أو دموياً للهوية الوطنية ، من هنا اهمية الاقرار بمبدأ فصل الدين عن الدولة دون ان يعني ذلك موقفا سلبيا من الدين أو الجوانب الايجابية العديدة في تراثنا العربي الاسلامي . لذلك، علينا كتيار وطني ديمقراطي عموماً، وقوى يسارية خصوصاً أن نتعاطى مع ما يجري من على أرضية المصالح والاهداف الوطنية والقومية التقدمية الديمقراطية الكبرى وليس من منطلق حماس أو فتح ، خاصة وان كلاهما يعيش أزمة خانقة أو تحولات خطيرة... وهذا يحتاج منا إلى إعداد أنفسنا للبناء عبر مرحلة تمكين حقيقية على المستوى التنظيمي والفكري والسياسي، بما يحقق تطلعنا المشروع والتاريخي لاستعادة دورنا وتأثيرنا المستقبلي القريب المنشود، انطلاقاً من قناعتنا بان هذه المرحلة ليست مرحلتنا دون أن يعني ذلك انكفاءنا أو عزلتنا عن الجماهير، رغم اعترافنا بهذه العزلة التي أدت بنا إلى ما نحن فيه من تراجع وتفكك وضعف للدور والتأثير. لقد بات المقرر الخارجي أو العدو الأمريكي الإسرائيلي –في لحظة الهزيمة الراهنة- صاحب القرار الحاسم في حاضرنا ومستقبلنا القريب، ولكن هذا لا يعني ان هذا العدو قد نجح في هزيمة شعبنا أو تصفية نضاله الوطني من اجل تحقيق الأهداف الوطنية في العودة وتقرير المصير والاستقلال والدولة وعاصمتها القدس، لكن المتغيرات في موازين القوى المباشرة بيننا وبين العدو الإسرائيلي من ناحية وتفاقم مظاهر التفكك الاجتماعي وتراجع الدور الملموس للسلطة و م.ت.ف معاً من ناحية ثانية يفرض على قوى التيار الديمقراطي الوطني ونواته أو طليعته اليسارية خصوصاً ، التركيز في المرحلة الراهنة على بناء وتطور المجتمع والتمسك بثوابت برنامج الإجماع الوطني للنظام السياسي الفلسطيني كهدف استراتيجي يحتل الأولوية في الفعل السياسي الديمقراطي الفلسطيني الراهن، باعتبار ان تحقيق هذا الهدف السياسي الوطني الديمقراطي هو الشرط الأساسي لاستكمال عملية التحرر ببعديها الوطني والديمقراطي معاً. وهذا يعني الإسهام بدورنا كمهمة عاجلة في وقف كافة الأساليب أو المظاهر المسلحة الضارة وتجميع السلاح تحت مظلة العمل الميداني المشترك المرتبط بإستراتيجية وطنية وآليات نضالية محددة المعالم محكومة بتلك الإستراتيجية في كل الأحوال . وفي محاولة للخروج من المأزق المعقد، علينا أن نبذل الجهود المكثفة من اجل: 1- إعادة الاعتبار لتوصيف المرحلة بوصفها مرحلة تحرر وطني وديمقراطي. 2- تفعيل مشاركة الجماهير، والعمل على مواجهة العراقيل والأعباء الناجمة عن مواقف العدو الإسرائيلي/الامريكي والقوى العربية الرسمية والقوى الإقليمية والدولية الداعمة أو المنسجمة مع تلك المواقف . 3- المطالبة بضرورة تشكيل حكومة ائتلاف وطني، أو "حكومة وحدة وطنية"، على أساس وثيقة الوفاق الوطني ، لحماية المشروع الوطني وثوابته وحماية المجتمع الفلسطيني وتفعيل مضمون الوحدة الوطنية، دون أن يعني ذلك مشاركتنا فيها، لان هذه الحكومة ستكون –من الناحية الموضوعية- مرهونة بمحدديها الرئيسيين (فتح وحماس) وبالتالي لن يكون لنا في التيار الوطني الديمقراطي أي تأثير كبير عليها، ورغم ذلك فإننا من حيث المبدأ مع تشكيل حكومة الائتلاف الوطني كموقف وطني عام، لأنها قد تمثل في اللحظة الصعبة الراهنة، إمكانية وأد الصراع الدموي ووقف الانهيار الداخلي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ورفع الحصار عن شعبنا وهي مطالب عامة ومحددة لا تستدعي مشاركتنا بل تستدعي بقائنا في قيادة المعارضة الوطنية الديمقراطية وفق رؤيتها ومضمون برنامجها السياسي والمطلبي الذي يجب أن يكون مرشداً وهادياً لنا في الانخراط الواسع والنشط في أوساط الجماهير من ناحية بمثل ما يجب ان يكون صمام الأمان للمعارضة ضد كل أشكال الهبوط السياسي والفساد الاقتصادي والتفكك المجتمعي من ناحية ثانية. أخيراً، قد نتفق على أن الحرب الجديدة، المتصلة، في لبنان وفلسطين، أوضحت بان دولة العدو الإسرائيلي، هي جزء من النظام الأمني الأمريكي، أو هي حالة امبريالية صغرى في المنطقة ، وبالتالي فهي عنصر فاعل في السيطرة على الوضع العربي المهزوم راهناً، أو ما يسمى بلغة "كونداليزا" الشرق الأوسط الجديد، وهي فكرة قديمة، تم استحداثها أمريكيا، لتأكيد وتسويغ هيمنة القوة الإسرائيلية في إطار التوافق المطلق بين الدولتين أو الأم ووليدها، الأمر الذي يفرض ألا ننساق وراء أوهام أنتجتها أزمات العمل السياسي، والعجز الذي أصاب الحركات والفصائل والقوى الوطنية والقومية اليسارية بالذات، في صراعها المنطفئ –في اللحظة- بسبب عجزها وتراخيها أو تفككها وتراجع هويتها التقدمية وانحسار دورها، وهي حالة يمكن أن تكون مؤقتة او عابرة –رغم ازمتها وتراكماتها السالبة وطول امتدادها خلال السنوات الماضية والى الآن- الأمر الذي يتطلب منا رؤية الأمور كما هي في الواقع، حيث يجب أن ننطلق (في التحليل السياسي للحالة الراهنة) من عدد من البديهيات: الأولى: ان الدولة الصهيونية هي في ترابط عضوي مع الامبريالية الأمريكية، كما كانت منذ نشوئها في ترابط عضوي مع رأس المال الامبريالي البريطاني في مراحل سابقة، فهي أداة هذا الرأسمال للسيطرة على مقدرات وثروات الوطن العربي لحساب الامبريالية الأم، ولا يمكنها ان تعيش وتستمر دون هذا الترابط او ذلك الدور الوظيفي، وبالتالي يمكن التفكير في ان أي حل مرحلي مع هذا العدو هو نوع من الوهم طالما بقيت موازين القوى على ما هي عليه. الثانية: إن إستراتيجية السيطرة الأمريكية على "الشرق الأوسط الجديد أو الموسع" تخصص دوراً مركزياً للدولة الصهيونية –في لبنان وفلسطين وربما سوريا،لاستكمال الدور العسكري الأمريكي وتعزيزه في العراق وأفغانستان وربما في إيران وغيرها في مرحلة قريبة لاحقة، وهذا هو بالأساس ما يبرر الدعم المالي والعسكري الأمريكي لهذه الدولة، وهو دعم مخطط ومتصل دون أية شروط أو حدود الثالثة: أن مستقبل المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، إذا لم يسدل الستار عليه، في ظل معطيات المصالح والصراعات الراهنة، بات محكوماً –إلى حد بعيد- لأدوات طبقية (بيروقراطية وكومبرادورية) تعبر عن مصالحها رموز الواقعية السياسية أو الهابطة بالمشروع الوطني إلى أرضية وشروط اولمرت والسياسات الأمريكية المتصلة بها.
الرابعة: ان مشروع الإسلام السياسي هو مشروع بديل –من وجهة نظر أصحابه- لكل من المشروع الوطني والقومي التقدمي الديمقراطي، وبالتالي فهو جزء من مشروع الإسلام السياسي على المستوى العربي الإقليمي لحركة الإخوان المسلمين، وهو مشروع (بحكم المكونات الطبقية أو الاجتماعية والاقتصادية لهيئاته القيادية والوسطى) لا يتناقض في جوهره مع السياسات الاقتصادية الأمريكية، الأمر الذي سيهدد بالضرورة، مجمل النظام السياسي الفلسطيني، وثوابته الوطنية التي عرفناها في إطار م.ت.ف منذ عام 1964 لحساب مشروع أو هوية بديلة . إن هذه البديهيات تدعونا لإعادة بناء رؤيتنا ودورنا المستقبلي، وهي عملية تندرج تحت بند "الضرورة التاريخية" للتيار الوطني الديمقراطي عموماً ولليسار خصوصاً في فلسطين والوطن العربي، انطلاقاً من قناعاتنا بأن النظام السياسي العربي في واقعه الحالي من الخضوع والتبعية والارتهان والتخلف لن يتمكن من الاستمرار، وان التغيير –في المدى القريب والمتوسط- قد يتحقق ولكن باتجاه أهداف مغايرة لأهدافنا... وباتجاه مشهد جديد يحمل أفكاراً وبرامج نقيضة لأفكارنا وبرامجنا.... المهم أن نتدارك ونطرد عوامل الأزمة والهبوط في أوساط التيار الوطني الديمقراطي، اليساري، ونعيد إحياء الدافعية الذاتية والروح الجماعية في دواخل كل عضو فيه، حينئذ سنملك القدرة على توجيه دفة حركة التحرر الوطني الديمقراطي صوب أهدافنا ورؤيتنا ليس في الإطار الوطني الفلسطيني فحسب بل في إطار الرؤية والحركة التحررية القومية المستقبلية الاشتراكية الوحدوية الكفيلة وحدها بإزاحة كل عوامل الهزيمة واستنهاض الجماهير الشعبية وتحقيق أهدافها في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتقدم.
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
واقع الصناعة والتجارة في الضفة الغربية وقطاع غزة
-
دراسة حول : البلديات والنقابات المهنية والعمالية في فلسطين
-
دراسة أولية حول : التعليم والتعليم العالي في فلسطين
-
دراسة أولية حول : الواقع الثقافي الفلسطيني
-
الاوضاع الصحية في فلسطين
-
المسالة الزراعية والمياه في الضفة الغربية وقطاع غزة
-
الوضع العربي الراهن وآفاق المستقبل
-
العولمة والعلاقات الدولية الراهنة
-
ورقة حول -الحصار وانعكاساته على الأوضاع الاقتصادية- مقدمة إل
...
-
مداخلة حول ورقة أ. تيسير محيسن - آفاق التحولات البنيوية في ا
...
-
ورقة أولية : حول فشل اليسار ... وسبل نهوضه - وجهة نظر للحوار
-
دراسة حول الخيارات والبدائل المتاحة للتشغيل بعد الانسحاب من
...
-
الاقتصاد الفلسطيني .. الواقع والآفاق
-
المفكر الفلسطيني غازي الصوراني ل -الخليج-: الأمة العربية قاد
...
-
التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة في المجتمع الفلسطين
...
-
التحديات والمخاطر السياسية والاقتصادية -لخطة شارون- وسبل الم
...
-
دراسة حول/ المشروعات الصغيرة في فلسطين: واقع ورؤية نقدية
-
الإصـــــلاح الاقتصـــــادي ضرورة تنموية وطنية
-
حوار مع أ.غازي الصورانـي حــول : قضايا الثقافة الفلسطينية وا
...
-
ورقة/ تعقيب على مداخلتين حول: أثر التطورات المحلية والعالمية
...
المزيد.....
-
إطلالة مدهشة لـ -ملكة الهالوين- وتفاعل مع رسالة حنان ترك لجي
...
-
10 أسباب قد ترجح كفة ترامب أو هاريس للفوز بالرئاسة
-
برشلونة تعاني من أمطار تعيق حركة المواطنين.. وفالنسيا لم تصح
...
-
DW تتحقق - إيلون ماسك يستغل منصة إكس لنشر أخبار كاذبة حول ال
...
-
روسيا تحتفل بعيد الوحدة الوطنية
-
مصر تدين تطورا إسرائيليا -خطيرا- يستهدف تصفية القضية الفلسطي
...
-
-ABC News-: مسؤولو الانتخابات الأمريكية يتعرضون للتهديدات
-
ما مصير نتنياهو بعد تسريب -وثائق غزة-؟
-
إعلام عبري: الغارة على دمشق استهدفت قياديا بارزا في -حزب الل
...
-
الأردن.. لا تفاؤل بالرئاسيات
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|