سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1808 - 2007 / 1 / 27 - 12:01
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يعتبر الشاعر معروف الرصافي (1877-1945) أحد أركان النهضة الأدبية الحديثة في العراق, وأحد وجوهها الشعرية البارزة. عده زكي مبارك "أحد فحول" الشعراء العرب في العصر الحديث, ووضعه أحمد حسن الزيات في منزلة أحمد شوقي وحافظ ابراهيم, وجعله وترا رابعا أو خامسا في قيثارة الشعر العربي. وقد درج الدارسون على تثبيت مكانته الأدبية والثقافية, أسوة بمنافسه وخصمه الدائم جميل صدقي الزهاوي, ضمن مراتب المصلحين العرب, الداعين الى تحرير المرأة, ونشر التعليم, والاصلاح السياسي, والحد من الفقر.
عاش الرصافي حياة تخلو من الهدوء النفسي والاجتماعي. وقد لفتت آراؤه السياسية الحادة النظر اليه. فهو صوت سياسي شديد القوة والوضوح, غير هياب أو مساوم وطنيا, وقف طوال حياته ضد السياسة البريطانية في العراق, وهاجم رموزها المحليين من دون هوادة. لذلك توجهت أنظار دارسيه الى شعره السياسي والاجتماعي, وقلما عُني بحياته النفسية كفرد, وبأفكاره كباحث.
ولد الرصافي ومات في بغداد, ومن رصافتها أخذ لقبه. نشأ في حقبة مرتجّة, شهدت انقلابا عالميا كبيرا, تمثل في بدء انهيار الدولة العثمانية, وظهور التحول السياسي الجديد: الدستور والنظام النيابي, وكذلك ظهور بوادر التغيير السياسي والاجتماعي في مستعمرات الرجل المريض. اشتغل بالتعليم مدرسا ومفتشا, ومارس التدريس في تركيا والقدس, وأصبح عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق. عمل في الصحافة فترات محدودة, وأصدر صحيفة الأمل عام 1923 لثلاثة أشهر. لكن اسمه ظهر قبل ذلك كرئيس للقسم العربي في أول صحيفة عراقية غير رسمية, هي صحيفة بغداد. " وهي جريدة أسبوعية خاصة, صدرت في 1908 ببغداد باللغة العربية والتركية, إثر الانقلاب الدستوري وظهور دستور جديد وقوانين جديدة للصحافة، وأصبحت فيما بعد تنطق بلسان حزب الاتحاد والترقي" ( صحافة العراق - مصطفى الصالح). كان الرصافي عضوا في مجلس "المبعوثان" العثماني (مجلس النواب). وبعد قيام الدولة العراقية أصبح نائبا في مجلس النواب العراقي. عاش حياة متواضعة ومات فقيرا, معتزلا.
حياة متقلبة وتناقضات دائمة
يشير يوسف عزالدين, محقق مذكرات الرصافي, الى حياة الرصافي المتناقضة, كما رواها في مذكراته قائلا: " فيها صراحة في القول وصورة لحياته التي كان يحياها ويظهر شذوذه في حياته وتظهر شخصيته الغريبة فيها . ففي الليل يعكف على الشراب والميسر وما يحتاج الليل ، وفي النهار الإنسان المتزن والشخصية المهابة عضو في البرلمان أو أستاذ في كلية أو صاحب جريدة معروفة".
من يتأمل حياة الرصافي يجد أن تناقضات شخصيته أبعد مدى من انقسامها بين حياة الليل والنهار. فهذا الانقسام يشمل حتى مظهره الخارجي. فتارة نراه في لباس عصري أوروبي, وأخرى في زيّ عراقي شعبي تقليدي, ولم يجد في هذا الجمع بين المتناقضات ما يعيب. فقد اجتمعت فيه كاجتماع الليل والنهار, وكاجتماع الرغبة في الخمرة والميسر وكتابة السيرة المحمدية. فهو وحدة نموذجية لمجموعة من التناقضات السلوكية والفكرية. ينتمي الرصافي بحكم وظيفته وموقعه الفكري والسياسي الى طبقة سياسية عليا, لكنه كان نصيرا للضعفاء. ولم يكن ذلك تكلفا. فقد كان من رواد المقاهي الشعبية الدائمين. وعلى الرغم من حدة صوته الناقد, كان الشاعر العراقي الأبرز, الذي نظم شعرا ذا نزعة إنسانية بصياغات تقليدية. فقد أفاض في وصف الأمومة والبائسين واليتامى والمكلومين بلغة عاطفية مشحونة بالمشاعر النبيلة. وحتى ما سمي بحياة الليل وصخبها, والميل الى العلاقات الاجتماعية, قابله من جانب آخر نزوع الى الوحدة. فهو لم يمت عازبا فحسب, بل قضى جزءا من حياته معتكفا في عزلة(شكك البعض في واقعة زواجه التي جاءت في سيرته, لغرابتها). ولكن حتى هذه العزلة لم تكن اعتكافا سلبيا, ففي معتزله في الفلوجة, الذي دام سبع سنين, وضع عام 1940رسالته العراقية.
إن ما يميز شخصية الرصافي هو عناصر الثبات في تفكيره وسلوكه, وهي عناصر ضعف وقوة. فهي عنصر قوة في جانبها المعنوي والأخلاقي, وهذا ما يتجلى في مواقفه السياسية الجريئة المعادية للسياسة البريطانية في العراق. وقد حفظ التاريخ للرصافي فصولا من الشجاعة الوطنية النادرة, أشهرها مراسلاته مع بيل جرترود, السكرتير الشرقي للمندوب السامي في العراق, التي ثارت ثائرتها حينما علمت بنشاط الرصافي التحريضي وقصائده السرية المطالبة باطلاق سراح الزعيم الوطني العراقي "جعفر أبو التمن" وستة من الوطنيين العراقيين, الذين نفتهم السلطات البريطانية الى هنجام (جزيرة ايرانية) عام 1922. وقد رد الرصافي على "غضب مس بيل عليه" برسالة
جريئة قال فيها إن السياسة البريطانية الخاطئة ستعود بالضرر على الطرفين العراقي والبريطاني. وجاء في الرسالة "إنكِ شخص محترم عندي أولا لأنك امرأة, وثانيا لأنك متمدنة ومتعلمة", ولكن " إذا كنت تعتقدين بأنك أحق مني بالأفتكار في مصلحة هذا الوطن فذلك شيء لا يسلمه لك الناس ولا يصدقونه", واختتم رسالته قائلا:" واعلمي ايتها السيدة الفاضلة أنني قادر على أن أخلد لك ذكرا في التاريخ فاجتهدي أن لا يكون هذا الذكر إلا حسنا. هذا وأني لأرجو أن يكون لغضبك عليّ نتيجة ظاهرة وإلا فالغضب بلا نتيجة ظاهرة لا يخيف". فما كان من مس بيل إلا أن ردت بغضب محذرة إياه من مغبة التمادي في التعبير عن الرأي:" هناك حدود للطريقة التي تعبر بها تلك الآراء ويجب أن لا تتعداها", فرد عليها الرصافي ساخرا :" إنني كغيري من الشعراء لا أعلم لطرق التعبير عن المعاني حدودا غير الحدود التي ذكرها علماء البلاغة والفصاحة" (محمد جعفر أبو التمن- خالد التميمي- ص 181). وما تأييده لحركة رشيد عالي الكيلاني 1941 سوى تعبير عن مشاعره الوطنية كعراقي, يُعلي مبدأ العراقية. وكان موقفه من الحرب واضحا وصريحا, فهو ينعتها بالحرب "الهتلرية الشرشلية", مدينا أطرافها كافة, لأنها كانت, في تقديره, نتاجا للميل التوسعي الاستعماري عامة. أما الدولة العراقية فقد عدّها طفل الخطيئة: "من البغاء السياسي الذي حصل في الحرب العامة قد ولد على يد الانكليز مولود يسمى الدولة العراقية" ( الرسالة العراقية- ص 21)
ويرى الرصافي أن السياسة العثمانية عززت الميل الفئوي في نفوس العراقيين على حساب الشعور الوطني. " ففلان المسيحي لم يكن وزيرا في ذلك العهد إلا إرضاء لطائفته. وفلان الكردي لم يكن "مشيرا" إلا إرضاء لطائفته من الكرد". وقد قوّت السياسة الاستعمارية البريطانية هذه الميل, وما تقاسم السلطات: التنفيذية للسنة في الغالب, ومجلس النواب للشيعة سوى دفعة إضافية من وسائل إضعاف روح المواطنة العراقية. وما هو مدهش في الرسالة العراقية, أنها تحدثت عن العراق كما لو أنها تتحدث عن عراق اليوم. فإعادة تقاسم المستعمرات وقضايا السيادة, لا تعني في نظر الدول الاستعمارية تغييرا في بنية النظم السياسية فحسب, بل هي تغيير في الخرائط, وتقسيم للدول جغرافيا في المقام الأول. وهذا الأمر ينطبق انطباقا تاما على أهداف مشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي.
أما عنصر الثبات الأخلاقي, فيتجلى بقوة في مقدرة الرصافي على تحمل أعباء الكلمة الصادقة, وتحمل نتائج مواقفه وأفعاله. فهو عزيز النفس, أبي, يعتبر ما عاناه من مشقة وعسر جزءا من ضريبة قول الحقيقة. فهو يرى نفسه ضحية "لإبائي كل ضيم وعدائي كل ظلم.", ويفتخر بهذا الثبات في مقدمة "الرساله العراقية":
"ركبت بحور الشعر رهوا ومائجا وأقحمت منها كل هول يراعيا
وسيرت سُفني في طلاب فنونه وألقيت في غير المديح المراسيا
ولو رضيت نفسي بأمر يشينها لما نطقت بالشعر إلا أهاجيا
هذا ما قلته قبل خمسة وثلاثين عاما. ولم أخرج عنه فيما قلته من الشعر الى يومنا هذا"
وإذا كان هذا الثبات مصدر قوة نفسيا وأخلاقيا وسياسيا, فإن ثبات موقفه السلبي عند دراسة الظواهر التاريخية والثقافية موضع ضعف بيّن. ومن أمثلته, موقفه من الشيعة والتشيع, بقعة وهنه البارزة, التي حرمته من الوصول الى نتائج فكرية عميقة حينما بحث تاريخ العراق السياسي وتراثه الديني.
ميل طائفي أم عرقي؟
عداء الرصافي للشيعة لم يكن ميلا طارئا, ولا مزاجا عابرا, بل هو موقف مستحكم, ثابت وشامل, ولشدة شموله يمكن لنا أن نعدّه نهجا. وقد تطرف الرصافي في استخدام هذا النهج حتى كاد أن يجعل منه معيارا, وأداة قيمية, يزن بها الحياة بكل أبعادها. أي كاد أن يجعله منهجا للتفكير والمقايسة. وهذا حد موغل في الشطط, أوقعه في مزالق فكرية وبحثية لا تغتفر, كونت بعض جوانب شخصيته الفكرية المتناقضة.
كان الرصافي يجد انسجامه النفسي في موقعين إشكاليين: الأول, عند مواجهة السياسة البريطانية فكريا وعمليا, والثاني في مواجهة الشيعة فكريا. وقد اتخذ من الموقعين ميدانا ثابتا لقتال متصل, لا مساومة فيه ولا مراجعة, جاعلا منه سريرا عقليا ونفسيا, يلقى عليه روحه القلقة, الأبية, فتجد راحتها النفسية, بعد عناء ومكابدة يومية مع صروف الحياة ومشكلاتها الشخصية والعامة. بيد أن هذا التصالح مع الذات والرضا عن النفس, يخفي تحته توترا نفسيا عنيفا, وتناقضا فكريا بيّنا. فبقدر ما كان انسجامه في مناوءة السياسة البريطانية معمقا لمكانته الفكرية والسياسية, وجالبا للفخر الشخصي والتطمين الذاتي, كان رضاه النفسي في محاربة الشيعة فكريا مصدر ضعف واضطراب فكري واجتماعي عميقين, حطّا كثيرا من مقدراته النقدية المتميزة, ومن ملكة البحث لديه.
ربما لا يشي شعره بالشيء الكثير من هذا الميل, لكن كتاباته النثرية تلقي ضوءا ساطعا عليه. وعند دراسة أهم كتابين نسبا اليه: "الشخصية المحمدية" و" الرسالة العراقية", إضافة الى سيرته الذاتية, بقلمه, أو مروية عنه, وهي كتب ظلت محرومة من النشر لزمن طويل, نعثر على صورة متكاملة لأفكاره عن الشيعة كحركة سياسية, وفكر ديني, وطائفة, ومادة تاريخية للبحث والمقارنة. فلم يترك الرصافي شاردة أو واردة شيعية لم يتناولها بالنقد. وكان في أحيان كثيرة يقطع سياق حديثه ليستطرد في تفصيل مسألة شيعية بالنقد والتفنيد. وهذا يدل على شدة هيمنة هذه الفكرة على وعيه ومزاجه الشخصي.
أسوة بكثير من الباحثين سعى الرصافي الى دراسة جذور التشيع, لكنه بالغ في التحري, حتى أنه لم ينس التلميح الى حديث الإفك, ومشكلة الرسول محمد الشخصية في قضية عائشة. وإذا كان أغلب من درسوا التشيع ربطوا بينه والخلاف حول مقتل عثمان, فإن الرصافي يعود به الى ما هو أقدم ويربطه بسلسلة من الحوادث, منها نصيحة الإمام علي لعمر بن الخطاب بحسن معاملة بنات كسرى الأسيرات. ووفق رواية الرصافي كان عمر يريد " إهانتهن", لكن عليا أقنعه بغير ذلك, فأكرمن وتزوجهن ثلاثة من أبناء علي وعمر وأبي بكر. وعلى الرغم من نزعته الإنسانية فضل الرصافي "إهانة" نساء أسيرات على تسامح علي النابع من إيمان صادق بالمساواة بين البشر, فهو صاحب الحكمة القائلة : " إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه". ولم يرتب الرصافي على زواج الآخرين أي أثر سياسي أو فكري, لكنه جعل من زواج الحسين حبل السرة, الذي يربط بين الشيعة. فزين العابدين بن الحسين أمير فارسي, وما خروج زيد بن علي سوى نتيجة من نتائج ذلك التلاقح المريب! أما خروج الحسين على بني أمية فهو فتنة كبرى. ولا يتوقف الرصافي عند هذا الحد, بل يمضي أبعد في المغالاة. فقد جعل اعتراض علي على قرار عثمان باعفاء عبيدالله بن عمر بن الخطاب من دم الهرمزان أمرا باطلا, ووجد فيه رابطا سريا آخر ينظم عقد الشيعة. وقد قتل عبيدالله الهرمزان, انتقاما لمقتل أبيه. ورغم أن الرصافي لم يذكر الحقيقة كاملة عن مقتل الهرمزان, لأن اعتراض علي لم يتوقف عند الهرمزان, وإنما سرى على فعل الانتقام كله. فقد كان عبيدالله يريد الانتقام من أهل السبي كلهم, وتجاوز انتقامه حدود القاتل نفسه, أبي لؤلؤة, الى ابنته, ثم الى أحد أكبر وجوه أهل السبي الهرمزان, من دون وجه حق, أو سند قضائي, وقد لامه علي قائلا: " ما كان ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها؟"
مما لا شك فيه ان دراسة جذور المشكلات السياسية والفكرية تاريخيا والتنقيب البحثي لبنة أساسية من لبنات العقل النقدي, العلمي. لكن الشطط في استخدام ذلك, ولوي عنق التاريخ, من أجل مطابقته مع فكرة لاحقة, أمر يفسد التاريخ ويفسد البحث.
وربما يكون الفصل المخصص لما سماه الرصافي بـ "شخصيات المريبة", في كتابه "السيرة المحمدية" نموذجا بحثيا صالحا لإقامة الدليل على فساد أفكار الرصافي عن الشيعة كظاهرة سياسية وعقلية واجتماعية. فلم يحو هذا الفصل إلا على مريب واحد هو الحسن البصري, الذي خص بالبحث والتفصيل. وقد جعله الرصافي خاتمة لكتابة, لكي يقول لنا إن الحركات الفكرية والامتدادات السياسية والثقافية, التي نتجت من خلافات علي حول الحكم, كانت أساسا لمجمل التطورات الفكرية الرامية الى تحطيم "وحدة المسلمين". فإذا كان علي الأساس في تفريق "كلمة المسلمين" سياسيا, فإن الحسن البصري, هو مشعل حريق التحريف الفكري. ومن أجل إثبات ذلك عمد الرصافي الى فعل شديد الغرابة, تسبب في إلهائه عن مراقبة ما كتبه جيدا, ففاته الوقوف على تناقضاته الصريحة. فقد قام بتجريد البصري من صفاته الحسنة كلها, واحدة بعد الأخرى, حتى أحاله هشيما يابسا, جاعلا منه أساسا تاريخيا لفرقة الرأي بين المسلمين. والبصري كما هو مثبث لدى أغلب الرواة: عراقي الأصل, من أبناء ميسان, رضع من أم سلمة, التي شملته برعايتها. كان زاهدا, فقيها وراوية عالما, شجاعا, صريحا, مبجلا ومحبوبا, كما أنه كان جميلا. وتلك صفات قل اجتماعها في رجل. بدأ الرصافي عملية التهشيم بمعارف الحسن البصري فجرده من سعة علمه وأقصاه من مرتبة الرواة, ثم حطّ من قيمة الرواية: فقيمته العلمية " لا تتعدى الرواية", وروايته " ليست بمنزلة تستحق الإعجاب", وكانت الرواية " مجردة من العقل بالمرة". بعد نفي علمه يأتي نفي نسبه, لكن الرصافي يصطدم باسم أبي الحسن فيقوم بتأويله تأويلا يخرجه من أصله العربي. فهو "شعوبي". أما شجاعته فيحيلها الى مداهنة والى حسابات سرية, جعلته يختفي فترة ليظهر فجأة في البصرة, لأمر مريب, فـ "ذهابه الى العراق فيه ما يدعو الى الريبة" (السيرة المحمدية- ص 750). وينسى الرصافي أنه يتحدث عن الرجل الذي قال في الحجاج, حينما كان الحجاج قريبا منه قرب السيف من غمده: " ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه, وأن أهل الأرض قد غرُّوه". ولم يبخل البصري على والي العراق ابن هبيرة بالنصح الصريح, داعيا إياه الى مخافة الله أكثر من مخافة يزيد بن عبدالملك. ويرجع الرصافي نسك وتعفف البصري الى مرض نفسي, أو مداهنة, فقد عرف عن الحسن شدة حزنه. وحتى شكله جعله ضخما, متناسيا أن طوله كان من صفات حسنه بمقاييس ذلك الزمان, وأنه كان مضرب المثل في الحسن, وقيل فيه أن "كلامه يشبه كلام الأنبياء", فهو القائل في الواقفين على أبواب الحكام من طلاب العلم : " والله لو زهدتم فيما عندهم, لرغبوا فيما عندكم, ولكنكم رغبتم فيما عندهم, فزهدوا فيكم", وهو القائل في شهوة المال:" بئس الرفيقان, الدينار والدرهم , لا ينفعانك حتى يفارقاك". أما عن مهابته, التي جعلت طاغية كبيرا كالحجاج يعدل عن قتله بسببها, فعدّها الرصافي مصانعة. لكنه يناقض نفسه حينما يصف تشييع البصري عند موته, الذي جعل الناس يسهون عن صلاة الجمعة في مسجد البصرة. وقد أورد الرصافي تلك الرواية لغمز قناة البصريين والتشكيك في تقواهم. من هنا نرى أن شواهد الرصافي المتناقضة تهشم بعضها بعضا. فحينما جرى الحديث عن الاعتزال وخطورته, كمؤامرة على وحدة الفكر الاسلامي, قال الرصافي فيه: " كان في حلقته هذه يتكلم في المسائل الدينية من أصول وفروع وعقائد, وأنه كان يتعمق في البحث عنها الى درجة تدعو الى الاختلاف فيها بالرأي والنظر؟" وهذا القول يناقض كون البصري محدّثا فحسب, ومحدّثا "لا يستحق الإعجاب", روايته "مجردة من العقل".
لم يتوقف نقد الرصافي للتشيع على التاريخ, فقد جعله معضلة العراق الأولى" أنا لا أعني بالداء العضال إلا مذهب التشيع". وهذه نتيجة تطابق بيانات التكفيريين والبعثيين وبعض اليساريين من مؤيدي ومعارضي الاحتلال الأميركي. ففي أحدث بيان لأحد فصائل المقاومة, ورد أن الاحتلال "الصفوي" هو العدو الأول الذي يستحق المقاومة, يليه الاحتلال الأميركي! وهي القاعدة العقلية ذاتها, التي تبناها الرصافي في حياته السياسية.
القاعدة التكفيرية الذهبية
عدم الفصل بين الشيعة والفرس هي قاعدة التكفيريين العقلية الذهبية. وهي قاعدة ضاربة في القدم. فالشيعة وإيران صنوان لا يفترقان. عند تتبع فكر الرصافي نجد ربطا محكم, يكاد أن يكون مطلقا, بين ما هو شيعي وما هو إيراني, ( وقد تأول كلمة إيران الى فارسي, أو حتى مجوسي, وفق درجة الغلو في العداء. ولكن هذا التصنيف لا يشمل مجاهدي خلق. فهم خارج التصنيف المذهبي, كأكراد العراق). هذا التزاوج, يجعل المرء يتساءل: هل تنبع طائفية الرصافي من بواطن عرقية, أم أن عرقيته ذات جذور طائفية؟ وحينما نحلل شخصيته وتكوينه النفسي والفكري والاجتماعي لا نعثر على جواب. فالرصافي ألقى ثقله البحثي كله لغرض الربط بين الشيعة وإيران : بنات كسرى, مقتل الهرمزان, شيعية وإيرانية وزارة التربية في العهد الملكي, تفريس زين العابدين والحسن البصري. وحينما يأتي على ذكر سقوط بغداد يربطه بابن العلقمي وينعته باللعين, وهو نعت يستحقه العلقمي بجدارة, بيد أن الرصافي لا ينسى أن يضيف: " الوزير الشيعي". وحتى قصيدة الجواهري في وصف الطبيعة في إيران ينعتها بـ "الشعوبية".
ما هو محير في أمر الرصافي, الذي أتعب نفسه في اكتشافات عرقية, تحاول التقليل من أصالة نسب خصومه القومي, أو ثلم هذا النسب,أنه لم يكن عربي الأصل, كما تجمع المصادر التي تناولت سيرته. وعدم انتسابه للعرب عميق جدا, فهو يأتي من جهة الأم التركمانية والأب الكردي. إذاً, من أين نبعت عرقيته؟ ولماذا تُربط العرقية بالطائفية عند الشيعة وحدهم؟ ولماذا يكون الإيراني, والفارسي تحديدا, محرّفا, ومفرّقا لوحدة المسلمين, ولا يكون الكردي أو التركي ذلك؟ هنالك خلل ما في منظومة فكر الرصافي؟ أين موطن الخلل؟
من يتابع أفكار الرصافي بعمق, مستبعدا الحساسية الناشئة من شدة عدائه للشيعة, يجد أنه يقيّم شخصية الإمام علي تقييما عاليا كمفكر وكمؤمن وكإنسان, لكنه يقلل من أهميته كحاكم وسياسي. وهذا أمر يشاركه فيه كثيرون, حتى بعض محبي علي. فما يأخذه الرصافي على علي أنه كان لفرط مثاليته وتمسكه بالعدالة ينسى الوسائل, التي هي قوام السلطة وعدتها. فكان علي يفضل الوقوف مع المثل العليا على اختيار الوسائل السليمة لإدارة الحكم. فهو رجل علم ودين لا رجل سياسة. وفي هذا القول بعض من الحقيقة. فقد كان علي خاضعا ومستجيبا لضغط مثله العليا أكثر من استجابته لضغط السلطة. وقد سرى الأمر على أبنائه أيضا, على الرغم من أنهم كانوا خارج السلطة. بيد أن معادلة (السلطة- الحق) ليست دائما سهلة التحقق. ففي قضية الهرمزان برر الرصافي تخطئة موقف علي سياسيا وليس قانونيا أو أخلاقيا, فقال إن تشدد علي في إقرار الحق دفع عبيدالله بن عمر الى صف معاوية. وهو قول صحيح تماما من الناحية السياسية, وفي حساب التحالفات. لكنه تبرير لا يجيب عن السؤال الجوهري: كم من الحق على الحاكم أن يفقد كي يحافظ على سلطانه وتحالفاته؟ ففي حوار الحسين بن علي مع عبدالله بن عباس نكتشف عمق الضغط الإجتماعي وضغط المُثل, المفروض على زعماء الأسرة العلوية, هذا الضغط الذي سرعان ما أصبح قدرا خاليا من الرحمة, لا فكاك منه: "لو بقيت في مكة لن يتركني القوم ، وإنهم يطلبوني أين كنت حتى أبايعهم كرها ويقتلونني ... والله إنهم يعتدون عليّ ، وإني ماض في أمر رسول الله حيث أمرني, إنّا لله وإنّا اليه راجعون ". كان الحسين بين نارين: الخضوع لبني أمية ضد رغبة الناس الذين كانوا يطالبونه بعكس ذلك, أو الخروج غير المأمون على الدولة. وقد فضل, تحت ضغط المثال الأخلاقي, الاحتمال الثاني, وهو يدرك إدراكا تاما أنه احتمال خاسر سياسيا, لكنه رابح أخلاقيا. وقد سار زيد على الطريق ذاتها, التي سار فيها جده, فلاقى الفشل عينه, على الرغم من أن شعاراته تجاوزت حدود الالتزام الأخلاقي الصرف الى الشعارات الاقتصادية والثقافية, قياسا بشعارات الحسين أو ابن الزبير. وهي شعارات تكررها الحركات الشيعية الشعبية المعاصرة, غير المتطابقة تماما مع خط المرجعيات التقليدية. لكن الصادق أراد أن يحيد عن تأثير قطبي المعادلة القاتلة, فأوجد فرضية التصالح مع الحاكم الظالم, لكنه لم يفلت من قبضة القدر ومن بطش الحاكم. وقد وجد البعض في خطوة الصادق, الناجحة ثقافيا, مثلبة أيضا. فقد عزز طول ممارستها الميل لدى الشيعي بعدم الثقة بالدولة ومؤسسة الحكم وعمّق اغترابه عنها. وفي الجهة الأخرى تأصل في نفس السني الشعور بأنه ابن الحكم وربيب السلطة. ولأن الحدود الفاصلة بين السلطة والدولة غائمة في ذهن المواطن اختلط لديه مفهوم السلطة بمفهوم الوطن. وحينما تهتز مواقع السلطة يدركه الإحساس بأنه فقد وطنا وليس حاكما فحسب. فإذا كانت التقيّة تغرب الشيعي عن الدولة وتضعف فيه حس المواطنة, فإن توارث السلطة يماهيها مع الوطن في مشاعر السني. وكلا الشعورين قاصر ومضلل, وهو الأساس النفسي للكثير من تعقيدات الحكم والسياسة في العراق. لذلك, أرغم ضغط الحاكم المستبد من جاء بعد جعفر الصادق من أبناء العائلة العلوية على التفكير بتغييرمسار القدر, واختيار الوسائل السياسية الصحيحة, التي لم تكن في متناول الحسين وزيد. فمهاجمة المركز كانت وسيلة فاشلة, ومبدأ "التقية" لا ينجي صاحبه من شرور الحاكم. لذلك لجأت الثورات الشيعية اللاحقة الى مهاجمة الأطراف, وحققت نجاجا في بعض الأماكن كاليمن ومصر. بيد أن التاريخ أثبت أن العلويين, لا يختلفون عن العباسيين أو الأمويين, حينما يصبحون حكاما. فسرعان ما يذوبون في الثقافة السائدة, وهذا ما حدث للفاطميين والزيديين, الذين لم يأخذوا من التشيع سوى الاسم.
في هذه الزاوية, السياسية الخالصة, المفرغة من أي محتوى ديني أو مذهبي, قد يجد المرء تبريرا لشدة تحامل الرصافي على الشيعة. بيد أن هذا التبرير لا يعفيه من جريرة الخطأ البحثي, ومن مسؤولية الشطط في الأحكام والاستغلال الرديء للمنطق عند البحث في القضايا الخلافية الكبرى.
فمن المعروف أن التنازع على الخلافة لم يكن محصورا بين العلويين وبني أمية. كانت هناك أطراف أكثر خطورة منهم, منها عبدالله ومصعب ابنا الزبير, اللذان لم يكتفيا بالثورة على الأمويين, بل حكما جزءا من الدولة الإسلامية. بيد أن الرصافي لم يشملهما بما شمل الشيعة من نعوت الانفصال عن كيان الدولة لصالح جهة ما. ومن المعروف أن مقتل الحسين أزاح عن طريق ابن الزبير منافسا وخصما سياسيا أساسيا. رغم ذلك , لم يخصه الرصافي بالتشكيك, ولم ينسبه الى جهة ما, ولم يؤوّل "خروجه" سياسيا وعرقيا, كما أوّل سلوك العلويين ونعته بـ "الفتنة". وحتى موقف عائشة في الجمل لم يفسره كخروج على الدولة. أما موقف أخيها عبد الرحمن, الذي آزرها في الجمل, لكنه لم يمنح معاوية البيعة, فلم يفسر كتمرد على الدولة وعلى الوحدة الاسلامية أيضا. فلماذا خص الشيعة وحدهم بذلك الاتهام؟
من هنا نلاحظ أننا كلما رتقنا خرقا في منظومة أفكار الرصافي عن الشيعة ظهر فتق جديد. لذلك يستعصي على الدارس وضع محاججاته في منهج عقلي محدد. فهذا الخليط من المتناقضات غائي و استهدافي بحت, جعل من الشيعة خصوما ثابتين وراح يحصي عليهم الأنفاس, لكي يرتب لهم تاريخا معاديا للاسلام كدين, وللعروبة كقومية, وللدولة كمؤسسة.
لكن الرصافي لم يكن عرقيا, فهو لم يكن عربيا أكثر من علي والحسين وأبنائهم وشيعتهم, ولم يكن خلافه مذهبيا, لأنه لم يكن طائفيا أو متدينا. وفي حياته السياسية أمثلة تدل على أنه وقف مع زعماء شيعة وطنيين وقفات شجاعة, وهذا ما حدث مع الزعيم العراقي "جعفر أبو التمن", المعروف باعتراضه على قيام حزب سياسي شيعي خاص, تحت لواء الحزب الوطني.
لذلك فالنزعة الطائفية المعادية للشيعة, والنزعة العرقية المعادية للفرس, لا تعدو أن تكون ميلا سياسيا. فشدة مغالاة الرصافي بالوطنية العراقية تحت شعار"العراق للعراقيين", هي التي جعلته يجمع بين الطائفي والعرقي في وحدة, خالية من المنطق. ومن المعروف تاريخيا أن القوى السياسية كافة, من اليمين الى اليسار, استخدمت هذا الخليط الطائفي- العرقي, الشيعة وإيران, في معاركها السياسية العنيفة ومشاكل الحكم المستعصية. ففي العراق يمتد حاملو الشعارات الطائفية العرقية على جبهة عظيمة الاتساع والاختلاف والشذوذ, تبدأ من التكفيريين وتصل حتى الشيوعيين, وتضم في صفوفها خلائط آيديولوجية غير منسجمة, بل متناحرة, من بعثيين وقوميين شوفينيين ويساريين معادين للأميركان ويساريين سابقين مؤيدين للغزو والاحتلال, تجمعهم طبخة عقلية واحد اسمها: الحساء الشيعي الايراني. هنا يكون الخلاف سياسيا بحتا, وما الدين والعرق سوى استثمارات دعائية جاهزة تاريخيا, هدفها مدّ الصراع السياسي بحجج مؤثرة, تشحذ همم الجماهير وتيسّر تأليبها. فالطائفية ليست, بالضرورة, معتقدا لمن يرفع شعاراتها. لكنها بضاعة موجودة في التربة العراقية بوفرة, وما على من يريد استخدامها سوى أن يمد يده ويغترف منها ما يشاء. وأحدث أمثلة هذا الاغتراف نجده لدى أيهم السامرائي, الوزير الذي هربه الأميركيون من سجنه الى عمان, بسبب أنشطته السياسية والاقتصادية غير القانونية.
لو أراد المرء تطبيق مفاهيم الرصافي, التي استخدمها ضد الشيعة, على السامرائي, سنجد أنه "علقمي" خالص, لأنه جاء على حراب الغزاة, و"طوسي " مزدوج المواطنة, لأنه اميركي عراقي الجنسية, و"مصانع" ماكر, لأنه مزدوج الولاء: عضو في الحزب الجمهوري الأميركي وعضو في حزب الباجه جي, وهو "مريب" لأنه حليف متعدد الرؤوس: وزير في حكومة التحالف وابن للأميركيين ووسيط للارهابيين. وفوق هذا وذاك فهو مجرد من العفة, لأنه لص ومرتش. السامرائي, الذي حوى شخصه مثالب التاريخ كلها, ينفي التهم السالفة كلها, حالما يمد يده الى موسوعة الصراع الطائفي العرقي, ويصرح: " انه وقع ضحية بسبب معارضته للنفوذ الايراني في العراق وللميليشيات الشيعية المتهمة بقتل الاف من أفراد من العرب السنة التي ينتمي اليها ويشكلون أقلية"
في هذا الموضع سقط فكر الرصافي, وسقط معه كثيرون. وهي سقطة لا تُقبل من مصلح وباحث, حتى لو أنها بُررت للسياسي ذي المصالح الأنانية والمشاريع الآنية. ففي العلم والفكر الإصلاحي لا يجوز الوقوع في مثل هذه المزالق الخطيرة, لأنها تخلق غطاء آيديولوجيا, تبريريا, يجوّز الخطأ والجريمة السياسية. أي أنها تؤسس قواعد عقلية للاستمرار في الخطأ التاريخي, وتفتح الطرق الأخلاقية والنفسية أمام إمكانية تكراره واستساغته.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟