محمد البوزيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1808 - 2007 / 1 / 27 - 12:00
المحور:
الادب والفن
تعتبر كتابات المبدعة مليكة مستظرف من أبرز الكتابات التي تشي بمعرفة الواقع العام ،إنها تصفه كما هو دون مساحيق رنانة وديكورات مصطنعة ، بل تقتحمه بصفة المتضرر منه، وبصيغة المتكلم الذي عانى ويعاني الكثير مع المرض.
وقد كان لمرض المبدعة التي عانت منه طويلا – وسط لا مبالاة الأوساط الرسمية وشبه الرسمية الثقافية – دورا كبيرا في تفجير إبداعاتها الرنانة ، منسابة تخترق كينونات الآخرين لتخبرهم عن عالم خاص ، يسمع عنه فقط دون معايشته لزمن طويل ، بل كانت عناوين تلك الإبداعات صرخة أخرى من صرخات عدة، لنتأمل جيدا عنوان روايتها *جراح الجسد والروح* ومجموعتها القصصية * وترانت سيس *.
وفي سرد مأدبة الدم التي نشرتها في موقع دروب يوم 08 يونيو 2006 تبرز تيمة المرض جلية واضحة.
في البداية يكون العنوان صادما صدمة الواقع الرديء *مأدبة الدم * فمن هو صاحبها ؟ ومن هم ضيوف هذه المأدبة ؟ وما هي أطعمة المأدبة ؟؟.
وقبل انسياب المتلقي في قراءة السرد الواقعي تنقله لعالم آخر عبر استدعاء مقولة المسرحي الشهير شكسبير والتي يقول فيها :”دعونا لا نثقل ذاكرتنا بعبء مضى”…
لكن في نفس الوقت تقرر عدم الانضباط لها استثنائيا ، وأن ذاكرتها / قدرها // ستظل مثقلة على خلاف الآخرين .
طبعا قد يستغرب المتلقي في بداية القصة ، لكن من يعرف مليكة مستظرف والآلام التي تحملتها وعانتها – وبشجاعة نادرة – سيقدر حتما الأثقال التي حملتها في ذاكرتها، وفي/ فؤادها / جسدها المنهك بمرض القصور الكلوي ، والذي قاومته مدة من الزمن ، لذلك لم يكن لها بد من أن تنقلنا لعالمها الخاص الذي يجد الشخص ذاته فيه في انغلاق خاص .
1+ الوسط الاجتماعي :لا يخفى أن المرض يؤدي إلى تحطيم المريض جسديا ونفسيا ، لذلك كانت مليكة تصف الأمر انطلاقا من الواقع المغربي الذي يجد فيه الشخص نفسه في تداخل عدة أطراف كلها تبحث عن شفاء عاجل له بكل الطرق والأدوات الممكنة خاصة من العائلة حيث يتيه المريض في الاقتراحات الواردة عليه من أطراف عدة ، والتي تصف فيها وصفات خاصة للعلاج فعوض أن يتجه المريض صوب المستشفى . فهو ينخرط في متاهات عديدة تؤجل العلاج ، وتعقد المرض لارتباطه بعامل الزمن الحاسم .
وفي القصة يبرز ذلك جليا فالجدة " تخلط أعشابا عجيبة...تفرغها في جوفي دفعة واحدة " ،أما الأم فلا تتردد في أخذ المريض إلى " الفقيه السوسي " الذي لن يجد تشخيصا للمرض إلا في مرض"التوكال " مما يدخل العائلة في صراعات عدة حول المسؤول عن الأمر ليتحول إلى صراعات بين الأم والزوجة، أو بين الزوجة والأخت، صراع يتجاوز مرحلة " سب الدين " إلى أشكال أخرى للتعارك بالأيدي ،أما الفقيه فلن يجد علاجا حسب الكاتبة سوى في "نزع ملابسي ويعبث بجسدي " بقوة الأعراف .
أما الأب فيقترح علاجا آخر لمليكة وهو " الذهاب إلى سيدي حرازم " للاعتقاد الشعبي الشائع أن مياهه تعالج المرض .
فهل كانت مليكة تحكي تعامل المغاربة مع المرض والذي يصبح فيه المريض مثل فأر تجارب داخل مختبرات شعبية خاصة ؟ أم أنها كانت تروي جزءا من سيرتها الذاتية ؟
في نظري يمكن ترجيح الفرضية الأخيرة خاصة أنها أهدت السرد إلى أختها كريمة التي تبرعت عليها بأحد كلتيها، لعل الأمر يكون تنفيسا عن آلام فشل العملية الجراحية.
2+ فضاء المرض :الآن، وبعد استنفاذ جميع اقتراحات العائلة دون نتيجة تذكر ، تصل مليكة للمستشفى ، ومنذ السطر الأول للسرد يبدو أن الفضاء غير مناسب ، فالمرحاض نتن درجة القرف فالكاتبة لتحمي وجدانها الخاص " وضعت أصابعي المتورمة على أنفي اتقاء لتلك الرائحة النفاذة " ، وإذا كان المرحاض لا يسمح للنزلاء بقضاء حاجياتهم الطبيعية في راحة خاصة تكون شرطا أوليا للعلاج، فكيف ستكون باقي المرافق الأخرى ؟
تواصل الكاتبة لتصف رفيق المريض في المستشفى وهو السرير، إنه " أشد نتانة من المرحاض..بقع دم متجمدة ..آثار بول ... "وكأن الفقيدة مليكة تطرح سؤالا موغلا في دلالته العميقة انسانيا :كيف لمريض أن يعالج وهو لا يجد فضاء يرتاح فيه وينام ؟
أما الأشخاص الذين يفترض في المريض التعايش معهم في ذلك الفضاء فهم المرضى والسكرتيرة والطبيبة
2-1 المريض : يجلس في السرير المجاور للسرير النتن " يمص سيجارة رخيصة "فكيف يمكن العلاج في وضع يزيد من إحساس المريض "بالاختناق"، لكن الرفيق النزيل سيكون متنفسا ليحكي عن واقع المرض مع مريض آخر لاسيما حين تخبر الطبيبة ن الأمر يتعلق بالقصور الكلوي
2-2 السكرتيرة:عوض أن تكون رحيمة بالمريض تصبح هي في حد ذاتها* المرض* الذي يخشى المريض الاقتراب منه، فهي لا تضفى تفاؤلا على المتعامل معها، "فلا تضحك..وجهها يبدو كبلغة صفراء قديمة, وبعينيها حول غير خفيف, وفمها ممتلئ أسنانا حادة كسمك القرش, صدرها يبدو ضامرا ولديها عجيزة ضخمة, ورجلاها كقصبتين نحيلتين."
إنه وصف دقيق لكائنة "مركبة بطريق الخطأ " فهل كان وجودها أصلا إضافة أخرى قد تعطي للمرض قوة لإختراق الجسد النحيل الذي عانى ويعاني الكثير أصلا قبل ولوجه البناية البئيسة ؟ ومن المسؤول عن التركيب الخاطئ لها ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
2-3 العلاج والأداء : لقد أصبحت مستشفياتنا مؤسسات خاصة ، فلعلاجك من أبسط الأمور يجب أداء الثمن ، لقد أصبحت المؤسسات الإستشفائية غير مجانية بقرارات ما ،ولو كان المرض بسيطا فكيف سيكون الحال في حالة إذا كان المرض استثنائيا وباهض الكلفة مثل القصور الكلوي..؟
هكذا وبعد أن يقطع الإنسان المسافات المعنوية الطوال، يجد نفسه أمام الطبيب للمعالجة ، وبعد الجلوس في السرير المعلوم- إذا كان فارغا – ، يجد المريض نفسه وجها لوجه أمام المطالبة بأداء التكاليف المختلفة للعلاج ، فكيف سيؤدي المريض إذا كان فقيرا ومعدما ؟ طبعا الحل معروف، وهي شهادة الفقر / الاحتياج .
تخبرنا الكاتبة الراحلة بلسان الملتقط لحيثيات الواقع العنيد / الرديء / أن شهادة الإعفاء من الأداء تتطلب بدورها الأداء للمقدم الذي لن يمنحك إياها إلا " إذا فهمت رأسك وأدخلت يدك في جيبك وأعطيته ورقة من خمسين درهما " مع العلم أنه يعلم أكثر من غيره" أنك أفقر من الفقر "
وبعد الحصول على الشهادة فيجب أن تنتظر دورك ، والأمر متوقف على السكرتيرة التي تتطلع لاستغلال الفرص - الضائعة من زماننا - على حساب المرضى ،فلو كان مرضك لا يستلزم الانتظار فعليك الانتظار "هل انتظار الموت طبعا " أياما وشهورا بل وحتى سنوات ، وتقدم الكاتبة نموذجا صارخا على شخص انتظر ثلاث سنوات و حينما حان دوره لكي يحصل على مجانية العلاج أسلم الروح لباريها .
مالعمل إذن ؟ لا حل إلا الاستثناء في بلد الاستثناء في كل شيء ، تخاطب الكاتبة المتلقي وبنبرة هزلية تتضمن انتقادا ضمنيا للوضع :إنك ، إذا كنت معروفا، وتتمتع بعلاقات أو تغطية ما من شخصية مرموقة ....وإذا كنت محظوظا وتعرف شخصية يفلق اسمها الحجر ستحدث معجزة بشرية ..... مثلا, برلمانيا أو وزيرا أو حتى راقصة فقد تصبح من الأوائل ، أو كما عبرت فإذا "كان رقمك ألفا ستحذف الأصفار ويصبح واحد ".
وهنا مربط الفرس، إذ تنبهنا الكاتبة أن هذه الوقائع ستحطم كينونة الإنسان، فليحافظ على حياته سيبذل كل مساعيه " من توسل وركوع وانحناء " ليضمن علاجا في وقت معقول قبل دخول مرحلة الخطر.
هكذا إذن تصبح حياة المواطنين رهين مزاج المسؤولين وهكذا تبنى العلاقات الاجتماعية في تحطيم صارح للمساواة المفترضة بين المواطنين في العلاج ، وإلا فالواقع أشد مرارة فكما كتبت " لأنك إن لم تفعل ستبيع كل شيء, هذا إذا كنت تملك شيئا بالطبع. وستستدين وسترى كيف سيهرب منك أصدقاؤك وأهلك و أولادك, ستبيع عظامك قطعة قطعة , ودمك قطرة قطرة , لكي تستوفي ثمن العلاج."
إنه الواقع الممل القاسي ، لذلك تخبرنا المبدعة الراحلة بلسان أبطال القصة أنها حين صاحوا فيها " أن تحضر شهادة الفقر , شهادة تثبت مرضك و…و…و… إلى أن يحين دورك" لم يكن لها من حل سوى أن تهمس في آذاننا بما فعلت " حشوت قدمي المنتفختين في بلغتي, جرجرت جسمي المنهك خارج المستشفى.حاولت أن أصرخ, صرخت, ” من أين لي بالمال حتى أدفع لكم؟” انتبهت إلى نفسي , كل الناس ينظرون الي. سمعت أحدهم يقول “لقد جن الرجل”. هل جننت فعلا؟"
ترى من جن فعلا ؟ هل المواطن الذي مازال صامتا عن الوضع الحالي في المستشفيات ؟ أم الآخرون الذين يزرعون الريح في أكبادنا بممارساتهم السادية بيننا ؟؟؟؟؟؟
وعموما تعتبر قصة مأدبة الدم فعلا مأدبة خاصة واستثنائية للتعرف على قساوة تعايش الذات مع المرض، وانعكاساته المختلفة على الشخص ووسطه الاجتماعي، وبداية الانهيار القاسي موازاة مع تحليل عميق لواقع العلاج وتكاليفه الباهظة في المستشفيات العمومية .
#محمد_البوزيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟