صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1809 - 2007 / 1 / 28 - 11:30
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
يقول عبدالمنعم الاعسم: " تعالوا نسأل انفسنا: مَنْ جاء بمنْ؟ او مَن الذي اوصلنا الى هذه الدوامة؟.
ليعود فيعترف ان البعض لن يكون له من الصبر ما يكفي للبحث عن الحقيقة في هذا الواقع المثير للأعصاب, وهؤلاء سيقولون " ماذا يفيدنا هذا البحث المضني في " مَنْ جاء بمن؟" المهم هو البحث في ما ينقذنا من هذه الدوامة الكارثية"
هناك ايضاً من يخشى ان تكون الحقيقة مرعبة اكبر من القدرة على تحملها. هذا الفريق كما اشار اليه الأعسم سيرى ان البحث سوف " يزيد الانشقاق ويضاعف الضغينة ويستنزف الوقت ويطيل من امد الدوامة، ولا ينفع في خروجنا الى شاطئ الامن وفضاء الامان."
لكن الحقيقة ان المعوق الأساسي لقبول حكم العقل والبحث هو ان كل فرد في هذا المسلخ يعتقد انه يعرف الحقيقة بشكل واضح وانه ليس بحاجة الى البحث والتفكير بل يجب الإسراع بالعمل في الطريق الذي يراه هو لوقف هذا الإرهاب. هؤلاء يرون ان اي دعوة للتروي والتفكير والدراسة اضاعة للوقت تتيح للمجرم فرصة إضافية للإستمرار في اجرامه.
قد يكون استعمال العقل في الوضع المتوتر امراً متعباً عسيراً, ولا يعد بحلول سحرية سريعة. لكن في الوضع الصعب, حيث نحتاج لكل مجساتنا, فمن الطبيعي ان يكون لمجسنا الأساسي الكبير المميز للإنسان, العقل, الدور الأكبر والكلمة النهائية. وعلى اية حال فحتى ان لم يكن طريق البحث والحكمة اسرع الطرق لإيجاد الحل, فله افضلية نشر روح العدالة والقانون, بينما تنشر العشوائية والتسرع الإحساس بالظلم والهمجية والرغبة بالإنتقام.
وصلني بالإيميل مقال كتبه الصحفي المعروف توماس فريدمان في النيويورك تايمز تحت عنوان: "مارتن لوثر كنك؟" يبدأه كما يلي:
"من الصعب ان نعرف ايهما اكثر اثارة للإنزعاج: القتل الطائفي البربري الذي يقوم به السنة والشيعة في العراق, ام الصمت المطبق على العالم الإسلامي ازاء هذه الجرائم. كيف يمكن ان تثير رسوم الكاريكاتير الدنماركية كل تلك الإحتجاجات العنيفة بينما لا يثير اهتمام العالم العربي الإسلامي كل ذلك العنف الذي يعجز الكلام عن وصفه اكثر مما تثيره نشرة الأنواء الجوية؟ اين هو مارتن لوثر كنك الإسلامي؟ اين صارت المسيرة المليونية الإسلامية بشعارها "لاشيعة ولا سنة, كلنا ابناء النبي محمد؟"
يستمر فريدمان: "يمكنني ان افهم الصمت العربي عندما يقتل المسلمون الأمريكان في العراق. الكثير منهم يرانا كمحتلين. لكنني لا استطيع ان افهم كيف ان الذبح الجماعي لـ 70 من طلبة جامعة بغداد في الأسبوع الماضي من قبل الإنتحاريين السنة او تفجير المسجد الشيعي في اول رمضان عام 2005 لم يلق اي اهتمام؟ كل يوم يقتل 100 ضحية اضافية."
يضيف فريدمان: "تريد الإنظمة العربية ان تقنع الأمريكان ان هناك خياران فقط: الأسلاميين او الأنظمة, وبذا ستختار اميركا الأنظمة"
ثم يعود فريدمان لتوجيه انتقاده الى حسن نصر الله وقادة حماس لأنهم يفضلون ان يكونوا بيادق لسوريا وايران بدلاً من وكلاء للتغيير الديمقراطي والمصالحة الأسلامية.
دعوة فريدمان السلمية الديمقراطية تبدو جميلة ومقنعة, ولاشك ان ظهور مارتن لوثر كنك اسلامي سيكون عظيم الفائدة لنا مثلما كان مارتن لوثر كنك لشعبه. كتابة فريدمان, يمكن ان تعتبر اتجاهاً عاماً للتفكير الغربي في الأزمة العراقية والذي يقارب كثيراً الفكر السائد بدرجة عالية لدى المثقفين العراقيين عن اسباب المشكلة وحلولها, لكن ما طرحه فريدمان يثير لدي اسئلة عديدة وسأبدأ من اقلها اهمية لنناقش الموضوع الرئيسي في النهاية.
اولاً, ورغم احترامي الشخصي الكبير للمناضل الأمريكي مارتن لوثر كنك, لكنه بالتأكيد ليس المثال الأفضل لما يحتاجه العراق. فاولاً لا يشبه الوضع الأمريكي في وقته ولا الصراع الذي خاضه كنك ولا اهدافه الرئيسية امثالها في العراق. فلم تكن هناك "حرب طائفية" في اميركا, ولم يكن الموضوع الأساسي هو "المصالحة" بل كان "الحلم الأمريكي" لمارتن لوثر كنك يتلخص بوقف الإضطهاد العنصري الأمريكي للسود, وهو ما لم يكن موجوداً في العراق اساساً. كما ان اميركا لم تكن في وقت لوثر كنك تحت الإحتلال, والذي هو صفة اساسية لوضع العراق بل الصفة الأساسية فيه. لماذا يتجاهل فريدمان مشكلة الإحتلال؟ ولماذا اختار مثالاً من التأريخ الأمريكي دون غيره من التأريخ الإنساني العالمي الغني بامثلة افضل؟ سأترك التقدير للقارئ. في مقابلة بالهولندية نشرت على الإنترنيت قلت يوماً اننا في العراق بحاجة الى "غاندي" عراقي ومازلت مقتنعاً ان هذا مثال افضل.
أما عن "الأنظمة العربية الدكتاتورية التي تريد اقناع اميركا ان خيارها بين اسلاميين ارهابيين وحكومة دكتاتورية على العرب, فمعقول, لكن من المعقول ايضاً, والذي نساه فريدمان هو ان اميركا ربما تريد ان تقنع العراقيين بان خياراتهم الممكنة هي بين الإرهاب الإسلامي وبين القبول بالإحتلال الأمريكي, وهكذا يؤدي الإرهاب لأميركا فائدة عظمى.
السؤال الآخر, او بالأحرى الإستغراب الآخر هو لماذا اختار فريدمان حسن نصر الله وحماس ليصب عليهما اتهامات بالتقصير في "التزام الديمقراطية", والمثالان (بغض النظر عن رأي اي كان بهما من الناحية السياسية والدينية) اقرب القيادات العربية الى الديمقراطية بلا منازع! فحماس التي انتخبها الشعب الفلسطيني بشكل اساسي لنضافتها من الفساد, وصلت السلطة بانتخابات مثالية لم تحصل في اي بلد عربي او في العالم الثالث باعتراف الأمريكان انفسهم ولاينكرها الإسرائيليون. اما حسن نصر الله فيقود حزباً يشارك بشكل ديمقراطي في حكم بلاده, ولم يتبع حتى اليوم غير الوسائل الديمقراطية في احتجاجاته. وعلى اية حال فالمثالان اكثر ديمقراطية من جميع الأنظمة العربية "ألمعتدلة" التي تدعمها بلاد فريدمان بلا استثناء, وهما يسيران في نهج مدعوم شعبياً اكثر كثيراً حتى من الدعم الذي لدى رئيس فريدمان وادارته من الشعب الأمريكي التي لم يبق لها من الدعم إلا اقل من الثلث, وقد اعلنت مؤخراً بصراحة تجاهلها لقرارات الكونكرس الذي انتخبه الشعب الأمريكي مؤخراً. واما علاقة نصر الله مع سوريا وايران فعلاقة مصلحة (في صراع مع عدو مشترك) يدعمها ناخبي نصر الله تماماً. لذا لا ينطبق مثال "البيادق التابعة" على نصر الله وقادة حماس كما ينطبق على حلفاء بوش, وخاصة حليفه الأول, بلير, الذي يسير وراء بوش رغم اعتراض شعبه عليه, الذي يصفه بـ "كلب بوش". ينطبق هذا ايضاً على رأي معظم الشعب الهولندي في علاقة الحكومة الهولندية المغادرة ببوش وكذلك اراء العديد من الشعوب "الحليفة" لأميركا, فاي الحالات يصلح اكثر كمثال لـ "البيادق التابعة"؟ سؤال اخر اتركه للقارئ, ولصاحبي المعجب بفريدمان والذي ارسل المقالة, ثم ننتقل الىالموضوع الرئيسي في مقالة فريدمان – الطائفية في العراق – والذي هو ايضاً موضوع مقالتي.
برأيي ان مقالة فريدمان لم تمثل دعوة الى التفكير لحل مشكلة الإرهاب في العراق, بل تمثل بشكل ممتاز حالة "الرغبة بالقفز الى الحل" التي اشرت اليها في بداية المقالة. إنها عبارة عن لوم متتالي للمسلمين الذين لم يتخذوا القرار لوقف المجرم في الإرهاب, والذي يعرفه فريدمان وكثير غيره مسبقاً: الطائفية الإسلامية.
لكن, لو اردنا "التفكير", لتوجب علينا وضع الآراء المسبقة جانباً, مهما كانت شائعة وبدأنا بمراجعة مصداقية ما نعرف ونعتقد عن الأمر, وان كانت اراؤنا تستند الى وقائع مثبة وادلة كافية. علينا ان نحلل متهمنا الأساسي ,"الطائفي", ونعرف دوافعه وتفكيره, ونفحص ان كانت شخصيته وامكاناته صالحة لتفسير ما ننسب اليه من جرائم, واي منها يفسره التفكير الطائفي واي منها غريب عنه. فرغم ان الطائفية اصبحت في العراق حقيقة قاسية لايمكن نكرانها, ورغم انه مما لاشك فيه انها مسؤولة عن الكثير من الجرائم الإرهابية في العراق, لكني اجد ثمة مؤشرات شكوك تفرض نفسها بأنها الإرهابي الوحيد او حتى الإرهابي الأهم في العراق.
علينا ان نتذكر ان تسهيل الأمر على انفسنا برمي كل الإرهاب على عاتق الطائفية, اجراء خطير للغاية, وحالة لو ثبت صحتها فاننا في مأزق لا حل له (*). ذلك اننا نتهم بهذا جميع الشعب العراقي تقريباً بانه يتكون من سفاحين فاقدين لأية ذرة من العقل, ولا حل سوى وضعهم جميعاً في مصحة عقلية دولية. فإن لم نرد ان نتعجل استنتاج مثل هذا الحكم الرهيب على شعبنا، توجب علينا تحمل الصبر اللازم لتفصيل المشكلة وفحصها بدقة. ويبدو لي ان السؤالان الأساسيان هنا هما:
1- ما هي الجرائم المؤكدة التي ارتكبتها وترتكبها الطائفية, وما هي الجرائم المحتلمة لها، وما هي الجرائم الملصقة بها اعتباطاً؟
2- ما هي الطريقة المثلى للتصرف مع الجرائم "الطائفية"؟
وان بدأنا كالعادة بالسؤال الأسهل, وهو الثاني, فلا اقصد بـ "التصرف", اتخاذ المواقف العامة مثل "الإدانة" و "الإستنكار" الذي يملاً الجو لغطاً لافائدة منه غير التشويش على التفكير, بل المواقف العملية التي يؤمل من خلالها وقف او تقليل تلك الجرائم. وهنا اجد ان الجهد التحقيقي والتفكير العلمي يجب ان يأخذ مكانه لإيجاد مثل ذلك الرد, ولا مجال للإجابة عنه في مقالة. لكنني, اضافة الى توكيد اهمية البدء بالبحث, اشير الى خط رئيسي قد يمكننا الإتفاق عليه, وهو ان تعامل تلك الجرائم قدر الإمكان بشكل شخصي. ان يبحث عن المجرمين المنفذين والمخططين للجرائم وان ينالوا جزاءهم القانوني بلا رحمة مهما كانت القوى التي يستندون اليها, وهو ليس سهلاً.
تصرف رئيس الوزراء المالكي الأخير في مجلس النواب مع عبد الناصر الجنابي احد النواب من "جبهة التوافق, كانت بعكس هذه الروحية تماماً. فإن كانت لدى رئيس الوزراء معلومات عن مساهمة النائب في اختطاف 150 عراقياً فواجبه يحتم عليه كشفها, وإلا فعليه ان يتحمل المحاسبة القانونية لإخفاء مثل تكل المعلومات والأدلة. وان لم تكن, فيتوجب محاسبته على مثل هذه التهم بلا ادلة كافية. وفي كل الأحوال فمن الخطأ الفضيع استعمال مثل هذه المعلومات للرد على استفسارات نائب برلماني يسأل مشككا "لماذ تحاصرون شارع حيفا؟" فيقول المالكي : " "عندما احرك ملفك واعرضه على البرلمان ويرى المجلس انك قمت بخطف 150 شخصا فهل تتحمل مسؤولية ما تقوله"؟ انها اشبه بمقايضة مجرمين بأن يسكت كل عن الآخر, مما هي حديث رئيس حكومة مع عضو برلماني. فبدلاً من ان يحصل الشعب عن اجابتين عن سؤالين مهمين, بتهمتين خطيرتين, اتفق الطرفان بشكل غير مباشر ان لايعرف الشعب شيئاً عن اي من الموضوعين. ماهي الحقائق الأخرى التي يخفيها المالكي عن الشعب؟ كيف يكون الأمر لو ان جميع اعضاء الحكومة اتبعوا اسلوب المالكي؟ وهل لايفعلون ذلك فعلاً؟ الا يخشى المالكي ان يكشف احد يوماً معرفته بمثل هذه المعلومات الخطيرة ليتهمه بالتستر على الإرهاب؟
هذه الحادثة لاتبشر ان المالكي يفكر بشكل سليم على الإطلاق. فإذا كانت الخطوة الأولى الخطيرة الأهمية في الوصول الى الحل هي الإقرار باتخاذ سبيل البحث العلمي الجنائي للوصول الى المجرمين شخصياً, فالتحدي الذي يواجه الحكومة العراقية هو في اصرارها على ان ينال هؤلاء المجرمون جزاءهم مهما كانت قوة من يساندهم, وبدون هذا التصميم لا ارى حلاً.
أما بالنسبة للسؤال الأول, فأن نظرة سريعة بسيطة تبين لنا ان ليس كل ما يرتكب في العراق من جرائم, له اسس طائفية بالضرورة, فهناك لصوص وهناك مصالح وهناك ثارات شخصية وهناك احتلال وهناك مقاومة للإحتلال وهناك بقايا نظام اجرامي وهناك صراع سياسي شخصي وهناك نفط, وهذه كلها بلا استثناء بريئة من الطائفية كبراءتك وبراءتي منها. ليست الطائفية التي نستسهل القاء كل شكوكنا ومخاوفنا وكراهيتنا عليها, مسؤولة اذن عن كل شيء, بل ربما نجد بالبحث التفصيلي, ان معظم الجرائم, واشدها قسوة لا علاقة له بالطائفية، ونجد ان الكثير مما اعتقدنا دوماً اننا نعرفه بشكل اكيد, امر مشكوك به.
مثلما اجبنا بشكل خط عام عن السؤال الأول الذي يحتاج بحثاً علمياً تفصيلياً نأمل به, يمكننا ايضاً ان نرى بخطوط عريضة ايضا, مؤشرات لما قد يكون جرائم طائفية وما لايكون. وقبل البدء يجب ان نتفق اولاً على ان نتحرر من فكرة ان المجرمين الذين نتعامل معهم او نحللهم "مجانين" ليس لهم عقل او منطق. فأولاً ليس لمثل هذا الإنسان من وجود بعدد كاف ليرتكب كل هذا الكم من الجرائم, وثانياً ان الصاق صفة الجنون بمن نتهمه كتفسير لإتهامنا اياه، ليست إلا هروب من ضرورة تبرير اتهامنا له في حالة عدم وجود دليل محدد. فلو اتبعنا منطق الجنون هذا فيمكننا ان نتهم به اي نشاء دون جهد. فالإنتحاري المجنون يمكن ان يكون مسيحياً مثلما يكون مسلماً, ويمكن ان يكون كردياً مثلما يكون عربياً, فما دام "مجنوناً" فلا علاقة لها بمسيحيته او اسلامه او كرديته او عربيته. إذن لندع المجانين فلا قدرة لنا على ملاحقتهم, ولنأمل ان عددهم تافه في العراق مثل بقية شعوب الأرض, ولنركز جهدنا التحليلي على "العاقل" المدرك الذي تناسب الجريمة المبحوثة صفاته الشخصية الفكرية او المصلحية.
لو اننا فعلنا, لوجدنا ان البعض من اهم الجرائم الإرهابية المرتكبة في العراق تتناقض مع الصفات الشخصية لـ "الطائفي", كما ان العديد من انواع ا لجرائم الباقية يمكن التشكك به. لا شك ان لـ "الطائفي" صفات عديدة تحتاج الى بحث طويل, لكن لإعطاء مؤشر مبرر لشكوكنا ولدعوتنا الى المزيد من البحث, نبدأ بالقول ان اهم صفات الطائفي هي "حبه المتطرف لطائفته" فلا يرى غيرها مساوية لها, وقد لايرى غيرها تستحق الحياة, بل ربما يتوجب التخلص منها لصالح طائفته التي يجب ان تسود وتحكم.
لنحلل بعض التهم الموجهة الى الطائفي لنرى ان كانت تنسجم مع صفته الأساسية الأولى, ولنبدأ, ولو مجاملةً, بالمثال الذي اختاره فريدمان كأفضل دليل لديه على طائفية الإرهاب في العراق وهي جريمة تفجير جامعة بغداد الأخيرة. في هذه الجريمة البشعة مزق الإرهاب مجموعة من الطلبة جلهم من البنات, يقفون امام باب الجامعة في انتظار الباصات التي كانت ستقلهم الى بيوتهم. هذه المجموعة، لم تكن لها اية صفة طائفية مميزة معروفة او يمكن رؤيتها او فحصها او حتى تقديرها بشكل عام. من يعرف طائفة الطالبات الذين يقفن امام باب جامعة كبيرة مفتوحة للجميع بلا استثناء في مدينة يبلغ سكانها الملايين وتختلط فيها الطوائف اكثر من اي مكان اخر في العراق؟ أين الطائفية في هذا؟
في ردود قراء احد مواقع الإنترنيت على مقالة لي حول اعدام صدام, تم اتهامي مرات عديدة بالطائفية الشديدة التي تحركني لمثل تلك "الكتابات الحاقدة". وحينها سألت اكثر المتحمسين لتهمتي بالطائفية التي كانت تقطر من مقالاتي, سألته ان يخبرني عن طائفتي واخبرته ان لايكتفي بتلك المقالة بل اعلمته اين يجد اكثر من مئتي مقالة لي، وان يكتشف طائفتي من خلال اي من تلك المقالات التي تقطر بالطائفية, وله ان عرف الجواب جائزة مني, فلم يجب! واليوم اوجه السؤال والجائزة لكم جميعاً: من يخبرني كيف اكتشف القاتل طائفة الطالبات الجامعيات فله جائزة مني, او ليكف عن هذا المنطق او اللامنطق. ولكي اسهل الأمر له, اوسع التحدي ليشمل جرائم اخرى مثل التفجير الرهيب في الباب الشرقي مؤخراً, وكذلك لنعود الى الوراء قليلاً فيخبرني عن الصفة الطائفية لجريمة قصف ملعب الزوراء حيث يتدرب لاعبون من مختلف الطوائف والأديان, فما هي طائفة من قصفهم؟ وما هي طائفة من فجر نفسه في كراج النهظة قبل ذلك؟
ربما سخر بعض قراءي ممن يعرفونني من القراء الذين اتهموني بالطائفية ولديهم على الإنترنيت كل الأدلة على خطأ هذا الإتهام, ولكن يا صاحبي العزيز اليس لدى المجرم الذي فجر طالبات جامعة بغداد ومتسكعي الباب الشرقي ولاعبي الزوراء ومسافري كراج النهظة نفس الأدلة لدحض هذا الإتهام عنه؟ ألا يطبق فريدمان والكثير من الناس على مجرمي هذه التفجيرات نفس المنطق الأعوج لمن اتهمني بالطائفية دون دليل؟
ان كانت جرائم جامعة بغداد والباب الشرقي وملعب الزوراء وكراج النهظة وغيرها كثير لا اذكره, دليل قاطع علىان مرتكبي بعض اهم الجرائم واشدها وحشية, التفجير في المناطق العامة, لاعلاقة لهم بالطائفية, فان هناك جرائم اخرى هامة ايضاً لايفسرها اي شكل لشخصية "الطائفي" ومن المستبعد جداً ان تكون الطائفية دافعها, ومنها اي جريمة "انتحارية". ففي حين يمكننا ان نتصور فلسطينياً دفعة اليأس وصعوبة البدائل, ليفجر نفسه بمحتليه ومضطهديه, لكن من الصعب جداً ان نفسرها على اساس طائفي, فالطائفية يمكن ان ترتكب جرائم بشعة جداً ان كانت في مأمن، لكنها لن تفجر نفسها. فالخيال الشطط وحده يسمح بتصور ان من فجر حزامه في باص وسط بغداد اول امس كان مدفوعاً بمشاعره الطائفية ليقتل 20 مواطناً لايعلم شيئاً عن طائفيتهم او دينهم ويجرح 20 اخرين مثلهم, او ان المجرم الذي فجر نفسه في مجلس عزاء في حسينية في الموصل امس كان يقتل نفسه ليقتل رجلاً واحداً من الطائفة الأخرى. لاتفسير لذلك إلا ان يكون الإنتحاري مجنوناً, وقد اتفقنا على الإبتعاد عن تحليل المجانين, فهولاء قد يكونوا من اي شكل, ويحتاجون الى عاقل يرتب الأمور لهم او يدفع بهم الى الموت دون وعيهم, فلندع المجانين ولنبحث عن ذاك "العاقل".
لو اننا بحثنا فسنجد ان الشكوك تطال انواع اخرى من الجرائم التي سنبحث عن تفسير لها بعيد عن مجرمنا المفضل: الطائفية. فحتى "القتل على الهوية" يستحق التساؤل. فكيف يعرف "القاتل على الهوية" بشكل اكيد ماهي هوية ضحيته الطائفية, وهل ما قالته الضحية كان صدقاً ام كذباً سيء الحظ املاً في الخلاص, وان هويتها لم تكن مزورة بهدف الإفلات من الموت؟ كيف يخاطر هذا المفرط الحب لطائفته ان تكون ضحيته من طائفته المقدسة نفسها؟ "القتل على الهوية" الذي بدأ في لبنان, وجد له مكانه حين كانت الطوائف في حرب رسمية فيما بينها, وكان قادة كل طائفة يدعون علناً لقتل الطائفة الأخرى, فكيف بدأ في العراق قبل تلك الحرب وكان من اسبابها بدلا من ان يكون من نتائجها, ان افترضنا ان في العراق اليوم حرب طائفية فعلاً ولم يدع اي قائد لها بشكل علني على الأقل؟
ما اردت قوله في النهاية ان هناك العديد من المؤشرات ان ما يرتكب في العراق من جرائم ارهابية قد لاتكون له اية اسس طائفية, وان الطائفية المتزايدة في العراق نتيجة لذلك الإرهاب وليس سبب له, وانه وجد قبلها, ون قبل جهة ارادت للعراق ان يكون طائفياً متحارباً وتحاول اليوم ان تقنعنا ان هذا الأمر هو الواقع واننا شعب مريض بشكل ميؤوس منه. ومن ناحية اخرى فمما لاشك فيه ان الطائفية التي بلغت اليوم حداً مؤسفاً, مسؤولة عن العديد من انواع الجرائم, لكنها بدون شك ليست مسؤولة عن ابشعها المتمثل بالجرائم التي ذكرتها وامثالها, كما ان من المشكوك به ان تكون مسؤولة عن الكثير من الأنواع الأخرى من الجرائم.
اذن الأمر يتطلب التروي في الإتهام, كما يتطلب بشكل ملح من الحكومة وربما بشكل خاص من البرلمان العراقي اجراء بحث علمي اجتماعي جنائي لتفصيل الجرائم التي ترتكب في العراق وتحديد نسبة ما تتحمله الطائفية منها وما يتحمله غيرها, اضافة الى الطرق المناسبة لمواجهة تلك الجرائم. ان تجنب مثل هذا الجهد في هذا الوقت, والركض وراء اتهامات سهلة تطالب بالضرب بلا تأخير امر خطير, ولنتذكر اننا بتثبيت تهمة الإرهاب بشكل عام الى الطائفية فأننا نضع انفسنا في وضع لا حل له, سواء كان الإتهام صحيحاً ام كان خاطئاً. الصحيح هو في شخصنة الإرهاب وملاحقة المجرمين شخصياً ودراسة الموضوع تفصيلياً بدلاً من التهم العامة, وبشكل علمي وبأسرع وقت فكل يوم نخسر 100 عراقي كما نصدق فريدمان في ذلك رغم تشككنا بتفسيراته, ولنختتم بما بدأنا به للأعسم حيث قال:" في هذه الدوامة يبرز من بيننا متفائلون يراهنون على العقل في زمن وُضع فيه العقل جانبا، ويبرز متشائمون يراهنون على المعجزة في زمن وُضعت المعجزات في خبر كان."
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟