صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8341 - 2025 / 5 / 13 - 10:21
المحور:
الادب والفن
مقامة المثقف :
يقول طارق حرب في مقابلة مع د . مجيد السامرائي : (( يكون الأنسان كاملا مثقفا , أذا كان أغريقي أي يوناني العلم , هندي البصيرة , شامي السيرة , صوفي النسك , مسيحي الطريقة , عبراني المنهج , عراقي الآداب , عربي الدين , فارسي النسب )) , ويبدو انه مشابه للأنسان الكامل عند اخوان الصفا : (( العالم الخبير الفاضل , الذكي المستبصر , الفارسي النسبة , العربي الدين , الحنفي المذهب , العراقي الآداب , العبراني المخبر , المسيحي المنهج , الشامي النسك , اليوناني العلوم , الهندي البصيرة , الصوفي السيرة )) , ونحن نعرف أنهم تأثروا بالفلسفة اليونانية والفارسية والهندية , وكانوا يأخذون من كل مذهب بطرف .
إخوان الصفا وخلّان الوفا , جماعة من فلاسفة المسلمين من أهل القرن الثالث الهجري/العاشر الميلادي في بصرة العراق , اتحدوا على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة في ذلك العهد , فكتبوا في ذلك خمسين مقالة سمّوها (( تحف إخوان الصفا )) , وهناك كتاب آخر ألّفه الحكيم المجريطي القرطبي المتوفّى سنة 395هـ وضعه على نمط تحفة إخوان الصفا وسمّاه (( رسائل إخوان الصفا )) , وقد أثّر فكر الإخوان في المذهب الإسماعيلي في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري , وكانت اهتمامات الجماعة متنوعة , تمتد من العلم والرياضيات والفلك إلى السياسة , وقاموا بكتابة فلسفتهم في اثنتين وخمسين رسالة مشهورة ذاع صيتها حتى في الأندلس , ويعدّ بعض المختصّين هذه الرسائل موسوعة للعلوم الفلسفية , كان الهدف المعلن من هذه الحركة (( التضافر للسعي إلى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهّر النفس )) , ومن الأسماء المشهورة في هذه الحركة أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي , وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني , ومحمد بن أحمد النهرجوري , والعوفي , وزيد بن رفاعة.
نحاول تحليل عناصر الكمال الثقافي في قول إخوان الصفا , وكشف دلالاتها في تشكيل صورة الإنسان المثالي عندهم , فالأغريقي العلم (يوناني العلم ) , جاء من مناقشة تقدير إخوان الصفا للعلوم والفلسفة اليونانية (المنطق, الرياضيات , الفلك , الطب ) ,وكيف رأوا في هذه العلوم أساسًا متينًا للتفكير العقلاني وفهم العالم , حيث اثربعض الفلاسفة اليونانيين في فكرهم (مثل فيثاغورس , أفلاطون , أرسطو) , أما ((هندي البصيرة )) , فأن لمفهوم (( البصيرة )) عند الإخوان علاقة بالحكمة الروحية والتأمل , بما يدعو للبحث عن أوجه التشابه المحتملة مع الفلسفات والأديان الهندية (مثل التأمل , الكشف الروحي ) , وقد يكون التركيز هنا على الجانب الحدسي والمعرفي العميق , و((شامي السيرة )) , مرتبط بتفسير معنى ((السيرة الشامية )) , وكيف يمكن أن تشير إلى الأخلاق الحميدة , الزهد , والورع الذي اشتهر به بعض المتصوفين والزهاد في منطقة الشام , وأرتباط هذا العنصر بالجوانب العملية والأخلاقية في حياة الإنسان الكامل .
أما (( صوفي النسك )) , فهو يؤكد على أهمية التصوف والزهد في رؤية الإخوان كطريق لتزكية النفس والارتقاء الروحي , وكيف يساهم النسك في تحرير الإنسان من قيود المادة والشهوات , و (( مسيحي الطريقة )) , فهو يناقش كيف يمكن أن تُفهم (( الطريقة المسيحية )) في هذا السياق , بالإشارة إلى قيم مثل المحبة , التسامح , والرحمة التي تُنسب إلى المسيحية , في جوانبها الأخلاقية والروحية المشتركة , و (( عبراني المنهج )) , الذي قد يشير إلى التركيز على الشريعة , والقانون الأخلاقي , والالتزام بالعهد مع الله كما يُفهم في التراث اليهودي , بما يمكن ربطه بالعنصر النظامي والانضباط الذاتي في حياة الإنسان , والقول (( عراقي الآداب )) , فهو يستعرض غنى وتنوع الآداب والعلوم في الحضارة العراقية القديمة (سومرية , بابلية , آشورية) وكذلك في العصر العباسي (الشعر, النثر, التاريخ , الجغرافيا ) , وكيف يساهم الإلمام بهذه الآداب في ثقافة الإنسان واتساع أفقه المعرفي .
بقي لدينا صفة (( عربي الدين )) , التي تؤكد على أهمية الدين الإسلامي كلبنة أساسية في هوية الإنسان الكامل عند الإخوان , وكيف يمثل هذا الدين الإطار الأخلاقي والقيمي الذي يوجه حياة الفرد والمجتمع , أما صفة (( فارسي النسب )) , فهم بذلك يشيرون الى الدور الذي لعبته الحضارة الفارسية في إثراء جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية ( الفنون , الأدب , الإدارة , العلوم ) , وكيف يمكن أن يساهم الوعي بهذا التراث في تكامل ثقافة الإنسان , فيالها من توليفة حضارية فريدة , تلخص رؤية فريدة تجمع بين عناصر ثقافية وحضارية متنوعة , ومن هنا تأتي أهمية إخوان الصفا ودورهم في إثراء الفكر الإسلامي في العصر العباسي.
عرِّفهم ابن تيمية بقوله : (( كانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنِّفة ’ جمعوا - بزعمهم - بين دين الصابئة المبدِّلين وبين الحنيفية , وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة , وفيه من الكفر والجهل شيء كثير)) , وقال الذهبي حين ترجم لأبي حامد الغزالي في كتاب السِّيَر: (( وحُبِّبَ إليه إدمان النظر في كتاب (رسائل إخوان الصفا) وهو داء عضال , وجَرَبٌ مُرْدٍ , وسُمٌّ قاتل , ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء لتَلَف )) , وهكذا نجد أن المبادئ العامة التي بنى عليها إخوان الصفا نظرياتهم مقتبَسة من الديانات المختلفة (موحِّدة ومجوسية) جاهدين في التوفيق بينها كلها , وقد انتهت بهم نزعتهم التلفيقية هذه إلى أن يَرَوا في جميع المذاهب الفلسفية والوثنية والموحدية مذهباً واحداً , يوفِّق بين جوهر الأديان , ولهذا قالوا: (( الرجل الكامل يكون فارسي النسب , عربي الدين , عراقي الأدب , عبراني المخبَر, مسيحي المنهج , شامي النسك , يوناني العلم , هندي البصيرة , صوفي السيرة , ملَكيَّ الأخلاق )) , وقالوا كذلك: (( ينبغي لإخواننا ألاَّ يعادوا عِلماً من العلوم أو يهجروا كتاباً من الكتب ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب , لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم كلها )) .
(( إذا نَظَرْتَ إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِكَ هَذِي *** تَغَرَّرْتَ مِنْهَا وَاسْتَهَانَتْكَ الْحِيَلُ
وَلَكِنْ إِذَا نَظَرْتَ بِعَيْنِ قَلْبِكَ يَا ذَا *** الْحِجَى رَأَيْتَ عَجَائِبًا لَيْسَ تُنَلُ )) .
صباح الزهيري .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟