طارق بنات
الحوار المتمدن-العدد: 8342 - 2025 / 5 / 14 - 08:03
المحور:
الادب والفن
المقدمة
تعدّ مجموعة "مذاقات مختلفة" القصصية للكاتبة التونسية لمياء نويرة بوكيل تجربة أدبية متفرّدة تعكس ثراء السرد العربي الحديث، حيث تتداخل فيها التقنيات السردية المتطورة مع جمالية اللغة، ما يمنح القارئ تجربة غنية تجمع بين التأمل في الواقع والتفاعل مع الشخصيات والأحداث. تستند هذه المراجعة إلى معايير نقدية تشمل تحليل الأسلوب اللغوي، تقنيات السرد، بناء الشخصيات، الحبكة الدرامية، والمواضيع المطروحة.
أولًا | جمالية اللغة والأسلوب
تمتاز لغة القاصة بمزيج من البساطة والعمق، حيث تنسج عبارات مشحونة بالعاطفة والمجاز، مما يضفي على السرد طابعًا شعريًا في بعض المواضع وسرديًا دقيقًا في أخرى. يظهر هذا التميّز جليًا في قصة " رشّة عطر"، التي تستحضر فيها الشخصية ذكرياتها عبر رائحة عطر قديم، فتتحول الحواس إلى وسيلة لاستعادة الماضي بكل كثافته العاطفية.
كما يبرز الإيقاع اللغوي المتناغم في قصة " يرى بقلبه"، حيث تسود لغة هادئة وعميقة تعكس فلسفة البطل في إدراك العالم من خلال إحساسه الداخلي، بعيدًا عن الرؤية البصرية التقليدية.
ثانيًا | تقنيات السرد
تعتمد القاصة على آليات سردية متعددة تضيف إلى النصوص بعدًا ديناميكيًا، ومن أبرز هذه التقنيات:
• التناوب السردي حيث يتجلى في قصة " الدوّامة" عبر تصوير حالة من التكرار اللامتناهي التي تعكس الضياع والتيه.
• التداخل الزمني كما في " ليلة رأس السنة"، إذ يتأرجح السرد بين ذكريات الماضي ومخاوف المستقبل، ما يعكس اضطراب الشخصية الداخلي.
• الراوي المتعدد وهو واضح في قصة " الحكواتي"، حيث يصبح السرد جزءًا من الحكاية ذاتها، مما يخلق تفاعلًا فريدًا بين القارئ والنص.
• الرمزية الفلسفية نلاحظ هذا في نص " النهر"، حيث يتحول النهر إلى رمز للحب والانتماء، ورمز للتحوّل والهوية، ورمز للبعد الفلسفي للوجود، وكذلك رمزية "الديك والدجاجات" في قصة "طلّاقة النساء"
ثالثًا | بناء الشخصيات
تتمتع الكاتبة بقدرة استثنائية على رسم شخصيات معقدة ونابضة ومتوترة، تتسم بتعقيداتها الداخلية وتعكس صراعاتها النفسية والاجتماعية، تتنوع الشخصيات بين الأنماط التالية:
• البطل المأزوم حيث تخوض الشخصية صراعًا داخليًا مع الزمن وآثاره، في تصوير واقعي لعلاقة الإنسان بجسده المتغير، وهذا ما حدث مع مارية في قصة " جسد" والتي تعاني من أزمة وجودية واجتماعية كبيرة تتجلّى في صراعها الداخلي بين التقاليد التي تحاصرها والمستقبل الذي تريده لنفسها.
• المرأة الباحثة عن ذاتها، كما تعكسها قصة " طلّاقة النساء"، القصة تعكس صراع المرأة في مجتمع أبوي تقليدي، ليس فقط في البحث عن ذاتها ولكن أيضًا في مقاومة الأدوار المفروضة عليها. الحوارات، الشخصيات، والرموز توصل رسالة قوية حول التمييز بين الجنسين، مع لمسة ساخرة وواقعية تجعل القصة تحاكي تجربة الكثير من النساء في مجتمعاتنا العربية.
• الرجل العالق بين القيم التقليدية والحداثة، كما في النص " شغفتهم حبّا"، في هذه القصة يتم الحديث عن الصراع في ردود أفعال الباعة والمتسوقين. فهم يجدون أنفسهم ممزقين بين الانبهار بالجمال والتحرر الذي تمثله الفتاة، وبين قيمهم التقليدية التي تجعلهم غير قادرين على استيعاب هذا التأثير المفاجئ. هذا التمزق يتجلى في حالة السوق، الذي يعمّه السحر والاضطراب في آنٍ واحد، حيث يجد الرجل نفسه ممزقًا بين التمسك بموروثاته وبين مجابهة رغباته الحالمة المكبوتة.
رابعًا | الحبكة والبنية السردية
تنوعت الحبكات في المجموعة بين:
• الحبكة المتعددة التي جمعت بين أنواع مختلفة من الحبكات خاصة في قصة "أحباب الله" التي تناوبت عليها الحبكات التالية: الحبكة الدائرية، الحبكة السريالية، الحبكة الرمزية، الحبكة الوجودية.
• الحبكة الدائرية في "ثالثًا وأخيرًا"، حيث الدورات الزمنية والفكرية تتداخل لتعيد الشخصيات إلى نفس النقطة. مع ذلك، هناك دائما محاولة للتحرك إلى الأمام في الصراع الشخصي والفكري، لكنها تبقى محاصرة في نفس الدائرة دون الخروج منها.
• حبكة النهايات المفتوحة كما في "نغم شريد"، التي تترك القارئ أمام تساؤلات مفتوحة، ما يدفعه للتأمل في مصير الشخصيات. وفي قصة نغم شريد نجد أن النهاية تترك القارئ مع مجموعة من الأسئلة والتفسيرات المحتملة التي تتعلق بماضي العجوز والمفارقة بين الظهور الخارجي والتاريخ الشخصي، كل هذه العناصر تجعل النهاية مفتوحة، حيث لا تقدم القصة خاتمة حاسمة بل تترك مجالًا للقارئ كي يفسر الأحداث بطريقته الخاصة.
خامسًا | المواضيع والأبعاد الفكرية
تتنوع المواضيع في "مذاقات مختلفة"، هذا التنوع في الطرح يجعل المجموعة غنية بالمضامين التي تتجاوز حدود القص التقليدي، مما يضفي عليها بعدًا إنسانيًا عالميًا، فرغم استلهامها من الثقافة التونسية، إلا أن معالجتها للأحداث تجعلها قريبة من أي قارئ، بغض النظر عن خلفيته الثقافية، من بين القضايا الكثيرة التي تناولتها المجموعة:
• الهوية والاغتراب: كيف يواجه الإنسان تحديات الانتماء والبحث عن الذات.
• الحب والخسارة: استكشاف العلاقات الإنسانية وتعقيداتها العاطفية.
• الصراع بين التقاليد والحداثة: نقد اجتماعي يُسلّط الضوء على التغيرات الثقافية في المجتمع.
• البعد الفلسفي: بعض القصص تطرح أسئلة وجودية حول الزمن، المصير، والمعنى.
سادسًا | التأثير العاطفي
قصص "مذاقات مختلفة" مشحونة بعواطف قوية تؤثر على القارئ، يشعر بنبض شخصياتها، ويجد صدى لمشاعره بين سطورها. هناك ذلك الحنين الدافئ، حيث تتجلى الذكريات كضوء خافت في آخر الممر، تستدعي لحظات مفقودة لكنها لا تزال نابضة بالحياة، وهناك الخيبة التي تتسلل بصمت، وتثقل القلب دون أن تبوح، وترسم على الوجوه ابتسامات متعبة.
الفقد في بعض القصص موجع، لكنه ليس مجرد وداع، بل حالة مستمرة من البحث عمّا كان، من جهة أخرى يتجلى الحب بأشكاله المختلفة، ويتشكل باللهفة والألم والحميمية.
أما الدهشة، فهي تأتي فجأة، تقلب الموازين، تفتح نوافذ جديدة للتأمل، تطرح أسئلة محيرة ومخيفة. كل هذه المشاعر لا تأتي بشكل مباشر، بل تتسلل عبر الحكايات، تكون خفية ومكبوتة أحيانًا، جارفة وجريئة أحيانًا أخرى، لكنها حقيقية، مؤثرة، وعميقة.
الخاتمة | لماذا قصص "مذاقات مختلفة" تجربة أدبية متميزة؟
تجمع هذه المجموعة بين الحداثة والعمق السردي، حيث تمتزج جمالية اللغة مع تقنيات السرد المبتكرة، لتقدم للقارئ تجربة أدبية ثرية فكريًا وعاطفيًا. الشخصيات الواقعية، الحبكات الذكية، والمواضيع العميقة تجعل من هذه المجموعة إضافة قيّمة للمشهد القصصي العربي الحديث.
تتميز القاصة بقدرتها على دفع القارئ إلى إعادة النظر في القضايا الحياتية، الاجتماعية، والنفسية من زوايا جديدة. تأثير هذا الانطباع يمكن أن يكون إيجابيًا أو محايدًا، ولكنه دائمًا يحمل عنصرًا من التفكير والتأمل في قضايا مثل العدالة، الهوية، أو الحرية، مما يتيح للقارئ استكشاف تلك القضايا من منظور جديد، ويترك لديه انطباعًا دالًا على فهم أعمق للأمور.
التوصية: أوصي بقراءة المجموعة القصصية " مذاقات مختلفة" للكاتبة لمياء نويرة بوكيل التي تميزت بأسلوب سردي فني عميق ومؤثر، حيث استطاعت القاصة أن تدمج بين الحرفية الأدبية وفن الطبخ الرمزي في سردها القصصي، ونجحت في خلط مكونات القصص بعناية فائقة، موازنة بين التفاصيل الدقيقة والتوقيت السردي، لتقدم للقارئ تجارب إنسانية غنية بالمعاني والتجارب الحسية.
#طارق_بنات (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟